الدرس الاول: هدفية الخلق

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

1-﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِين﴾(الأنبياء:16).

2- ﴿يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران:191).

3- ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون:115).

الكون مخلوق بحكمة ولهدف

إنّ من الضروري للمسلم أن يعرف أنّ هذا الكون لم يُخلق عبثاً ولهواً ولعباً بعيداً عن الحكمة، وهذا ظنُّ الّذين كفروا من الملحدين المادّيين، الّذين لا يعترفون بهدف للخلق؛ لأنّهم يعتقدون أنّ الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي الّتي ابتدأت الخلق، بصدفة عمياء، ولهذا فإنّهم يؤيّدون اللغويّة وعدم الفائدة في مجموعة الوجود.

فليس غريباً مع هذه النظرة العبثيّة أن يكون الغرب المادّيّ -الّذي لا إيمان له بوجود هدف وغاية من الخلق- مجتمعاً عبثيّاً لا همّ له إلّا الأكل والشرب واللهو واللعب واللغو والغناء والملذّات وإضاعة الوقت في الأمور غير المفيدة.

وهذه النظرة ليست جديدة بل لها جذور تاريخيّة، وقد كانت الجاهليّة الأولى تؤمن بهذه العبثيّة، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَ يَظُنُّونَ﴾(1).

نظرة الإسلام إلى الخلق

أمّا نظرة الإسلام إلى الخلق فهي ظاهرة من قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾(2).

وقوله سبحانه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾(3).

وقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾(4).

فما هو الهدف إذن من الخلق؟

الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق تعالى، فهو غنيٌّ عن خلقه، وإنّما يعود إلينا نحن المخلوقين الناقصين.

يُمكن القول إنّ الهدف من خلقنا هو تكاملنا وارتقاؤنا وذلك يحصل بمعرفتنا لخالقنا وبعبادته أي طاعته.

فبطاعته نتكامل ونسلك طريق الحكمة، وبعصيانه نتسافل إلى الحيوانيّة والشهوانيّة واللغويّة واللاهدفيّة.

يقول تعالى مشيراً إلى غاية خلق الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ﴾(5).

﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾(6).

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(7).

لغو الكفّار ولهوهم

وحيث كان الكفّار ينظرون إلى الدنيا نظرة عابثة لاغية لاهية انعكس ذلك على سلوكهم، فإنّهم يأخذون الأمور حتّى المهمّة منها -كمسألة الدّين المصيريّة- مأخذاً لهويّاً، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ﴾(8).

نُلاحظ في هذه الآيات أنّ الكافرين يتعاملون مع الدّين وهو مسألة مهمّة وخطيرة, لأنّه يمثِّل مصير الإنسان باستهزاء ولعب.

والهزو: هو الكلام المصحوب بحركات تُصوّر السخرية، ويُستخدم للاستخفاف والاستهانة.

واللعب: هو الّذي يصدر عبثاً وبدون هدف صحيح، أو خالياً من أيِّ هدف, وسُمّيت بعض أفعال الصبيان لعباً لنفس السبب.

يُنقل عن أبي جهل -رأس الكفر زمن رسول الله (ص)- أنّه كان يقف على قريش ويقول: أتُريدون أن أُطعمكم من الزّقوم الّذي يتهدّدنا به محمّد؟ ثمّ يبعث فيحضرون الزبد والتمر، فكان يقول: هذا هو الزّقوم، وبهذا الأسلوب كان يستهزأ بآيات الله، ويستهين بأمور الدّين الخطيرة.

يُروى عن لقمان الحكيم: "...وللغافل ثلاث علامات السهو، واللهو، والنسيان"(9).

ويُروى عنه محذّراً ابنه من مجالس اللهو وطالباً مجالسة أهل الحكمة والذكر: "اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإن تكن عالماً ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعلّ الله تعالى أن يظلّهم برحمة فيعمّك معهم"(10).

تصحيح رؤية الكفّار وتنبيه المؤمنين

ومن أجل أن يحوِّل القرآن أفكار الكفّار العبثيّة اللاغية من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع، يُبيّن لهم حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة الّتي لا يؤمنون بها، يقول سبحانه: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(11).

ومعنى اللهو: كلّ عمل يصرف الإنسان عن مسائل الحياة الأساسيّة. أمّا اللعب: فيطلق على الأعمال الّتي فيها نوع من النظم الخياليّ، والهدف الخياليّ، ففي اللعب مثلاً يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثالث قائداً للجيش، والرابع سارقاً، وبعد انتهاء اللعب المؤقّت يعود كلُّ شيء إلى مكانته.

