الدرس التاسع: الرسم القرآني وأسراره (1)

قال الله تبارك وتعالى: ﴿حم*وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(1).

أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بلسان العرب لأنّ كل نبيّ أنزل كتابه بلسان قومه، والقرآن الكريم ليس أمراً ونهياً وكلمات ومعاني فقط، بل ورسماً أيضاً، وليس المقصود منه نوعيّة خطّ الكتابة سواء نسخٌ أو كوفّي أو غيره، فقط أجمع معظم العلماء أنّ رسم المصحف هو توقيفيّ، كما أمر به رسول الله (ص) لا يجوز مخالفته، واستدلّوا على ذلك من قول سبحانه تعالى:

﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾(2).

كلّما نزل شيء من القرآن أمرهم (ص) بكتابته، وقد بالغ في تسجيله وتقييده حتّى نزل قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾(3)، ولم يخالف أحد في هذا الرسم.

وذكر العلامة ابن المبارك نقلاً عن العارف بالله شيخه عبد العزيز الدباغ، إذ يقول في كتابه (وما للصحابة ولا غيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة، وإنّما هو توقيف من النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وهو الذي أمرهم أنّ يكتبوه على هذه الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول، وهو سرّ من الأسرار خصّ الله تعالى به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماويّة، وكما أنّ نظم القرآن معجز وإنّه لمّا يطمئنّ له القلب ويرتاح له الفكر أنّ رسول الله (ص) أملى كتابة الرسم القرآنيّ على كتاب الوحي حسب الرسم المنزل عليه، والذي نزل به الروح الأمين جبريل (ع).

فمن المعلوم أنّ للقرآن الكريم منهجاً خاصّاً في الكتابة، يختلف نوعاً ما عن الكتابة التي ألفها الناس.

وقد قسم العلماء الرسم الكتابيّ -الخطّ الإملائيّ- إلى قسمين رئيسين، الأوّل أطلقوا عليه اسم الرسم القياسيّ، ويقصدون به كتابة الكلمة كما تلفظ، مع الأخذ بعين الاعتبار حالتي الإبتداء بها والوقوف عليها.

أمّا القسم الثاني فأطلقوا عليه أسم الرسم التوفيقيّ، ويقصدون به الرسم العثمانيّ، إذ هو الرسم الذي كتبت به المصاحف.

وقد صنّف العلماء في هذا المجال ما عرف ب- "علم الرسم القرآنيّ" ووضعوا كتباً خاصّة في هذا الموضوع، منها على سبيل المثال لا الحصر، كتاب " المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار" لأبي عمرو الداني، وكتاب "التنزيل" لأبي داود سليمان نجاح.

وكما أشرنا بداية، فإنّ الرسم العثمانيّ خالف الرسم القياسيّ من بعض الوجوه، أهمّها خمسة وجوه، نذكرها فيما يأتي مع التمثيل لها:

الوجه الأول:الحذف:

وهو كثير، ويقع في حذف الألف، والواو، والياء.

فمن أمثلة حذف الألف، قوله تعالى: ﴿الْعَلَمِينَ﴾حيث حذفت الألف بعد العين، وقد كتبت كذلك في جميع مواضعها في القرآن، والأصل في كتابتها حسب الرسم الإملائيّ (العالمين).

ومن أمثلة حذف الواو، قوله تعالى: ﴿وَالْغَاوُونَ﴾(4)، وقد وردت في موضعين من القرآن، والأصل فيها (الغاوون).

ومن أمثلة حذف الياء، قوله تعالى: ﴿النَّبِيِّينَ﴾(5)، وقد وردت كذلك في جميع مواضعها في القرآن، وعدد مواضعها ثلاثة عشر موضعاً، والأصل في كتابتها (النبيّين).

ومن وجوه حذف الأحرف أيضاً، حذف اللام والميم، فمثال حذف اللام في قوله تعالى: ﴿اللَّيْلِ﴾(6)، وقد كتبت كذلك في جميع مواضعها، وعددها ثلاثة وسبعون موضعاً، والأصل فيها (الليل).

ومثال حذف النون قوله تعالى: ﴿نُنجِي﴾ (7)، وهو الموضع الوحيد في القرآن، الذي حذفت فيه النون من ثلاثة مواضع وردت فيه الكلمة، والأصل في رسمها (ننجي).

1- كلمة "اسم":

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ (8)، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (9).

لماذا وردت كلمة (بسم) في الحالات الأولى مقصورة بدون ألف ووردت في الحالات الأخرى كلمة (باسم) كاملة بدون قصر؟

إنّ حذف الألف من كلمة (بسم) والتي جاء بعدها لفظ الجلالة (الله) يدلّ ويوحي بأنّه يجب علينا الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وإقامة الصلة معه بأقصر الطرق وأسرع الوسائل، وهو ما يدلّ عليه ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ﴾ (10).

وإنّ حذف حرف من الكلمة يضغط مبناها ويسرع من واقعها، فتؤدّي المعنى المطلوب، وهو السرعة على خير وجه، وهذا إعجاز القرآن الكريم والرسم القرآنيّ...

