الدرس الثالث: التوكل على الله

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

1-﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾.(الفرقان: 58)

2-﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.(الطلاق: 3)

3-﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.(آل عمران: 159)

التوكُّل

الأصل في التوكّل إظهار العجز والإعياء، والتوكّل على الله هو انقطاع العبد إليه في جميع ما يأمله من المخلوقين(1).

والتوكُّل على الله تعالى، هو سبيل الراشدين، وديدن العقلاء والمؤمنين، وهو الطريق الطبيعي المنطقي، باعتبار أنّ الله تعالى هو المتّصف بكلّ الصفات الكماليّة، فهو الخالق والعالم والقوي والغني.

وقيل: "لو أنّ رجلاً توكّل على الله بصدق النيّة لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم.."(2).

وعن رسول الله (ص): محذّراً من الإتِّكال على غير الله سبحانه: "لا تتّكل إلى غير الله فيكلك إليه"(3).

وعن لقمان الحكيم: "يا بُنيّ... ومن ذا الّذي توكّل على الله فوكله إلى غيره؟!"(4) .

وعنه أيضاً: "وعليك - يا بُنيّ - باليأس عمّا في أيدي الناس والوثوق بوعد الله، واسع فيما فُرض عليك، ودع السعي فيما ضمن لك، وتوكّل على الله في كلِّ أمورك يكفك"(5).

التوكّل والأسباب الطبيعيّة

هل أنّ الاعتماد على الله سبحانه يعني ترك الأسباب الطبيعيّة في الحياة؟ وهل يعني الانزواء عن الناس وتجنُّب الخوض في معترك الحياة، والاكتفاء بالتضرّع والدعاء؟

بالطبع لا، فإنّ هذا التفسير هو تواكل لا توكّل، وانّما التوكّل هو استسلام لله سبحانه واعتماد عليه لأنّ بيده كلّ الأمور.

وعلى الإنسان أن يسير وفقاً للأسباب الّتي وضعها الله سبحانه، ولكن مع هذا عليه أن يستشعر في نفسه أنّه ضعيف ولا استقلال له في إرادة أموره من دون الله، وأنّ الأسباب العاديّة باستقلالها لا تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد، بل عليه أن يلتجئ في أموره إلى الله تعالى، العالِم بكلّ تفاصيل الكون، المطّلع على عباده، مسبّب الأسباب، ومقلّب القلوب.

عن رسول الله (ص): ردّاً على سؤال: "يا رسول الله أعقلها(6) وأتوكّل، أو أُطلقها وأتوكّل؟ قال (ص): اعقلها وتوكّل"(7).

وعن الإمام الصادق (ع) قال: "لا تدع طلب الرزق من حلّه فإنّه عون لك على دينك واعقل راحلتك وتوكّل"(8).

اذهب أنت وربّك فقاتلا:

عندما خرج النبيّ موسى (ع) من الأرض المقدّسة، واجهته مهمّة إعداد قومه للدخول إليها مرّةً أخرى. فما كان منهم حين أمرهم بدخول الأرض المقدّسة إلّا أن قالوا:

﴿إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ*قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(9).

وأجاب المنطق اليهودي المتخاذل المشبع بالذلّ: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾(10) .

ويبدو أن غاية ما فهمه قوم موسى من التوكُّل هو ما يفهمه بعض الناس اليوم إلقاء الكلّ على الله تعالى، وتفويض الأمر إليه بالمعنى السلبيّ، بحيث يعيشون الاتّكال والقعود والكسل دون سعي نحو امتلاك أسباب القوّة والعمل والفعاليّة.

وهذا بخلاف المنطق القرآنيّ الّذي يقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾(11) .

معطيات التوكُّل وآثاره الإيجابيّة:

للتوكُّل على الله تعالى آثار إيجابيّة عديدة منها:

1- الاعتماد على الذّات والإقدام والقوّة:

بما أنّ المتوكِّل على الله يُعلِّق أمله بالقدرة المطلقة اللامتناهية، فإنّ أوّل أثر إيجابي يصيغه التوكُّل هو أن يثير في نفسه الشعور بالقوّة والنصر والتغلُّب على المحن والحوادث الكبيرة في حركة الحياة.

فعن رسول الله (ص): "من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله"(12).

وعن أمير المؤمنين (ع): "كيف أخاف وأنت أملي وكيف أضام وأنت متّكلي"(13).

وعنه (ع): "من توكَّل على الله لا يُغلب، ومن اعتصم بالله لا يُهزم"(14).

وعنه (ع): "أصل قوّة القلب التوكّل على الله"(15) .

