سورة النحل
(1): ﴿أَتَى أَمْرُ اللّهِ﴾: وهو وقت الحساب وجزاء الأعمال، ووضع الفعل الماضي وهو أتى مكان الفعل المضارع لأنه واقع لا محالة، وكل آت قريب ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ﴾: إشارة إلى قول الجاحدين بالبعث وعقابه: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين-70 الأعراف).
(2): ﴿يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾: المراد بالروح هنا الوحي، لأنه للنفوس تمامًا كالأرواح للأبدان، ومثله ما جاء في الآية 52 من الشورى: (وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب والإيمان) ﴿أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ﴾: هذا هو الأصل الأصيل لدعوة الأنبياء بالكامل: آمنوا بالله الواحد الأحد واتقوا معصيته وعقوبته.
(3): ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ...﴾: واضح وتقدم في العديد من الآيات، وآخرها الآية 85 من الحجر واتقوا معصيته وعقوبته.
(4): ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾: أول الإنسان نطفة وآخره جيفة، وهو ما بين ذلك ضعيف تؤلمه البقة، وتقتله الشرقه، وتنتنه العرقة، كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع) ومع هذا يجادل في الله والحق بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
(5): ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ﴾: في القرآن الكريم براهين وآيات متنوعة على وجود الله، منها أن وجوده تعالى مستقر في كيان الإنسان وفطرته حتى في كيان الذين لا يؤمنون إلا بما يرون ويسمعون، والدليل على ذلك أنهم يلجأون إلى الله تلقائيًا إذا ضاقت بهم مسالك النجاة بعد أن فروا منه، ومن هذا الباب الآية 22 من يونس: (وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض). ومن البراهين على وجوده تعالى الآيات الكونية والمصنوعات الطبيعية. ومنها التذكير بآلاء الله ونعمائه كالآيات التي نحن بصددها ﴿فِيهَا﴾: أي في الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم ﴿دِفْءٌ﴾: والمراد به اتقاء البرد بما يصنع من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها ﴿وَمَنَافِعُ﴾: بنسلها ودرها وركوبها وإثارة الأرض- أي حرثها- . ﴿وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾: اللحم المذكى.
(6): ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ﴾: حسن المنظر ﴿حِينَ تُرِيحُونَ﴾: حين رجوعها عشيًا من المرعى إلى المأوى ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾: تبعثونها صباحًا من المراح إلى المرعى.
(7): ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾: والأثقال تشمل كل ما يمكن نقله من زاد وسلعة ومتاع ﴿إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ﴾: وأيضًا السفر ونقل الأمتعة على الإبل والدواب تستدعيه الكثير من المشاق. بخاصة إذا كان الطريق على الصحراء... ولكن لا وسيلة للنقل أيام زمان إلا الأنعام، وبدونها لا تستقيم الحياة، وكان الناس يدركون هذه النعمة وعظمتها، ولذا امتن سبحانه بها عليهم، وفضل الله على إنسان القرن العشرين أجل وأعظم حيث مهد له السبيل لصنع السيارة والطائرة وغيرها لما وهبه من عقل وطاقات، يكتشف بها العناصر والأسرار التي أودعها سبحانه فيما خلق وصنع من أشياء الكون والطبيعة.
(8): ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾: بعد أن أشار سبحانه إلى منافع الأنعام الثلاث: الإبل والبقر والغنم، أشار إلى منافع الخيل والبغال والحمير، وأهمها الركوب والزينة في ذاك العصر ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: لله مخلوقات لا يحيط العقل بعلمها، وكذلك آلاؤه ونعمه، لا عدّ لهذه ولا حدّ لتلك، والعلّة واضحة، وهي قدرته التي توجد الشيء من لا شيء دون أن تستعين بشيء.
(9): ﴿وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾: أي عليه سبحانه البيان الواضح المقنع بطبعه الذي يميز الخبيث من الطيب والحلال من الحرام والخطأ من الصواب ﴿وَمِنْهَا جَآئِرٌ﴾: ضمير منها يعود إلى السبيل، لأنه هذه الكلمة تذكر وتؤنث، وهي نوعان: مادية كالسبيل إلى السوق والمدرسة، ومعنوية كالآراء والمعتقدات، ومنها ما هو مستقيم كالإسلام، ومنها ما هو معوج كغيره، وإلى الرأي والدين المائل المعوج أشار سبحانه بكلمة جائر ﴿وَلَوْ شَاء﴾: أن يلجئ ويقهر ﴿لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾: ولكنه ترك الإنسان وما يختار حرصًا على حريته وإنسانيته، وتقدم في الآية 118 من هود.
(10): ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ﴾: عذب فرات لا محل أجاج ﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾: كل ما قام على ساق من نبات الأرض فهو شجر وتسيمون: ترعون فيه مواشيكم.
(11): ﴿يُنبِتُ لَكُم بِهِ...﴾: أنبت سبحانه بالماء كل ما يأكله الإنسان والحيوان من حب وخضار وربيع وثمار. وتقدم في الآية32 من إبراهيم و22 من الحجر.
(12): ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ...: تقدم في الآية 2 من الرعد و33 من إبراهيم.
(13): ﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ﴾: سخر سبحانه لنا ما أ,دعه في الأرض من معادن جامدة ومائعة ونبات وغير ذلك.
(14): ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ...﴾: نأكل منه السمك ونستخرج منه الجواهر وتمخر أي السفن الماء يمينًا وشمالا... إلى غير ذلك من المنافع والفوائد ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾: ولا تكفرون بالله، وتتخذون من دونه أشباهًا وأندادًا، وأنتم تتمتعون بخيره وفضله.
(15): ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾: تقدم في الآية19 من الحجر ﴿وَأَنْهَارًا﴾: أي وجعل سبحانه في الأرض أنهارًا ينبع الواحد منها من بلد، ويجري في أرض العديد من البلاد يمينًا وشمالا وشرقًا وغربًا رزقًا للعباد والدواب والأنعام ﴿وَسُبُلاً﴾: طرقًا واضحة سالكة إلى ما تقصدون.
(16): ﴿وَعَلامَاتٍ﴾: كالجبال والوديان والتلال ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾: إذا سافروا في الليل برًا وبحرًا.
(17): ﴿أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ﴾: هذا إشكال وإفهام بالحجة لا سؤال واستفهام ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾: وتميزون بين الخالق والمخلوق.
(18) ? (19): ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾: تقدم بالحرف الواحد في الآية 34 من إبراهيم ﴿إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: يتجاوز ويعفو عن كثير.
(20): ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾: من شأن المعبود أن يكون خالقًا لا مخلوقًا، ولكن المشركين يتركون الخالق، ويعبدون المخلوق.