ولا تنسَ نصيبك من الدنيا

ما مرّ من كلام قد يوحي لبعض الناس بأنّ حياة المؤمن قاتمة، سوداء، جادّة إلى أبعد الحدود، لا ترفيه، لا لعب، لا تسلية، لا سياحة، بل فقط عليه أن ينظر إلى ما وراء الدنيا، إلى الموت والقبر والقيامة والآخرة، ويترك الدنيا لأهلها ومحبّيها...

في الحقيقة ليس الأمر كذلك، فالإسلام دين يُحاكي فطرة الإنسان وطبيعته، ويُعطي لكلِّ شيء حقّه، فالإنسان ليس ملكاً من الملائكة بل فيه جنبة مادّيّة لا بدّ من مراعاتها، وإلّا إذا لم تُراعَ أدّت إلى ردّة فعل عكسيّة.

وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): "روّحوا قلوبكم فإنّها إذا أُكرهت عميت"(12).

وروي عنه أيضاً: "إنّ للقلوب شهوة وكراهة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من إقبالها وشهوتها فإنّ القلب إذا أُكره عمي"(13).

وعن رسول الله (ص): "ينبغي للعاقل إذا كان عاقلاً أن يكون له أربع ساعات من النهار: ساعة يُناجي فيها ربّه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يأتي أهل العلم الّذين يُبصّرونه في أمر دينه وينصحونه، وساعة يُخلّي بين نفسه ولذّتها من أمر الدنيا فيما يحلّ ويحمد"(14).

هذا وقد شاهدنا وسمعنا عن أناس كانوا ملتزمين بالإيمان إلّا أنّهم انقلبوا على أعقابهم, لأنّهم فهموا الدِّين أو أُفهموه بشكل قاتم سلبيّ، ممّا أدّى إلى ردّة فعل عكسيّة، فتركوا الالتزام والعمل الصالح.

اللهو الهادف

لقد مرّت معكم آيات عديدة تذمّ حالة اللهو اللاغي، وإليكم بعض الأحاديث الّتي تذمّ هذه الحالة الّتي تُنسي الإنسان مسؤوليّاته الجادّة، فعن أمير المؤمنين (ع): "اللهو من ثمار الجهل"(15). وعنه (ع): "المؤمن يعاف اللهو ويألف الجدّ"(16) "لا يُفلح من وَلِه باللعب واستهتر باللهو والطرب"(17).

وفي المقابل هناك أحاديث تُشير إلى نماذج من اللهو الهادف الّذي يُرفِّه الإنسان المؤمن به عن نفسه، وإليكم بعضها.

عن رسول الله (ص): "عليكم بالرمي فإنّه خير لهوكم"(18).

وعنه (ص): "من ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنّها نعمة كفرها"(19).

إذن على الإنسان المؤمن أن يكون جادّاً حكيماً في الحياة، ولكن لا يعني ذلك ترك الدنيا وإعمارِها وبنائِها.

وننهي كلامنا بدعاءٍ للإمام زين العابدين (ع): "إلهي أشكو إليك نفساً بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة...، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسّها الشرُّ تجزع، وإن مسّها الخير تمنع، ميّالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو... "(20).


1- سورة الجاثية، الآية: 24.

2- سورة الأنبياء، الآيات: 16- 17- 18.

3- سورة المؤمنون، الآية: 115.

4- سورة القيامة، الآية: 36.

5- سورة الذاريات، الآية: 56.

6- سورة الطلاق، الآية: 12.

7- سورة الملك، الآية: 2.

8- سورة المائدة، الآيتان: 57- 58.

9- بحار الأنوار، ج 13، ص 415، كتاب النبوّة، ح 8.

10- الكافي، ج1، ص39، ح1.

11- سورة العنكبوت، الآية: 64.

12- عوالي اللآلي، ج 3، ص 111.

13- غرر الحكم، ج 1، ص 24.

14- بحار الأنوار، ج 1، ص 131.

15- غرر الحكم، ج 1، ص 314.

16- م. ن، ج 1، ص 314.

17- م. ن، ج 1، ص 314.

18- ميزان الحكمة، ج 4، ص 124.

19- م. ن، ج 4، ص 1120.

20- الصحيفة السجاديّة، مناجاة الشاكين.