2-الشعور بالعزّة والكرامة والغنى:

عن الإمام الصادق (ع): "إن الغنى والعزّ يجولان فإذا ظفر بموضع التوكُّل أوطنا"(16).

فمن يتوكّل على الله يكون قد هيّأ الأرضيّة واستعدّ لفيض الله سبحانه، فهو الغنيُّ الّذي يُعطي الغنى، وهو العزيز الّذي يُعطي العزّة، فيُعطيهما لمن توكّل عليه ولم يتوكّل على غيره.

3-يُساعد العقل على التفكير:

فإنّ التوكُّل على الله يزيد من ذكاء الإنسان وقدرة الذهن على التفكير، ويفتح آفاقه المعرفيّة، فيرى الأشياء بوضوح، لأنّ التوكُّل يُشعر الإنسان بالاطمئنان ويُبعد عنه القلق والاضطراب، ومع الطمأنينة النفسيّة يكون الحكم العقليّ الهادئ.

عن الأمير (ع): "من توكَّل على الله أضاءت له الشّبهات وكُفي المؤونات وأمن التبعات"(17).

4-الراحة والسرور:

عن الإمام عليّ (ع): "الاتّكال على الله أروح"(18).

وعنه (ع): "من وثق بالله أراه السرور... "(19).

وعنه (ع): "الثقة بالله أقوى أمل"(20) .

يقول الأمير (ع): "ليس لمتوكّل عناء"(21) .

6-الكفاية والرزق:

﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾(22) .

وعن رسول الله (ص): "من توكَّل على الله كفاه مؤنته ورزقه من حيث لا يحتسب"(23).

وعن أبي عبد الله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع): "كان فيما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بُنيّ، ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيّته في طلب الرزق، أنّ الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال، ضمن أمره، وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، إنّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة: أمّا أوّل ذلك فإنّه كان في رحم أمّه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حرٌّ ولا برد، ثمّ أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقاً من لبن أمّه، يكفيه به، ويُربّيه ويُنعشه، من غير حول به ولا قوّة.

ثمّ فُطم من ذلك، فأجرى له رزقاً من كسب أبويه، برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتّى أنّهما يؤثرانه على أنفسهما، في أحوال كثيرة، حتّى إذا كبر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظنٍّ ويقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بُنيّ"(24).

وممّا نظم في التوكّل

ما نُسب إلى الإمام عليّ (ع):

رضيت بما قسم الله لي وفوّضت أمري إلى خالقي

كما أحسن الله فيما مضى ك-ذل-ك يُحسن فيما بقي

وممّا نُسب إلى الإمام الحسين (ع):

إذا ما عضّك الدهر فلا تجنح إلى خلق ولا تسأل سوى الله تعالى قاسم ال-رزق

فلو عشت وطوّقت من الغرب إلى الشرق لما صادفت من يقدر أن يُسعد أو يُشقي

ويقول أحد الشعراء:

كن عن همومك معرضا *** وكل الأمور إلى القضا

فلربّ أمر مسخط *** لك في عواقبه رضا

ولربّما اتّسع المضيق *** وربّما ضاق الفضا

الله يفعل ما يشاء *** فلا تكن معترضا

الله عوّدك الجميل *** فقس على ما قد مضى


1- مجمع البحرين، ج4، ص546.

2- روضة الواعظين، ص 426.

3- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 689، ح2229.

4- بحار الأنوار، ج 13، ص 432، ح 24.

5- إرشاد القلوب، الديلمي، ص 73.

6- أي أعقل الناقة وأربطها.

7- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 685، ح 22277.

8- وسائل الشيعة، ج17، ص34، ح7.

9- سورة المائدة، الآيتان: 22 23.

10- سورة المائدة، الآية: 24.

11- سورة الأنفال، الآية: 60.

12- ميزان الحكمة، ج 10، ص 681، ح 22245.

13- بحار الأنوار، المجلسي، ج 19، ص 229.

14- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 4، ص 3659، ح 22547.

15- م . ن، ص 681، ح 22248.

16- بحار الأنوار، ج 68، ص 126.

17- شرح غرر الحكم، ج 5، ص 414، ح 8985.

18- ميزان الحكمة، ج 10، ص 682، ح 22257.

19- م . ن، ص 682، ح 22265.

20- ميزان الحكمة، ج 10، ص 682، ح 22264.

21- شرح غرر الحكم، ج 5، ص 72، 7451.

22- سورة الطلاق،الآية: 3.

23- ميزان الحكمة، ج 10، ص 683، ح 22267.

24- بحار الأنوار، ج 2، ص 155.