(21): ﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء﴾: الأصنام لا جماد لا حياة فيها، فكيف تكون آلهة؟ ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾: قال بعض المفسرين ما يشعرون يعود للأصنام، وضمير أين يبعثون للمشركين. وفي رأينا أن الضميرين يعودان إلى الأصنام، على أن يكون معنى أيان يبعثون لا يبعثون إطلاقًا، وما من شك أن الحي الذي يموت ثم يبعث أحسن حالًا من الذي لا حياة فيه ولا بعث له.
(22): ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾: ولكن أرباب الأهواء يرفضون ذلك ويقولون: أجعل الآلهة إله واحدًا إن هذا لشيء عجاب ﴿فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾: تنكر الوحيد، وتشمئز من ذكره كما جاء في الآية 45 من الزمر(وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة) ولا بشيء على الإطلاق إلا بالربح والمنفعة في الحياة الدنيا ولا يعملون إلا لها ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾: عن الحق عتوًا وعنادًا.
(23): ﴿لاَ جَرَمَ﴾: حقًا أو ما من شك ﴿أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾: ويعاملهم بما يستحقون ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾: الذين يستنكفون عن التسليم بالحق والخضوع له.
(24): ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾: إذا سألهم سائل عن القرآن الكريم نعتوه بما في عقولهم من جهل وسفه وما في نفوسهم من لؤم وحسد. وفي المقابل إذا سئل المتقون عن القرآن قالوا هو خير بما فيه هداية وأحكام وآداب وثواب للذين أحسنوا في هذه الدنيا ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين كما يأتي في الآية 30 من هذه السورة.
(25): ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً﴾: الأوزار: الجرائم والآثام، وكاملة: يحكم عليهم بأشد العقوبات التي يستحقونها بلا تخفيف ورحمة ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: يؤخذ هؤلاء بعذابين لا بعذاب واحد: الأول. على بغيهم وضلالهم والثاني على إضلالهم وإغوائهم الآخرين التابعين ﴿أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾: حيث أضافوا وزرًا إلى زور، وحملوا ثقلا على ثقل.
(26): ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ...﴾: حاول الطغاة أن تكون كلمتهم هي العليا، وتحصنوا بالقلاع وخطوط الدفاع! ولكن الله سبحانه أتى عليها من الأساس، وهذا هو مصير كل طاغ وباغ.
(27): ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ﴾: بأنواع العذاب وأشدها ﴿وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ﴾: بالحق وعملوا به: ﴿إِنَّ الْخِزْيَ﴾: الذل والفضيحة ﴿الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ﴾: التنكيل والعذاب ﴿عَلَى الْكَافِرِينَ﴾: بالله والحق والإنسانية.
(28) ? (29): ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾: بمعصيتهم لله وعدوانهم على عباده وعياله ﴿فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ﴾: استسلموا حيث لا سبيل للنفاق ولا للفرار ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾: أي ما كنا نعتقد أنا ضالون مضلون ﴿بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: لا تعتذروا إن الله يعلم المفسد من المصلح.
(30): ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا...﴾: بعد الإشارة إلى الأشقياء المجرمين الذين وصفوا القرآن بالخرافة والأساطير ? أشار سبحانه إلى الأتقياء المنصفين وأنهم إذا سئلوا عن القرآن ذكروه بكل تقديس وتعظيم... وليس الإنصاف وقفًا على المسلمين، فكل من تحرر من الهوى والتعصب، وفهم القرآن على حقيقته، يقول: هو خير للناس وصلاح بهديه وتعاليمه.
(31): ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ...﴾: ملك دائم ونعيم قائم لمن أصلح وأحسن عملًا ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ﴾: لأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى.
(32): ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ﴾: أي راضين مرضيين حيث تقول لهم الملائكة فيما تقول: سلام عليكم لا تخافوا ولا تحزنوا، أدخلوا الجنة بما كنتم تعملون.
(33) ? (34): ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾: تقدم بالحرف الواحد في الآية 158 من الأنعام ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ...﴾: لج وتمادى في البغي والضلال أسلاف هؤلاء وأشباههم، فدارت دائرة السوء على رؤوسهم، وهذي هي بالذات عاقبة الأنداد والأمثال لأن الأشياء المتماثلة تؤدي حتمًا إلى نتائج متماثلة.
(35): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ...﴾: وهكذا المجرم والمقصر يلقي المسؤولية على القضاء والقدر أو على الآخرين أو على الزمان أو الصدفة!. وتقدم في الآية 148 من الأنعام ﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾: إن الله سبحانه لا يتدخل في أفعال العباد بإرادته الشخصية التكوينية، بل يشرع ويبلغ بلسان رسله، وقد بلغوا وأنكروا على المتمردين المعاندين أشد الإنكار، فأعترضوا وسخروا، فحقت عليهم كلمة العذاب.
(36): ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾: تدل هذه الآية بوضوح أن الله سبحانه قد أرسل رسولًا لكل أمة في كل قرن وإلى كل قطر، وهذا ما يقتضيه العدل، ويحكم به العقل، حيث لا عقاب بلا تكليف وبيان، وليس من الضروري أن يكون هذا الرسول نبيًا، له تاريخ مذكور وأثر مشهور، فقد يكون عالمًا بدين الله أو عقلًا خالصًا من الشوائب ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ﴾: وهو الذي سلك طريق الهدى والتقى (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا- 5 الطلاق) ﴿وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾: وهو الذي سلك طريق الضلال، وأسرف في الفساد (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب-28 غافر).
(37): ﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ﴾: لقد جاهدت يا محمد، وحرصت كل الحرص على هداية الناس بعامة وقومك بخاصة، ولكن مجرد الحرص ليس سببًا لوجود الهداية، وإنما السبب الأول هو رغبة الإنسان في الهدى وتحرره من الهوى ﴿فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ﴾: وهو مصر على الضلالة ﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾: إلا الندم والتوبة قبل فوات الأوان.
(38): ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ﴾: ولا دليل على هذا النفي إلا الاستبعاد والشك، والشك عند العلماء باعث وسبب للبحث والتنقيب لا للنفي بلسان الجزم ﴿بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾: لا مفر منه لأسباب، منها:
(39): ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾: اختلف الناس في ربهم وأنبيائهم وفي عاداتهم وآرائهم وفي العديد من الأشياء، ولابد من الحكم والفصل بين المحق والمبطل والطيب والخبيث، ويوم القيامة هو يوم الحساب بالحق والعدل حيث لا حجج زائفة ولا أعذار كاذبة. ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ﴾: في قسمهم: لا يبعث من يموت، ويقولوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، وهذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
(40): ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾: تمامًا بدأ الخلق بهذه الكلمة وبها يعيده، وتقدم في الآية 117 من البقرة وغيرها.
