الدرس الثاني: الشرك الجلي والشرك الخفي

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

1-﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(لقمان:13).

2-﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًاِ﴾(النساء: 48).

3-﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًاِ﴾(النساء:116).

أنواع الشرك

الشرك له أشكال مختلفة:

لقد بدأ لقمان الحكيم وعظه لابنه بمسألة أساسيّة لانطلاق الإنسان نحو الكمال، وهي أنْ لا يُشرك بالله ووصفه بأنّه ظلمٌ عظيم: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.

والشرك له معانٍ وأشكال عديدة نذكر منها:

الشرك في الذّات، بأنّ يعتقد أنّ هناك إلهاً آخر مع الله جلّ وعلا.

الشرك في الصّفات، بأنْ يعتقد بأنّ صفات الله زائدة على الذات، وليست عين ذاته.

الشركُ في الربوبية، بأنْ يعتقد أنّ هناك شريكاً لله تعالى في حركة العالم، والحال أنّه تعالى هو مسبّب الأسباب وعلّة العلل، فلا مؤثّر في الوجود إلّا الله سبحانه. يقول تعالى: ﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾(1).

الشرك في التقنين والتشريع

يقول سبحانه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ﴾(2).

فلمّا ثبت أنّه سبحانه الخالق والمدبِّر، فليس لأحد غيره صلاحيّة التشريع والتقنين، فهو أعلم بما خلق، يعلم ما يصلحهم وما يفسدهم. فلا سهم لغيره في تدبير العالم العلويّ أو السفليّ كي يستطيع أنْ يضع قوانين منسجمة مع نظام التكوين.

فلا بُدَّ للمجتمع البشري من حكومة، لأنّ الحياة الاجتماعيّة تتطلّب ذلك، فلا يُمكن بدون حكومة أنْ تقسّم المسؤوليات، وتُنظّم المشاريع، ويُحال دون الظلم والتعدّي والتجاوز.

ومن جهة أخرى، يُقرِّر مبدأ الحريّة أن لا أحد له حقّ الحكومة على أحد، إلّا إذا سمح بذلك المالك الأصلي والحقيقي، وهو الله خالق كلّ شيء وربّ العالمين.

من هنا يرفض الإسلام كلّ حكومة لا تنتهي إلى الحكومة الإلهيّة، وهو أيضاً يرى شرعيّة الحكم للنبيّ (ص) وللأئمّة المعصومين عليهم السلام ثُمّ للفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

الشرك في العبادة:

فلا يجوز عبادة غير الله، ولا يستحقّ غيره ذلك، لأنّ العبادة يجب أن تكون لمن هو كمال مطلق. ومطلق الكمال، لمن هو غنيٌّ عن الآخرين، ولمن هو واهب النِّعم وخالق كلّ شيء، وهذه صفات لا تجتمع إلّا في ذات الله سبحانه.

والهدف الأصلي للعبادة هو الاقتراب من ذلك الكمال المطلق، والوجود اللامتناهي، هو السعي لإنارة النفس بقبسٍ من صفات كماله وجماله، وينتج عن ذلك الابتعاد عن الأهواء والشهوات الجامحة والاتّجاه نحو بناء النفس وتهذيبها وتكاملها.

الشرك الخفيّ، الرياء:

ومن الشرك الخفيّ الرياء، عن أبي عبد الله (ع): "كلّ رياء شرك، إنّه من عمل للنّاس كان ثوابه على النّاس، ومن عمل لله، كان ثوابه على الله"(3).

وعن الإمام الباقر (ع): كان فيما وعظ به لقمان ابنه أنْ قال: "يا بُنيّ، لا تُرِ الناس أنّك تخشى الله وقلبك فاجر"(4).

فكلُّ عملٍ صالح لا يُراد فيه الله تعالى فهو رياء، فالصلاة والصوم والزّكاة والحجّ والجهاد والأخلاق الحسنة والعقائد الحقّة والمواقف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة العادلة، ينبغي أنْ تكون لله ربِّ العالمين الكامل المطلق، لا للناس الضعفاء الّذين لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً.

وفي وصيّة لقمان لابنه، قال: "يا بُنيّ، إذا صُمت فاغسل وجهك، وادهن رأسك، وارفع صوتك في الملأ كي لا يعلموا أنّك صائم ولا تراءِ الناس بصومك وصلاتك فتهدِم بنيانك وتغُرّ غيرك فإنّ الّذي يعمل لله في السِّر يُجزيه في العلانية ويرفع درجاته في الآخرة والخلود في داره والنظر في وجهه ومرافقة أنبيائه"(5).

دقّة أمر الرياء

ربما الكثير منّا يعرف قبح الرياء ولكن قد يقع الكثير فيه وهو لا يشعر ولا يدري, لدقّة أمر الرياء وخفائه، فهو من الأمور النفسيّة الباطنيّة المتعلّقة بنيّة الإنسان وقلبه، لا يطّلع عليها إلّا الله سبحانه، ونحن نشير إلى بعض النماذج والأمثلة على دقّة أمر الرّياء:

في صلاة الجماعة:

قد يدخل الرياء إلى المأموم كأن يجلس رجل محترم ذو جاه في الصفِّ الأخير، وكأنّه يُريد أنْ يقول للحاضرين: إنّي بمقامي هذا قد أعرضت عن الدنيا وليس لدي هوى في النفس، فقد جئت وجلست في الصفِّ الأخير.