2- كلمة (سموات - سماوات).

وردت كلمة (سموات) بهذا الرسم بدون ألف صريحة 189 مرّة في القرآن الكريم... ووردت مرّة واحدة فقط بألفٍ صريحة بعد حرف (و) بالرسم القرآنيّ (سموات) وذلك في الآية الكريمة ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (11).

3- كلمة (الميعاد - الميعد).

وردت كلمة (الميعاد) وذلك بألف صريحة في وسط الكلمة 5 مرّات في القرآن الكريم... وكلّها تتكلّم عن الميعاد الذي وعده الله سبحانه وتعالى.. لذلك جاء الميعاد واضحاً وصريحاً ولا ريب فيه.. ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (12)، وقد وردت مرة واحدة دون ألف صريحة ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ (13).

4- كلمة (سعوا - سعو).

وردت سعوا بشكلها العادي مرّة واحدة، ووردت (سعو) ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾(14) بشكلها غير العادي بدون ألف في آخرها مرّة واحدة أيضاً في القرآن الكريم، وتوحي كلمة (سعو) بنقص الألف في أخرها وهذا يدل على أنّ السعي سريع جداً، ولكنّه نشاط، وهو حسب الآية الكريمة سعي في إنكار آيات الله، وهو ما جلب على الكافرين عذاب من رجز أليم في الدنيا، بالإضافة إلى عذاب جهنّم في الآخرة... ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾(15).

5- كلمة (صحب - صاحب).

في الآية 34 من سورة الكهف يقول القرآن الكريم على لسان مالك الجنّتين: بألف متروكة لتبيّن ما كان يظنه مالك الجنّتين من أنّ صاحبه ملتصق به التصاقاً كاملاً سواء في الرفقة أو الإيمان..

﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ (16).

غير أنّ الردّ يأتيه من صاحبه المؤمن في الآية 37 من نفس سورة الكهف: وهذا يبيّن جزءاً من الحكمة في كتابة الكلمة القرآنيّة باستخدام الألف الصريحة، والمدّ بالألف المتروكة كما سبق وأوضحنا ذلك. قال الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف الآية 37: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ (17).

6- حذف حرف الواو من بعض الأفعال.

ورد في كتاب (مناهل العرفان) للزرقاني: أنّه تمّ كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:

(ويدعو الإنسان- ويمحو الله الباطل- يوم يدعو الداع- سندع الزبانية) ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.

قالوا: والسرّ في حذفها من ﴿وَيَدعُ الإِنسَانُ﴾ (18) هو الدلالة على أنّ هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير..

والسرّ في حذفها من ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾(19) الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله..

والسرّ في حذفها من ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾(20) الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين..

والسرّ في حذفها من ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾(21) الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش... ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي: (والسرّ في حذفها سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدّة قبول المنفعل المتأثّر به في الوجود).

7- كلمة (وسئل - فسئل).

ورد في القرآن الكريم كلّه فعل الأمر من (سأل) ناقصاً حرف(أ) في البداية، ونذكر فيما يلي نماذجاً من الآيات الكريمة التي ورد فيها هذا الفعل:

قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾(22).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ﴾(23)، ويدل حذف (أ) من مبنى الكلمة الأصليّة وهو أسئل أو (إسأل) على أنّ الكلمة القرآنيّة في رسمها تعبّر عن المعنى أصدق تعبير، إذ أنّ السؤال دائماً يأتي في عجلة وسرعة، فقلما ينتظر الإنسان وهو دائماً يريد سرعة الإجابة... لذلك جاءت كلمة (سئل) في فعل الأمر ناقصة حرفاً لتحض على سرعة السؤال انتظاراً لسرعة الإجابة.

وكما ذكرنا فإنّ نقص مبنى الكلمة يدل على العجلة والسرعة وعدم الصبر...

8- كلمة (أيد - أييد).

وردت كلمة (أيد) وهي جمع (يد) مرّتين في القرآن الكريم بهذا الرسم العاديّ، وذلك في الآيتين التاليتين: قال الله عزّ وجلّ ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾(24).

غير أنّها وردت مرّة واحدة برسم مختلف يزيد حرف (ي) في منتصفها، وذلك في الآية الكريمة الآتية: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾(25).

فإنّ زيادة حرف (ي) في كلمة (أيد) يوضح قوّة وشدّة السماء ومتانة سمكها وبنائها...


1- الزخرف: 1- 2- 3.

2- النجم: 3- 4- 5.

3- القيامة: 16- 17- 18.

4- الشعراء:94.

5- البقرة: 61.

6- آل عمران: 190.

7- الأنبياء: 88.

8- الواقعة: 95- 96.

9- العلق: 1.

10- يوسف: 42.

11- فصلت: 12.

12- آل عمران: 9.

13- الأنفال: 42.

14- سبأ: 5.

15- الحج: 51.

16- الكهف: 34.

17- الكهف: 37.

18- الاسراء: 11.

19- الشورى: 24.

20- القمر: 6.

21- العلق: 18.

22- يوسف: 82.

23- النحل:43.

24- ص: 17.

25- الذاريات: 47.