(41) ? (42): ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ...﴾ : وتصدق هذه الآية على الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة والمدينة المنورة، وأيضًا تشمل الذين شردوا عن ديارهم وأموالهم قسرًا وعدوانًا.
(43): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ﴾: قالوا المعاندون لمحمد: أنت بشر، والله فوق البشر باعترافك، ومن كان فوق الناس لا يختار رسولا منهم، فإذن ما أن لله برسول! هذا هو منطق الشيطان وحزبه، فأبطل بحانه وعمهم بأن جميع أنبياء الله ورسله كانوا رجالا من أهل الأرض وملائكة من أهل السماء. هذا، إلى أن رسالة محمد (ص) هي بذاتها تدل على أنها لسان الله وبيانه، وهل من ذي لب عليهم وسليم يجرأ على القول بأن القرآن ينطق عن محمد لا عن الله؟ ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾: قال جماعة كثر من المفسرين: إن المراد بالسؤال هنا سؤال خاص ومعين بدلالة سياق الآية، وهو هل أرسل الله إلى الأمم السابقة بشرًا أو ملائكة؟ وعليه يتعين أن يكون المراد بأهل الذكر المسؤولين هم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وفي تفسير ابن كثير القرشي: (أن محمدًا الباقر قال: نحن أهل الذكر. وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة).
(44): ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾: متعلق بأرسلنا: والبينات: الحجج والدلائل، والزبر: الكتب ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿الذِّكْرَ﴾: القرآن ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾: هذه هي مهمة الأنبياء أن ينقلوا عن الله لعباده حرامه وحلاله وثوابه وعقابه، لا أن يتنبأ كل نبي ويجتهد طبقًا لمزاجه وخياله وإلا كان الأنبياء تمامًا كأبي حنيفة والمالكي والشافعي وغيرهم من أئمة المذاهب, وبهذا يتبين الخطأ في قول من قال من علماء السنة: يجوز للنبي أن يجتهد فيما لا نص فيه.
(45) ? (46): ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ﴾: قال المفسرون: المراد بالماكرين هنا مشركو مكة ، لأنهم ألبوا على النبي (ص) وتآمروا على قتله ﴿أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ﴾: فتبتلعهم أحياء كما فعل سبحانه بقارون ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾: يهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ﴾: في أسفارهم وحال اشتغالهم في أمورهم الخاصة والعامة.
(47): ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾: أي وهم خائفون يترقبون أن يحل بهم هذا العذاب ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾: لا يجعل العقوبة لمن يستحقها، بل يمهل ويفتح باب التوبة، ويقول: من دخله كان آمنًا.
(48): ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ﴾: قد يقال: وأي عجب أن يكون للشيء ظل وفيء مادام هناك شمس وأرض تدور حولها؟ الجواب: ليس القصد من ذلك مجرد الإخبار بأن لكل جسم ظلًا كي يكون تحصيلًا للحاصل وكتفسير الماء بالماء، وإنما القصد التنبيه إلى نظام الكون بأسره، وأنه تعالى أتقن كل شيء من خلقه ووضعه في فلكه تمامًا كما قال: الرجل المناسب في المكان المناسب، وضرب مثلا لذلك بالظل، وأنه لو لم تكن الشمس في فلكها والأرض في مكانها ما كان لكل جسم ظل، وكذلك سائر المخلوقات، وكل في فلك يسبحون ﴿سُجَّدًا لِلّهِ﴾: أي كل الكائنات تخضع لتدبير الله، وتنطق بكماله وجلاله وبالغ قدرته وحكمته ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾: أي منقادون صاغرون ولمناسبة الإشارة إلى الفيء ننقل هذه الكلمات من دعاء للإمام زين العابدين وسيد الساجدين (ع) (سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور، سبحانك تعلم وزن الفيء والهواء) فمن أين جاءه هذا العلم يومذاك إذا لم يكن عن أبيه عن جده عن جبريل عن الباري؟.
(49) ? (50): ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ...﴾: قال الإمام الصادق (ع): (السجود على نوعين: إرادي وطبيعي) والأول سجود العقلاء، والثاني سجود سائر الموجودات بمعنى أنها في قبضة الله، وتدل على قدرته وعظمته من باب دلالة المصنوع على الصانع. وتقدم في الآية13 وما بعدها من الرعد.
(51) - (52): ﴿وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ﴾: قال الإمام علي (ع) في وصيته لولده الحسن (ع) : (لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد) وتقدم في الآية171 من النساء و73 من المائدة ﴿وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا﴾: المراد بالدين هنا الطاعة، وبالواصب الدائم، والمعنى تجب طاعة الله في كل شيء، ومن أطاعة في الصوم والصلاة، وعصاه عند بروق المطامع فما هو من دين الله في شيء ﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ﴾: وترجون أن يحقق ما في نفوسكم من ميول ورغبات.
(53) - (54): ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ﴾: مالا كانت أو ولدًا أو جاهًا أو عافية ﴿فَمِنَ اللّهِ﴾: لا من سواه، فكيف تلجأون وتتذللون إلى مخلوق مثلكم طمعًا بما في يده ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾: ترفعون أصواتكم مستغيثين بالله أن يكشف عنكم الضر علمًا منكم بأنه تعالى وهو وحده الذي يدفعه ويزيله. وهنا مكان الغرابة: تلجأون إلى الله مضطرين، وتبتعدون عن طاعته مختارين! وتقدم في الآية 12 من يونس.
(55): ﴿لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾: المراد بالكفر هنا كفران النعمة وجحودها، واللام في ليكفروا للعاقبة، والمعنى أن الله أنعم عليهم بالكثير، فكانت عاقبة الحسنى كفرًا لا شكرًا ﴿فَتَمَتَّعُواْ﴾: بما أنعم الله عليكم واعملوا ما شئتم ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾: عاقبتكم الوخيمة، وتندمون حيث لا ينفع الندم.
(56): ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾: يشير سبحانه بهذا إلى الجاهلية المشركة وأن أهلها كانوا يعبدون الأصنام، ويجعلون لها نصيبًا في أموالهم، وتقدم في الآية 136 من الأنعام.
(57): ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ﴾: قالوا: الملائكة إناث وهن بنات الله، فنسبوا إليه أخس القسمين من الأولاد، أما القسم الأفضل الذين يحبون وهو الذكور فنسبوه لأنفسهم كما في الآية 22 من النجم: (ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى).
(58): ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾: كناية عن الهم والكآبة ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾: ممتلئ بالغيظ، ولكن يتجرعه ولا يظهره.
(59): ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾: حتى كأنه ارتكب أبشع الأفعال وفكر: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ﴾: هل يبقي المولود المشؤوم صابرًا على المذلة والمهانة ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾: حيًا كما كانوا يصنعون في الجاهلية.