ولا يكتفي الشيطان بمن يصلّي جماعة، بل يأخذ بزمام بعض المصلّين المنفردين عن الجماعة، في زاوية المسجد، حيث يفرش سجّادته منفرداً، ويُصلّي في حضور الناس ويُطيل السجود والركوع والأذكار الطويلة، هذا الإنسان وكأنّه يُريد أنْ يقول للناس: "إنّني متديّن ومحتاط إلى درجة ترك صلاة الجماعة لكي لا أُبتلى بإمام غير جامع للشرائط".

وهذا الأخير مضافاً إلى أنّه مبتلى بوساوس الشيطان فقد أوقعه في مخالفة التكليف الشرعي وأبطل صلاته، لما يراه مراجعنا العظام أنّه إذا كانت هناك صلاة جماعة قائمة وصلّى منفرداً بشكل يُسيء بها إلى الإمام أو إلى الجماعة فصلاته باطلة.

صلاة الليل:

قد يتحدّث بعض الناس عن صلاة الليل أو يُكثر السؤال عن مسائل صلاة الليل، وكأنّه يُريد أن يُوحي إلى الناس بأنّه من أهل صلاة الليل.

الصدقة:

قد يُعطي بعض الناس الصدقة في الخفاء، ولكن يُحاول جهده أن يُظهر للناس أنّه تصدّق خفاءً، ليرى الناس فضيلته، مضاعفة، أي الصدقة وفي الخفاء.

علامات الرياء:

عن الإمام الصادق (ع): قال لقمان لابنه: "للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان الناس عنده، ويتعرّض في كلّ أمر للمحمدة"(6).

من علامات الإنسان المرائي أنّه يُشاهد في نفسه إعراضاً عن الطاعات عندما يكون وحده، وإذا تعبّد فمع كلفة أو من منطلق العادة من دون إقبال وتوجّه وخشوع، ولكن عندما يحضر في المحافل العامّة ينشط ويزداد إقبالاً وخشوعاً.

ثُمّ تراه يرغب في أنْ يمدحه الناس على كلِّ عمل عمله، فتجد أذنه متوجِّهة إلى ألسن الناس وقلبه عندهم، لكي يسمع من يمدحه، بقوله: ما أشدّ تديّن والتزام هذا الإنسان، إلى آخر لائحة المديح الّتي يطرب لها.

علاج الرياء

للرياء علاج علميّ وعمليّ:

أمّا العلميّ:

العلم بأنّ الله حاضر وأنّه أقرب إليك من حبل الوريد، وبهذا العلم تستحي إنْ عملت لغير الله الحاضر.

ومن الآيات الّتي تدلّ على حضور الله وعلمه بكلِّ شيء، قول لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾(7).

العلم بأنّ الله هو مالك القلوب، وليس رياؤك هو من يأخذ بالقلوب، بل الناس تمقت المرائي.

العلم بأنّ لا فائدة تُجنيها من حبِّ الناس الضعاف أو بغضهم، وهم لا يملكون شيئاً من دون الله تعالى، وأنت تقول في صلاتك "الله أكبر" فاعمل للأكبر لا للأصغر.

يقول الإمام الخميني رحمه الله: "إذاً أيُّها العزيز، اطلب السمعة والذكر الحسن من الله، التمس قلوب الناس من مالك القلوب، اعمل أنت لله وحده فستجد أنّ الله تعالى -فضلاً عن الكرامات الأخرويّة ونعم ذلك العالم- سيتفضّل عليك في هذا العالم نفسه بكرامات عديدة، فيجعلك محبوباً، ويُعظّم مكانتك في القلوب، ويجعلك مرفوع الرأس -وجيهاً- في كلتا الدّارين. ولكن إذا استطعت فخلّص قلبك بصورة كاملة بالمجاهدة والمشقّة، من هذا الحبّ أيضاً، وطهّر باطنك، كي يكون العمل خالصاً من هذه الجهة، ويتوجّه القلب إلى الله فقط، وتنصع الروح، وتزول أدران النفس... "(8).

الإلتفات إلى أنّ الله تعالى لا يقبل عمل المرائي. ففي الحديث القدسيّ "أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان خالصاً لي"(9). فلا ينال المرائي غير الخسران في الدنيا والآخرة.

وأمّا العمليّ:

فأن تحاول العبادة في السرّ، فإن أصبحت عبادتك في السرّ لا تختلف عن العلن بل أفضل، فهذا يُشير إلى أنّ عبادتك سليمة إنْ شاء الله.

وإنْ رأيت أنّ عبادة العلن لا تزال أفضل من السرّ، فهذا يُشير إلى خلل في عبادتك عليك إصلاحه بالاستمرار في العبادة سرّاً.


1- سورة الرعد، الآية:16.

2- سورة الأنعام، الآية: 57.

3- أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الرياء، ص 293، ح 3.

4- بحار الأنوار، ج 13، ص 418، ح 11.

5- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 85 86.

6- بحار الأنوار، ج 13، ص 415، ح 8.

7- سورة لقمان، الآية 16.

8- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، دار التعارف، ص 50.

9- الوسائل، ج 1، الباب 8، من أبواب مقدّمة العبادات، ص 44 ، ح 9.