سورة الأعراف

(1) ﴿المص﴾: مضى الكلام عن حروف الهجاء في أول البقرة.

(2) ﴿كِتَابٌ﴾: هذا كتاب ﴿أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْه﴾: ضيق من تبليغه بما تلاقيه من قوى الشر والضلال، فالله معك وفي عونك ﴿لِتُنذِرَ بِهِ﴾: الناس كل الناس، ويسمى هذا الإنذار في عصرنا الراهن الثورة لقلب الأوضاع الفاسدة من الأساس ومن هنا جاء الضيق والحرج من الغوغاء والبوغاء ﴿وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: أي لتثبيت المؤمنين بالفعل ولمن يريد الإيمان بالحق.

(3): ﴿اتَّبِعُواْ﴾: أيها الناس ﴿مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾: على قلب محمد ولسانه، أمره تعالى أن يبلغ، وأمر العباد أن يتبعوه ويطيعوه ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾: لأنه ليس دون الرسول والقرآن إلا الضلال.

(4): ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾: لأنها كذبَّت المرسلين ﴿فَجَاءهَا بَأْسُنَا﴾:عذابنا ﴿بَيَاتًا﴾: ليلا ﴿أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ﴾: مستريحون في الظهيرة.

(5): ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا﴾: عند الأمان والاطمئنان يهتفون باسم الأصنام، وعند الشدة والعذاب يدعون الرحمن وينسون ما يشركون.

(6): ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾: ماذا قلتم للمرسلين؟ ﴿وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾:ماذا قال لكم الذين أُرسلتم إليهم؟ والمؤمن حقًا إذا تصور الوقوف بين يدي الله للسؤال ونقاش الحساب يهتز من الأعماق رعبًا، فكيف إذا جاء الجد؟ رحماك اللهم رحماك.

(7): ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ﴾: ما قالوه وما فعلوه، أحصاه الله ونسوة.

(8): ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾: لميزان الدنيا كفتان، فإذا وضعت في إحداهما ترابًا بمقدار كيلو، مثلا، وفي الثانية تبرًا بهذا الثقل تستوي الكفتان، ولا شأن للنوع والأثر، أما ميزان الآخرة فالثقل والشأن للكيف لا للكم، والنوع لا للمقدار، وفي الحديث قليل للعمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾: وهم الذين ائتموا في جميع أعمالهم ومقاصدهم بالقرآن وتعاليمه ﴿فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: لأن الله لا يضيع أجر المحسنين..

(9): ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾: وهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ﴿فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم﴾: حيث أوردوها النار وبئس الورد المورود ﴿بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾: أي يكذّبون.

(10): ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ﴾: زوّد سبحانه الإنسان بكل الطاقات و المؤهلات للإكتشاف والإختراع والسيطرة على الطبيعة ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾: لا يوجد جانب إطلاقًا من حياة الإنسان بنفصل عن الأرض أو يخلو من برها وخيرها.

(11): ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾: أي خلق وصور أبانا آدم حيث قال عز من قائل: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾: والسجود لآدم بأمر الله سجود وطاعة الله، ولكن ابليس ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾: تعصبًا لأصله وحسدًا لآدم.

(12): ﴿قَالَ﴾: سبحانه لإبليس ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾: لا زائدة ﴿إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾: وكل من يقول متعاظمًا: أنا خير من فلان فهو من حزب الشيطان، فرب وضيع عن الناس هو عظيم ورفيع عند الله.

(13): ﴿قَالَ فَاهْبِطْ ...﴾: طرد سبحانه ابليس من رحمته إلى لعنته جزاءً على تكبره ومعصيته.

(14): ﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾: أمهلني إلى يوم القيامة.

(15): ﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ﴾: في الخطبة الأولى من نهج البلاغة: أعطاه الله النظرة استحقاقًا للسُخطة واستتمامًا للبلية وانجازًا للعدة.

(16): ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾: أرأيت إلى هذا النطق المقلوب؟ إن الله سبحانه أمر إبليس، وترك له الخيار، فاختار الغواية وآثارها على الهداية، ولكن ابليس عاد وناقض نفسه بنفسه حيث قال: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: ومعنى هذا أن ابليس هو الغواية والتضليل، فكيف نسب الغواية هنا إلى نفسه بعد أن نفاها عنه، ونسبها إلى الله تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا؟ وهل قال سبحانه لابليس : اصرف عبادتي عن طاعتي، واحملهم على معصيتي؟ على أن ابليس يتبرأ من أتباعه، ويقول لهم فيما يقول غدًا: (إني بريء منكم... وما كان لي عليكم من سلطان... فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) كما في الآية 48 من الأنفال و22 من ابراهيم، وهذه الصورة التي رسمها القرآن لابليس تنطبق على العديد من شياطين الإنس.

(17): ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ...﴾: كناية عن وسوسة الشيطان وإغوائه بحيث لا يدع معصية إلا أغرى ضعاف العقول والإيمان بها، ولا طاعة إلا ثبطهم عنها.