(60): ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾: أي الوصف القبيح كقتل الأطفال وغيرهم من الأبرياء والسلب والنهب والسفه والجهل ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾: أي الوصف العلي العظيم. وتجدر الإشارة أن القصد من ذكره تعالى مع ذكر هؤلاء الرد على قولهم: لله البنات ولهم البنون.
(61): ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ﴾: اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، ولو كان الجزاء منه تعالى في دار الدنيا لكانت الآخرة لزوم ما لا يلزم، إضافة إلى أن الخضوع خوفًا من السيف المشهور فوق الرأس، لا يعد طاعة ومنقبة ﴿وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾: لتظهر أفعالهم التي يستحقون عليها الثواب والعقاب بعد تراكم الأدلة وتكرارها وقيام الحجة ولزومها وفتح باب التوبة بمصراعيه ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ...﴾: واضح، وتقدم في الآية 34 من الأعراف و49 من يونس.
(62): ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾: لأنفسهم من البنات والشركاء في السيادة والرياسة ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ﴾: ومنه إدعائهم ﴿أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى﴾: العاقبة الحسنة، فرد سبحانه هذا الإدعاء الباطل بقوله: ﴿لاَ جَرَمَ﴾: لا شك فيه ﴿أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ﴾: وبئس القرار ﴿وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ﴾: بفتح الراء مع تخفيفها من الفرط بمعنى السبق لا من الإفراط. بمعنى التجاوز، والمعنى أنهم السابقون إلى النار.
(63): ﴿تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾: رسلا ﴿إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ﴾: يا محمد فلم يستجيبوا لرسلهم، بل قاسوا منهم ألوانًا من الأذى ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾: فاستمعوا له وأطاعوه، وعصوا الرسل كما عصاك وآذاك مشركوا قريش، فهون عليك ولا تحزن، فإن لك أسوه بإخوانك النبيين.
(64): ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾: تشير هذه الآية إلى أن الله سبحانه أنزل القرآن على محمد (ص) لغايات 3. الأولى: أن يرد إليه كل قضية دينية يختلف فيها اثنان. الثانية: أن يهدي به من ضل سواء السبيل. الثالثة: أن شريعة القرآن عدل ورحمة للعالمين، لأن أحكامها بالكامل تهدف إلى جلب المصلحة ودرء المفسدة، فما من شيء فيه خير وصلاح إلا وأمرت به وجوبًا أو ندبًا، وما من شيء فيه شر وفساد إلا ونهت عنه تحريمًا لا كراهة.
(65): ﴿وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء...﴾: كلنا يعلم أنه لا حياة بلا ماء، ولكن القرآن يذكر بنعم الله وإفضاله من له أذن تسمع وقلب يخشع، وتقدم في العديد من الآيات منها الآية 22 و 164 من البقرة.
(66): ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ﴾: الإبل والبقر والغنم ﴿لَعِبْرَةً﴾: دلالة على قدرة الخالق وحكمته ﴿نُّسْقِيكُم مِّمَّا﴾: من هنا للتبعيض أي من بعض الأنعام وهو الإناث لأن الذكور لا لبن فيها ﴿فِي بُطُونِهِ﴾: يعود الضمير إلى بعض الأنعام ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾: والفرث ما يبقى في الكرش بعد الهضم، ويقول العارفون: إذا هضمت معدة الحيوان الغذاء طردت الفضلات الضارة إلى الخارج، وتمتص العصارة النافعة، فتتحول إلى دم يسري في العروق والغدد التي في ضرع الأنثى، ويصبح لبنًا خالصًا من رائحة الفرث والدم ولونهما وطعمهما.
(67): ﴿وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾: الظاهر من كلمة السكر الشراب المسكر خمرًا كان أو غيره، ولا تومئ هذه الآية من قريب أو بعيد إلى تحليل المسكر أو تحريمه، وإنما حكت عن عادة الناس وأنهم يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب شرابًا مسكرًا، أم الرزق الحسن فالمراد به التمر والرطب والزبيب والعنب وما إلى ذلك، وتحدثنا عن حكم الخمر في القرآن والإسلام عند تفسير الآية 219 من سورة البقرة، وفي الجزء الرابع من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق(ع) باب الأطعمة والأشربة.
(68): ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾: المراد بالوحي هنا الغريزة، لأن الحيوان لا يفكر ويخطط بعقل بل بغريزة تقوده آليًا وتلقائيًا إلى ما يطر إليه في حياته وبقائه تمامًا كالكون تسيره وتتحكم به النواميس الطبيعية التي أودعها الله فيه ﴿أنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾: قال الرازي: (النحل نوعان: نوع يسكن في الجبال والغياض ? أي مجتمع الشجر- ولا يتعهده أحد، وهو المراد بقوله تعالى: أن إتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر، ونوع يسكن بيوت الناس، ويكون في تعهدهم وهو المراد بقوله: (ومما يعرشون).
(69): ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾: الطيبة اليانعة ﴿فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً﴾: سيري أنى تشائين، فكل الطرق سالكة أمامك ومذللة ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾: بياضًا وحمره وصفره تبعًا للمرعى ﴿فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ﴾: من بعض الأمراض كفقر الدم وسوء الهضم والتهاب الفم وغير ذلك.
(70): ﴿وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ﴾: كل فرد من أفراد الإنسان كان في طي العدم والكتمان ثم أنشأه الله حيًا يقاسي عذاب النزع والإحتضار من ولادته إلى ساعة أجله، فيعود إلى عالم العدم من هذه الدنيا كأن لم يكن شيء ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾: ضعيف في الجسم، وقلة في العلم، وخرف في العقل، وسوء في الحفظ، وفوق ذلك علل وأسقام أشكال وألوان حتى كرهه وجوده وضاق به أهله، ومل ممرضه.
(71): ﴿وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ﴾: هذا مجرد تعبير وحكاية عما هو الواقع بالفعل تمامًا كما لو قال: بعض الناس أغنياء وبعضهم فقراء، وأسند الرزق إلى مشيئته تعالى لأنه جرى على الأسباب التي تنتهي إليه (وخلق كل شيء فقدره تقديرا-2 الفرقان) أي بنظام وحكمة وفي الآية 20 من الشورى ربط سبحانه رزق الدنيا والآخرة بإرادة الإنسان: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) وفي الآية 18 و19من الإسراء: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ... ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا) وأخيرًا نكرر ونؤكد لا طبقات في الإسلام على أساس الجاه والمال والأنساب ﴿فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ﴾: وهم الأغنياء ﴿بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾: على مماليكهم وعبيدهم ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاء﴾: أي لا يرضي الأغنياء بالمساواة بينهم وبين العبيد في الأموال، والآية بجملتها رد على المشركين الذين جعلوا لله أندادًا وأشباهًا من خلقه، ووجه الرد أن هؤلاء لا يرضون بحال أن يشاركهم في أموالهم أحد من عبيدهم، فكيف يرضى سبحانه بالمساواة بينه وبين عبيده في الألوهية والكمال والجلال؟ وهل شأن الله تعالى دون شأنكم أيها المشركون؟ وبكلمة هل لكم شركاء من عبيدكم فيما تملكون حتى نسبتم إلى الله شركاء من عبيده فيما خلق.
