الدرس الثامن: الإيمان الحقيقي

﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(1) .

القصة

منّ الله على نبيه يوسف (ع) بأن أنجاه من البئر بعد أن ابتلاه الله عز وجل بأخوته الذين أرادوا التخلص منه، ولكن الله عز وجل كتب على أنبيائه البلاء امتحاناً منه لهم ولرفع درجتهم، والبلاء الذي يبتلي الله به عباده الصالحين على أنواع كثيرة منها ما ابتلى به يوسف من زوجة عزيز مصر.

فقد اشترى عزيز مصر يوسف وهو فتى لم يبلغ الحلم وأعجب بالفتى فطلب من زوجته أن تكرم هذا الفتى وكان ممن حرمه الله نعمة الولد. وهذه نعمة أراد الله عز وجل أن يعوّض فيها ليوسف ما ابتلاه به مما فعله إخوته معه لما وجده صابراً.

وكبر يوسف وأصبح شاباً قوياً ووهبه الله جمالاً فاق به الناس من حوله، وكانت زوجة العزيز أكثر الناس تعلقاً به، وتحركت بها الغريزة وتاقت نفسها إلى يوسف. وهيأت الظروف من إغلاق الأبواب والدعوة الصريحة والملحة، إنها امرأة عزيزة في قومها صاحبة مقام ورفعة تطلب من يوسف الشاب في مقتبل العمر أن يراودها وهذا من أشد ما وقع من البلاء على يوسف، ولكن ماذا فعل يوسف؟ لقد رفض ذلك وبشدة. وبماذا برر يوسف رفضه لقد قال:(معاذ الله!) انه الخوف من الله عزّ وجلّ، لا من أي شيء آخر. ولما نجح يوسف في هذا الاختبار أراد الله أن يجزيه هذا النجاح إنها شهادة البراءة ليوسف تأتيه سريعاً ودون مقدمات، إنّه شاهد من أهلها (امرأة العزيز) يعطي دليلاً واضحاً على براءة يوسف، إنّه قميص يوسف، فإن كانت المحاولة منه نحوها فهذا يعني أن القميص لا بد وأن يكون ممزقا ًمن الأمام لأنها ستدافع عن نفسها منه، وإن كانت المحاولة منها فهذا يعني أن القميص لا بد وأن يكون ممزقاً من الخلف لأنها هي التي ستلحق به وتمزق قميصه وهو ما كان فعلاً.

ولكن ليست النهاية هنا، لقد جمعت نسوة من المدينة وهيأت الظروف كأنها أرادت أن تبرر لنفسها ما قامت به أمام هؤلاء النسوة، وعاد الاختبار ثانية ليوسف، ولكنه اختبار عظيم إنها أكثر من دعوة تدعوه لمعصية الله، انه الشيطان يستخدم كل ما لديه من حيل ليوقع بيوسف ولكن ما هو ردّ نبي الله، إنّه بصراحة ووضوح (السجن أحب إليّ).

الدروس المستفادة من هذه القصة

رأى برهان ربه فقال: معاذ الله

ذكر العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان أن المراد من برهان ربه:نوع من العلم المكشوف واليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا(2).

إن الكثير من الناس يعرف أن هذا الفعل معصية وانه يحرم عليه ارتكاب المعصية ولكنه مع ذلك يقدم عليها، وهذا ما ورد فيه قوله تعالى ﴿أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾(3)، ولكن من الناس من يعرف المعصية ولا يقدم عليها لأن علمه يختلف عن علم ذاك، انه العلم الذي يشكل رادعا له عن ارتكاب المعصية أو حتى التفكير بها.

أما كيف يصل الإنسان إلى هذا العلم، يصل إليه من خلال تربية النفس، وهو ما ورد عن رسوله الله (ص) انه الجهاد الأكبر.

فالإنسان المربي لنفسه والذي تمكن من الانتصار عليها هو الذي يستطيع أن يقول معاذ الله، متى كان في موقف كموقف يوسف.

وأما كيف يمكن للإنسان أن يربي هذه النفس فهذا ما ذكره علماء الأخلاق، ومما ذكروه إن هذه التقوى تحصل من الالتزام بأوامر الله عز وجل ونواهيه.

السجن أحبّ إلي

كل إنسان معرض في هذه الدنيا أن يقف في لحظة ما وفي موقع ما بين خيارين: الآخرة والدنيا، فهو إما أن يختار الآخرة وهذا قد يعني أن يتحمل العذاب والحرمان في هذه الدنيا، أو أن يختار الدنيا وفي هذا خسارة الآخرة.