(72): ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾: من جنسكم لا من جنس آخر، كي يتم الإنس والمشاركة في الحياة الزوجية بين الزوجين... هذا ما يجب أو ينبغي أن يكون، أما ما هو كائن بالفعل فمطلب آخر... ويستحيل أن تتآلف الأخلاق والأرواح إلا إذا تعارفت، وتعاطفت كما في الحديث الشريف ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾: أولا أولاد، كان أكثرهم من قبل نعمة، أما بعد (الخنافس والمنيجوب) فالكثير منهم نقمة. وفي سفينة البحار للقمي حديث طويل عن الذين يأتون في آخر الزمان، جاء فيه: (فعند ذلك حلت العزوبة، قالوا يا رسول الله أمرتنا بالتزويج، قال: بلى ولكن إذا كان ذلك الزمان فهلاك الرجل على يد زوجته وولده... يكلفونه ما لا يطيق حتى يوردوه موارد الهلكة) ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: مطعمًا ومشربًا، إضافة إلى الأزواج والأولاد وغير ذلك من المستلذات.
(73): ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ...﴾: تقدم في الآية 18 من يونس.
(74): ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾: لا تجعلوا لله أمثالا وأشباهًا في الخلق والالوهية.
(75): ﴿ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ﴾: هذا مثل للأصنام التي يصنعها الوثنيون بأيديهم ثم يعبدونها! أنها تمامًا كالعبد المملوك الذي لا يرجى خيرا، ولا يخشى شره، بل أسوأ منه وأضعف ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا﴾: هذا مثل لحر غني قوي وكريم، يتصرف في نفسه وماله كيف يشاء ﴿هَلْ يَسْتَوُونَ﴾: الحر القادر والعبد العاجز، وإذا رفضت الفطرة والبديهة هذه المساواة، فكيف صح في أفهام الوثنيين أن يساووا بين الخالق الرازق وبين وثنهم الذي تبول عليه القطط والكلاب؟ وكل دين أو فكر أو مبدأ إذا لم يتجاوب مع الحياة ومطالبها، ولم يحررها من الفاقة والحاجة، ويعبر بها إلى الحرية والكرامة فهو جهالة وضلالة.
(76): ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ﴾: هذا مثل آخر لعبادة لأصنام بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، وشبهها هنا بالأبكم والكل في قوله ﴿أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ﴾: أخرس لا يفهم ولا يفهم ﴿لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ﴾: ثقل وعيال ﴿عَلَى مَوْلاهُ﴾: الذي يعيله ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾: عجزًا وقصورًا لا تهاونًا وتقصيرًا ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: هل يستوي الأخرس الكل العاجز الذي لا يقدر على شيء هو والقادر على كل شيء والحكيم العادل الذي أعطى كل شيء خلقه وحقه؟ فكيف ساويتم أيها الوثنيون في العبادة بين الله تعالى الجامع لصفات الكمال والجلال وبين أصنام صم بكم؟ وجاء في التفسير المسمى بالتسهيل لمحمد بن أحمد الكلبي (أن الرجل أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر).
(77): ﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ﴾: يوم القيامة ﴿إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾: بيان لقدرته تعالى، وأن إعادة الخلق بعد فنائه أيسر عنده من رد الطرف عندنا.
(78): ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ...﴾: لا أحد يشك ويناقش في أن الإنسان يخرج من بطن أمه صحيفة بيضاء خالية من كل صورة ورسم إلا من الهداية لاجترار الغذاء من الثدي، وإن ما الخلاف بين الفلاسفة في أن المبادئ العقلية هل هي بالكامل وليدة الحس والتجربة أو أن بعضها وليد الفطرة يدركها العقل تلقائيًا بلا دليل ومقدمات كمبدأ الذاتية الذي يقول: إن الشيء هو عين ذاته، ولا يمكن أن يكون شيئًا آخر، وبعضها كسبي لا يدرك إلا بدليل؟ وأكثر العلماء والفلاسفة على هذا الرأي، وهو الحق وإلا لم تكن لدينا قضايا يقينية على الإطلاق لأن القضية اليقينية لابد وأن تستند إلى البديهية مباشرة أو بالواسطة. وفي أية حال فإن مصدر المعرفة الفطرية والنظرية لا يتجاوز ﴿الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾: الله على هذه النعم.
(79): ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ﴾: المراد بمسخرات مهيئات للطيران، وبالإمساك عدم السقوط على الأرض، ومن الواضح أن الله يجري الأمور على أسبابها، ويسندها إليه لأنه سبب الأسباب، وقد اشتهر على الألسنة: إذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابة وعليه يكون المعنى أن الله خلق للطير جناحين وزوده بكل معدات الطيران وأدوات.
(80): ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾: فهل أوجد سبحانه السكن بيده أو أرسل لبنائه ملائكة السماء أو قال له كن فكان، كلا وإنما وهبنا العقل وأرشدنا إلى طريق العلم وقال: (واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم) ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ﴾: تستخفونها: خفيفة الحمل، والظعن: السفر، والإقامة المكث واللبث، والبيوت بشتى أنواعها نعمة من الله على عباده، لا يعرف قدرها إلا الذين لا بيوت لهم، ولحصانة البيوت واحترامها أحكام خاصة في كتب الفقه الإسلامي ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾: الصوف من الغنم، والوبر من الإبل، والشعر من المعز، والأثاث محتويات البيت، والمتاع كل ما ينتفع به سوى الذهب والفضة و(إلا حين) إشارة إلى أن الدنيا بالكامل لا قرار لها ولا دوام.
(81) ? (82): ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً﴾: جمع ظل، يقي من حر الشمس ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا﴾: حصونًا ومعاقل ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ﴾: قمصانًا ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾: والبرد أيضًا، وحدث هذا لدلالة ذاك عليه ﴿وَسَرَابِيلَ﴾: دروعًا ﴿تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾: عند الطعن والضرب ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾: أي تستسلمون للحق وتؤمنون بالله، وقد يظن أن الله سبحانه دعا إلى الإيمان به عن طريق العقل فقط بالنظر إلى الكون وما خلق من شيء مع العلم بأنا نقرأ في القرآن الكريم- إلى جانب الآيات العقلية الكونية- آيات من نوع آخر، تحرك الإنسان وتؤثر به تأثيرًا أبلغ وأعمق من تأثير العقل ومنطقه. وهي الآيات التي خاطبت العاطفة والمنفعة الشخصية الشرعية، وما أكثرها في كتاب الله، ومنها قوله تعالى: (يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) وقوله: (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) إلى غير ذلك مما سبق و يأتي.
(83): ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾: المراد بمعرفتهم نعمة الله أنهم يمتعون بها، وبإنكارهم إياها أنهم لا يؤدون حقها من الشكر ويحمدون الواهب على جوده وعطائه.
(84): ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا﴾: هذا دليل آخر على أن لكل أمة نبيًا أو إمامًا أو عالمًا بدين الله، وأنه يشهد عليها بما أجابت وفعلت حين أبلغها رسالة الله سبحانه وبشّر وأنذر ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: بالرد والإعتذار بعد أن قامت الحجة عليهم بشهادة الرسول ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾: لا يطلب من الطغاة والعصاة أن يسترضوا الله سبحانه بالتوبة والاستغفار حيث لا عمل واسترضاء في يوم القيامة، بل حساب وجزاء.
(85): ﴿وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾: الظالم المعتدي على حقوق الآخرين لا ظلم عليه يوم القيامة، بل يأخذه الله بظلمه وكفى من غير زيادة، وأيضًا لا يرحمه ويلطف به بتخفيف العذاب ونقصانه، ورحمته تعالى وإن اتسعت لكل شيء، فإنها تضيق بالظالم لعباده وعياله، وليس عندي في ذلك أدنى ريب ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾: بل يسرعون إلى جهنم، فتستقبلهم بسعيرها وزفيرها.
(86): ﴿وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ﴾: وهم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، وتدل هذه الآية أن معبود المشرك يحشر معه يوم القيامة حتى ولو كان حجرًا تأكيدًا للحجة عليه، وعن الإمام الباقر عليه السلام: لو أحبنا حجر حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحب ﴿قَالُواْ﴾: أي المشركون ﴿رَبَّنَا هَـؤُلاء﴾: إشارة إلى الشركاء المعبودين: ﴿شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ﴾: ليس هذا مجرد إعتراف بالخطأ بل وأنهم لا يسمعون ولا يعقلون كما في الآية 10 من الملك: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ﴾: أنطق الله سبحانه الآلهة المزعومة وقالت: أيها المشركون ﴿إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾: ومفترون في جعلنا شركاء لله.
(87): ﴿وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾: استسلم العابد الجاهل والمعبود الزائف لحكم الله وعذابه.
(88): ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾: عذابًا على كفرهم وضلالهم، وعذابًا على إفسادهم في الأرض وإضلالهم الناس عن الحق واتباعه. وتقدم في الآية 25 من هذه السورة.
(89): ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾: تقدم في الآية 84 من هذه السورة وأعاد الآن تهديدًا للذين كذبوا محمدًا ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَـؤُلاء﴾: الخطاب لمحمد (ص) وهؤلاء إشارة إلى من حرف وزيف من أمته ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾: في الجزء الأول من أصول الكافي أن الإمام الصادق (ع) قال: (ما خلق الله حلالًا ولا حرامًا إلا وله حد... حتى ارشي الخدش) وأن الإمام الباقر (ع) قال لأصحابه: (إذا حدثتكم بشيء فاسئلوني أين هو من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: نهى رسول الله (ص) عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال. فقيل له: أين هذا من كتاب الله؟ فقال: إن الله عز وجل قال:( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس 114 النساء... وقال: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا- 5 النساء-. وقال: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم- 101 المائدة). والآية الأولى نهت عن القيل والقال، والثانية عن فساد المال، والثالثة عن كثرة السؤال.
(90): ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى﴾: أمر سبحانه في هذه الآية بثلاث خصال حميدة: العدل وهو الإنصاف، والإحسان وهو التفضل لوجه البر والإحسان. وسئل الإمام علي (أيهما أفضل: العدل أو الجود؟ فقال: العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها- أي يتجاوز بالأشياء إلى جهة الإحسان- العدل سائس عام (أي نظام عام لا تستقيم الحياة بدونه) والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما)، والخصلة الثالثة إيتاء ذي القربى وهو من مظاهر الإحسان ولكنه أعلاها، ولذا خصه سبحانه بالذكر ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾: ونهى سبحانه عن ثلاث خصال قبيحة: الفحشاء، وأفحش الفحش الزنا لأنه في الآخرة بين يدي عذاب شديد، وفي الدنيا عار على الزاني والزانية وعلى أولادها وأمها وأبيها، والمنكر: كل ماينكره العقل والشرع، والبغي: العدوان على حق من حقوق الناس، وهو أكبر الكبائر وتصدق عليه كلمة الفحشاء والمنكر والإثم. وأيضًا الكفر، قال سبحانه: (فأبي الظالمون إلا كفورًا-99 الإسراء) وتجمع هذه الآية أمهات الفضائل قال عثمان بن مضعون: أسلمت استحياء من رسول الله، وما قر الإسلام في قلبي حتى نزلت هذه الآية: (إن الله يأمر بالعدل...).
(91): ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾: وكل من آمن بالله فقد أعطاه عهدًا أن يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، ومن يعص الله في شيء فهو من الناكثين النابذين لعهد الله تعالى ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾: الأيمان جمع يمين وتوكيدها: عقدها ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾: رقيبًا ومتكفلا بالوفاء.
(92): ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا﴾: شبهة سبحانه ناقض العهد والأيمان بالحمقاء التي تنقض الغزل بعد إبرامه ﴿تَتَّخِذُونَ﴾: أي أتتخذون ﴿أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً﴾: غدرًا ومكرًا ﴿بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى﴾: أكبر قوى ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾: كانت القبيلة في الجاهلية تحالف أخرى، فإذا جاءتها قبيلة أقوى منها غدرت بها، وحالفت الثانية، فنهى سبحانه عن هذا وأنكره ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ﴾: ضمير به يعود إلى أمر الله بالوفاء، والمعنى أنه تعالى يأمر العباد بالخير، وينهاهم عن الشر ليتميز المطيع من العاصي والطيب من الخبيث.
(93): ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ﴾: بالقسر والإلجاء ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: ولكنه ترك الإنسان و ما يختار ليتحمل مسؤولية عمله. وتقدم في الآية 48 من المائدة و118 من هود ﴿وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾: المراد بالضلال هنا العذاب على المعصية، وبالهدى الثواب على الطاعة بقرينة قوله تعالى بلا فاصل: ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: وتقدم مرارًا أن الله لا يحكم بالضلال إلا على من ضل ولا بالهدى إلا على من اهتدى: (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها-108 يونس).