وقد ورد عن رسول الله (ص):"من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه بين عينيه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله".

ولكن اختيار الإنسان للآخرة على الدنيا لا يكون على حد واحد، فمن الناس من يختار الآخرة ولكنه يختارها وهو فعلاً محب لهذه الدنيا، أي وهو يعيش حالة من الأسف على هذه الدنيا. ولكن العارف الحقيقي الذي وصل إلى اليقين في قلبه بأن هذه الدنيا مصيرها الفناء والزوال وأن الآخرة هي الحياة الدائمة السرمدية فإن موقفه سوف يكون موقف يوسف(ع) الذي تلخصه جملة واحدة قالها(ع):"السجن أحب إلي"، أي ليست المسألة اختيار وتفضيل فقط. بل هذا العذاب الدنيوي أحب إليه من أن يقع في العذاب الأخروي ومعصية الله عز وجل.

وعن الإمام الباقر(ع):"إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير، والله يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء مع من أحب"(4).

وقد تجلى موقف يوسف هذا (اختيار الآخرة على الدنيا) في موقف الحر بن يزيد الرياحي في معركة كربلاء حيث قال: "إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا اختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وحرقت".

خلاصة الدرس

1- إن الرادع الحقيقي عن المعصية ليس هو مجرد العلم بكون الفعل معصية بل هو الإيمان القلبي والتقوى.

2- إن اليقين والإيمان لا يحصل لهذا الإنسان إلا عبر جهاد النفس وتربيتها على مخالفة الهوى.

3- تربية النفس هي التي تجعل الإنسان صاحب إرادة حقيقية في اختيار الآخرة على الدنيا، وان ترتب على ذلك التعب والحرمان في الدنيا، وذلك انطلاقاً من كون الدنيا مصيرها الزوال لا البقاء وكون الآخرة هي الحياة الأبدية.

أسئلة حول الدرس

1 ? لماذا رفض يوسف(ع) طلب امرأة العزيز؟

2 ? كيف يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة يواجه من خلالها هذه التحديات؟

3 ? هل كانت طاعة يوسف مع التأسف على ما فاته من الدنيا، أم مع حبّه لذلك؟ استدل من القرآن الكريم.

للمطالعة

ذُكرت وجوه لتفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أن رَّأى بُرْهَانَ رَبِّه﴾، نذكر هنا وجهين منها:

1 - إن امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطرا مع يوسف، وبذلت وسعها في ذلك، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشرا شابا لم يتزوج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسية وجها لوجه... لولا أن رأى برهان الله... أي روح الإيمان والتقوى وتربية النفس، أضف إلى كل ذلك مقام العصمة الذي كان حائلاً دون هذا العمل! فعلى هذا يكون الفرق بين معاني «همّ» أي القصد من امرأة العزيز، والقصد من قبل يوسف، هو أن يوسف كان يتوقف قصده على شرط لم يتحقق، أي (عدم وجود برهان ربه) ولكن القصد من امرأة العزيز كان مطلقاً، ولأنها لم يكن لديها مثل هذا المقام من التقوى والعفة، فإنها صمّمت على هذا القصد حتى آخر مرحلة، وإلى أن اصطدمت جبهتها بالصخرة الصماء!

الطريف أن التفسير الأول نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في عبارة موجزة جداً وقصيرة، حيث يسأله المأمون(الخليفة العباسي) قائلاً: ألا تقولون إن الأنبياء معصومون؟ فقال الإمام:«بلى». فقال: فما تفسير هذه الآية ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أن رَّأى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾؟ فقال الإمام (ع):"لقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت، لكنه كان معصوماً والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه"فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.

2 - إن تصميم كل من امرأة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي، بل كان تصميما على ضرب أحدهما الآخر.. فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم انتصارها في عشقها وبروز روح الانتقام فيها ثأراً لهذا العشق. وتصميم يوسف كان دفاعاً عن نفسه، وعدم التسليم لطلب تلك المرأة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 7 ص 182 (بتصرف).

للحفظ

راودته: المراودة: طلب الأمر برفق ولين.

وغلّقت: التغليق: إطباق الباب بنحو لا يتيسر فتحه.

هيت: أقبل.

وقدّت: شقته طولا.

وألفيا: وجدا.

شغفها: شغل باطنها.

وأعتدت: أعدّت.

متكأ: ما يعتمد عليه عند الجلوس.

فاستعصم: امتنع.


1- يوسف: 23-34.

2- الطباطبائي - محمد حسين - الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص 129.

3- الجاثية:23.

4- الكليني، الكافي، ج2، ص126.