(94): ﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾: تقدم قبل لحظة في آية 92، وكرر سبحانه ليهدد الماكر الغادر بقوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾: أي يرجع المرء عن الحق والعهد الذي التزم به، إلى النكث والباطل، وتستعمل هذه الكلمة في الذي استقام على الحق ثم حاد عنه ﴿وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ﴾: العذاب ﴿بِمَا صَدَدتُّمْ﴾: أعرضتم وانصرفتم ﴿عَن سَبِيلِ اْللهِ﴾.
(95): ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾: لا تؤثروا منافعكم الخاصة على الحق، ولا تعتاضوا عنه أي ثمن، فإن متاع الدنيا قليل، والآخرة خير وأبقى.
(96): ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾: بل نحن أيضًا ننفذ، ولا بقاء لفرع بعد ذهاب أصله، والباقي هو الله والعمل الصالح لوجه الله كما أشار سبحانه بقوله: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: أي صبروا على الجهاد في سبيل الله والنضال لإحقاق الحق وإبطال الباطل، لا على الفقر والتفريط بالحق والعدل، لأن الله سبحانه لا يعفي المظلوم من مقاومة الظالم وردعه بكل سبيل.
(97): ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى...﴾: أبدًا لا فرق لأن الكل من آدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وتقدم في الآية124 من النساء.
(98): ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾: الاستعاذة من الشيطان راجحة ومستحبة في شتى الأحوال، بخاصة عند تلاوة الذكر الحكيم، ولكن السلاح الأقوى والأمضى الذي نستظهر به على الشيطان وحزبه هو الإخلاص في الدين والعمل باعتراف الشيطان وقوله: (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين 83 ص) وصدق سبحانه قوله هذا في العديد من الآيات ومنها قوله جل وعز:
(99): ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ﴾: وإن قال قائل: لقد شاهدنا سلطانه وأثره بعض الأحيان، على من آمن بالله واليوم الآخر، قلنا في جوابه: أجل، ولكن المؤمن حقًا وصدقًا يثوب ويتوب، ومن تاب من الذنب كمن لا ذنب له.
(100): ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾: وهم من أسلسوا له القياد ولم يجاذبوه ويقاوموه ﴿هُم بِهِ﴾: أي بسبب طاعة الشيطان ﴿مُشْرِكُونَ﴾: وليس من الضروري أن يجعلوه مع الله إلهًا آخر فإن يسير الرياء شرك.
(101): ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾: لله سبحانه أحكام أبدية، تبقى ما بقي الدهر، لا يسوغ فيها النسخ والتغيير ولا التقليم والتطعيم ولا الخلاف والاجتهاد كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، والصوم والصلاة والحج والخمس والزكاة، وأيضًا له سبحانه أحكام أمدية لا أبدية، تستدعي الحكمة أن يشرعها بأمد معين، وأيضًا تستدعي الحكمة أن لا يصرح سبحانه بهذا الأمد عند إنشاء الحكم حتى إذا انتهى الأمد ارتفع الحكم، وشرع حكم آخر مكانه، أيضًا على وفق الحكمة والمصلحة، ويسمى هذا نسخًا، وتقدم الكلام عنه في الآية 106 من البقرة ﴿قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾: كان المشركون إذا رأوا نسخ حكم بآخر يقولون هذا افتراء على الله، ولو كان من عنده ما تبدل وتغير، بل هم الجاهلون المفترون.
(102): ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ﴾: وهو جبريل، ولقب بذلك لأنه نزل بقدس الأقداس- أي القرآن- على محمد (ص) ﴿مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾: بالصدق والعدل والهدى والرحمة ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾: من الإيمان ما هو زعم ووهم، يذهب مع الريح لأدنى عارض وطارئ ومنه ما هو رأسي من الجبال الراسيات، وهو القائم على الفهم عن الله ورسوله كتابًا وسنة ﴿وَهُدًى﴾: للتي هي أقوم ﴿وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾: بأن لهم من الله أجرًا كبيرًا.
(103): ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾: قال الذين تنكروا لكل خير وحق وصدق: هذا القرآن تعلمه محمد من فلان الفلاني، فرد سبحانه عليهم بقوله: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ...﴾: المراد باللسان هنا اللغة والكلام، وبالإلحاد النسبة والإسناد، والمعنى: هذا القرآن عربي مبين، والذين تسندون القرآن إليه يجهل اللغة العربية! فمن أين جاءته هذه المعجزة؟ وعلى قولكم هذا ينبغي أن يكون الأعجمي الذي تزعمون هو النبي. فلماذا لا تتخذوه نبيًا؟.
(104): ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: أي بالقرآن ونبوة محمد (ص) بعد الحجة الدامغة والبرهان القاطع، أولئك ﴿لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ﴾: أي لا يثبتهم بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
(105): ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ﴾: إن الكذب والإفتراء بكم أليق وألصق أيها الجاحدون المعاندون، لأنكم لا تؤمنون بحث، ولا تنطقون بصدق. ولا تحفلون بخير، أما محمد فهو أفضل وأكمل ما في البشرية من فضائل وأخلاق.
(106): ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾: فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم، والدليل على هاتين الجملتين المحذوفين قوله تعالى في آخر الآية: ﴿مَّن شَرَحَ بِاْلكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾: وعليه يكون (من كفر) مبتدأ وخبره محذوف تقديره فعليهم غضب من الله ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾: قال المفسرون من السنة والشيعة: إن المشركين عذبوا عمار بن ياسر حتى يعطيهم من لسانه كلمة كافرة، فتفوه بها مكرهًا. فقال بعضهم: يا رسول الله إن عمارًا كفر: فقال الرسول (ص): كلا، إن عمارًا ملئ إيمانًا من قرنه وقدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمار إلى النبي (ص) باكيًا، فمسح عينيه وقال: مالك؟ إن عادوا فعد فنزلت (إلا من أكره...) وقال ابن كثير الشافعي الدمشقي في تفسير هذه الآية اتفق العلماء على أن المكره يسوغ له النطق بكلمة الكفر إبقاءً على مهجته. وتكلمنا عن التقية مفصلا في كتاب الشيعة في الميزان ﴿وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾: طابت له نفوسهم، واطمأنت به قلوبهم لا من نطق بالكفر خوفًا من القتل كعمار بن ياسر أولئك عليهم غضب الجبار ولهم عذاب النار.
(107) ? (109): ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ...﴾ : لا يدينون بمبدأ أو ضمير، ولا يفهمون ويتكلمون إلا لغة المنافع والأرباح، أولئك شر أهل الأرض ذاتًا وعملا.
(110): ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُوا﴾ْ: يشير سبحانه بهذا إلى المؤمنين المستضعفين الذين لم يهاجروا من مكة إلى المدينة مع هاجر ضعف وعجز، وقاسوا العنت والتنكيل من أجل دينهم، وأعطى البعض منهم المشركين ما أرادوا، ثم سنحت له الفرصة، فهاجر وجاهد وصبر﴿إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا﴾: أي بعد التوبة والهجرة ﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: بخاصة لمن تاب ولم يعد إلى الجريمة والمعصية(ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام- 95 المائدة).
(111): ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾: أبدًا (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه -37 عبس) لا أم ولا أب ولا عم ولا خال ولا جاه ولا مال ﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾: في عقاب أو ثواب. وكيف يظلم سبحانه ويوم القيامة يأمر ملكًا من ملائكته أن يقف بين أهل الجنة والنار ينادي بأعلى صوته ويقول: إن لعنة الله على الظالمين كما نصت الآية 44 من الأعراف.
(112): ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا﴾: واسعًا وهنيًا، وكانت هذه الأوصاف متوافرة في مكة المكرمة أيام البعثة حيث كان أهلها آمنين من الغزو بفضل البيت المحرم، وكان الرزق يأتيها من كل مكان استجابة لدعوة إبراهيم خليل الرحمن(ع) ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّه﴾ِ: ورحمته للإنسانية جمعاء، وهي نبوة محمد (ص) التي ملأت الأرض علمًا وسلامًا ﴿فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾: وذلك أن العتاة من أهل مكة أذاقوا النبي ألوانًا من الأذى والتنكيل، فدعا عليهم وقال من جملة ما قال في دعائه: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف. فاستجاب الله دعوته وأصابتهم شدة أذهبت كل شيء، فأكلوا الكلاب والجيف أما الخوف فقد كان من سطوة محمد (ص) وسراياه وجيوشه.
(113): ﴿وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ﴾: عاد سبحانه إلى الرسول الأعظم (ص) وقومه العتاة الطغاة ليقول ﴿فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾: وفي نهج البلاغة: الله للظالم بالمرصاد على مجاز ريقه، وبموضع الشجى (أي الغصة) من مساغ ريقه.
(114) ? (115): ﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ...﴾ : تقدم في الآية 172 و173 من البقرة.
(116): ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ﴾: الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ومعنى هذا أنه لا يسوغ لأحد أن يقول: هذا حلال أو حرام إلا أن يكون عالمًا بدين الله، وإذا نقل الجاهل الحكم رواية عن العالم فلا إثم عليه وإن قال برأيه وتشهيه فقد اكتسب إثمًا وإن أصاب، لأن الفتوى بالرأي محرمة من حيث هي للنهي عن القول بالجهل دون استثناء.
(117): ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾: في الدنيا ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: وكثير في الآخرة، والمقصود بهذه الآية الذين يحللون ويحرمون بلا كتاب وسنة.
(118): ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا﴾ْ: اليهود ﴿حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾: في الآية 146 من الأنعام ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾: فيما ضيقنا عليهم من التحريم ﴿وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾: بما عصوا وكانوا يعتدون.
(119): ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾: في مجمع البحرين للشيخ الطريحي (أجمعت الصحابة على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة... لأنه اختيار للذة الفانية على اللذة الباقية). وتقدم في الآية 54 من الأنعام.
(120): ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾: بعظمته وأبوته للأنبياء، وقال صاحب روح البيان عند تفسير هذه الآية: جاء في الحديث (الحسين سبط من الأسباط أي أمة من الأمم لأن السادات من نسل ولده زين العابدين) ﴿قَانِتًا لِلّهِ﴾: مطيعًا له ﴿حَنِيفًا﴾: مستقيمًا على الحق ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: هذا رد على المشركين الذين ادعوا أنهم على ملة إبراهيم.
(121): ﴿شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ﴾: مخلصًا في شكره لنعم الله عليه ﴿اجْتَبَاهُ﴾: اختاره للنبوة ﴿وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: وهو دين الإسلام بنص الآية 66 من آل عمران.
(122): ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً﴾: وهي تعظيم جميع الأديان لمكانته واعترافها بنبوته ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾: لأنه جاهد في دنياه، وأخلص وأصلح.
(123): ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾: هذا دليل قاطع على أن الإسلام وديانة إبراهيم شيء واحد في العقيدة، بل وكل الأنبياء بلا استثناء.
(124): ﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ﴾: يوم عطلة وراحة ﴿عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾: وفسر الشيخ الطبرسي هذا الاختلاف بأن بني إسرائيل (أحلوا الصيد في السبت تارة، وحرموه أخرى، وكان الواجب أن يحرموه على كلمة واحدة) ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: واضح، وتقدم في الآية 113 من البقرة، والآية 141 من النساء.
(125): ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ...﴾: الهدف الأول من المناظرة العلمية أن يظهر الحق ويقتنع به الطرف الثاني بحيث إذا أبى وأصر على الإنكار كان في نظر العقلاء المنصفين مكابرًا ومعاندًا للحق وذكر سبحانه في هذه الآية ثلاثة شروط للمناظرة المثمرة (1) أن يكون بالحكمة، والمراد بالحكمة هنا الحجة المحكمة والبرهان الواضح (2) الموعظة الحسنة، وهي أن يتجرد المناظر عن كل هوى وميل بحيث يفهم الطرف الآخر أن الذي يناظره من الناصحين والمخلصين له وللحقيقة، ولا يقصد المباهاة وعرض العضلات (3) أن يكون الجدال بالتي هي أحسن أي بالرفق واللين كما قال سبحانه لموسى وهرون: (فقولا له قولا لينًا لعله يتذكر أو يخشى-44 طه) وشهد سبحانه لنبيه محمد (ص) بأنه قد مكن لدين الله في الأرض بكماله وعظمة خصاله، وسجل تقدست كلمته، شهادته هذه في كتابه المجيد الآية 159 من آل عمران: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك) أنظر ماقلناه حول هذه الآية الكريمة.
(126): ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾: هذا هو العدل في القصاص لا زيادة في العقوبة إطلاقًا، ويسوغ النقصان، بل العفو أقرب للتقوى، وإليه أشار سبحانه بقوله ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾: وتجدر الإشارة إلى القصاص يسمى عقوبة على الذنب، أما الاعتداء والإبتداء فيسمى ذنبًا وجريمة، ولا يسمى عقوبة، وجاء التعبير عنه بالعقوبة هنا لمجرد الجناس والمشاكلة في اللفظ، وتقدم في الآية 194 من البقرة.
(127): ﴿وَاصْبِرْ﴾: يا محمد ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ﴾: أي بحوله وقوته، فقال النبي (ص): نصبر ولا نعاقب ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾: لا تأسف على كفرهم وضلالهم ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾: في هم وغم ﴿مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾: ويدبرون من المؤامرات لأن العاقبة لمن اتقى كما قال سبحانه:
(128): ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾: المراد بالتقوى النزاهة والكف عن الشر والحرام، أما المحسنون فهم الذين يقفون مع كل مظلوم ومحروم، ويجبرون كل كسير وفقير.