(18): ﴿قَالَ﴾: سبحانه لابليس: ﴿اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا﴾ : بالهمزة من ذأمه إذا عابه وذمه ﴿مَّدْحُورًا﴾: مطرودا ﴿لَّمَن﴾: اللام للابتداء، والكلام مستأنف ﴿تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ﴾: اللام جواب لقسم محذوف أي أقسم لأملأن ﴿جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾: خلقتُ النار لك ولحزبك.

(19): ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ...﴾: تقدم في الآية 35 البقرة.

(20): ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا﴾: ليظهر ما ستر من عوراتهما ﴿وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾: في الجنة.

(21): ﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾: حلف لهما ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾: عكس اللعين الآية رأسًا على عقب وجعل السلب إيجابًا، والإيجاب سلبًا حيث أقسم أن عاقبة الأكل من الشجرة الخلود في الجنة، وهو على علم اليقين بأن الأكل سبب الطرد منها، وهذا هو المراد بوسوسة الشيطان وحزبه الذين يرفعون شعارات الخير وهم أعدى أعدائه! وينادون بالحرية ويبطشون بالأحرار، ويتبجحون بالعدالة ويقتلونها غيلة وغدرًا، ويتباكون على الإلفة والوحدة وهم الذين شهروا عليها السيوف ومزقوا الصفوف.

(22): ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ﴾: أنزل إبليس آدم وحواء إلى الأكل من الشجرة بما غرهما من القسم بالله ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾: ظهرت لكل واحد منهما عورته وعورة صاحبه ﴿وَطَفِقَا﴾: شرعا ﴿يَخْصِفَانِ﴾: يضعان ﴿عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾: ليستترا بهذا الورق ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا﴾: لائمًا: ماذا فعلتما بأنفسكما؟ ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾: نهى سبحانه آدم وأنذره وحذره من الشيطان، وآدم يؤمن بالله عن حس وتجربة، فقد أوجده من طين لا من أب وأم، ورأى الملائكة يسجدون له، وأسكنه الجنة، وكلّمه، ولا دليل فوق ذلك، وكل هذا وغير هذا يبعث آدم إلى الكف عن الشجرة، فكيف أكل منها؟ والذي يبدو لنا، والله أعلم، أن براءة آدم وصفاءه يشبه إلى حد بعيد صفاء الطفل، وإن كان رجلا لأنه لم يمر بعدُ بأية تجربة. وقد ظن قياسًا على نفسه أن ما من أحد يجرأ على الحلف بالله كاذبًا، ومن هنا أخذ، ولذا ندم وطلب الصفح بمجرد التنبيه.

(23): ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾: هدي هي بالذات الكلمات التي أشار إليها سبحانه في الآية 37 من البقرة: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه أنه هو التواب الرحيم).

(24): ﴿قَالَ اهْبِطُواْ﴾: الخطاب لآدم وحواء وابليس ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾: ابليس يعادي آدم حسدًا له. ويعادي بنيه وذريته انتقامًا منه، أما بنو آدم فأكثرهم من حزبه حيث يجدون عنده اللذة والمتعة... قال سبحانه: (أكثر الناس لا يؤمنون... لا يشكرون... فأبى أكثر الناس إلا كفورًا). والأحمق المغرور هو الذي يقطع ويجزم أنه من الصفوة القليلة ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾: تمامًا كضيوف مؤقتين، وعلينا أن نكون مؤدبين لا نتجاوز الناس، كل الناس، من أولياء وأشقياء وصعاليك وأُمراء ولدوا من هذه الأرض، وإليها يعودون، وما لأحد منهم كائنًا من كان إلا خمسة أشبار أو ستة من الأرض بعد موته في عرض شبرين ونصف أو ثلاثة، وكل هذا يهون إذا قيس بالنشر والحشر، والويل كل الويل عندئذ للمجرمين من عذاب أليم.

(26): ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا﴾: خلقناه لكم أو أنزلنا السبب الموجب للباس وغير اللباس وهو المطر ﴿يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ﴾: يسد الحاجة الضرورية ﴿وَرِيشًا﴾: للزينة والحاجة الكمالية، وهو مستعار من ريش الطائر ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾: من كل شيء، لأن التقوى تقي من عذاب النار وغضب الجبار، وسلام على من قال: ما خير بخير بعده النار، وما شر بشر بعده الجنة.

(27): ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ...﴾: قال واعظ من الأولين: إن ذنبًا واحدًا أخرج آدم من الجنة بعد أن دخلها آمنًا، فكيف يدخلها أبناؤه، وقد تراكمت عليهم الذنوب؟ ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾: كل من يكيد للناس في خفاء، ويظهر غير ما يضمر فهو شيطان رجيم ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: أبدًا لا سلطان للشيطان إلا على أوليائه الذين يستجيبون له عن رضا وطيب نفس تماما كالمومس إذا دعاها الفاجر العاهر إلى الفاحشة.

(28): ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ﴾: الضمير لحزب الشيطان وأوليائه ﴿فَاحِشَةً﴾: رذيلة ﴿قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا﴾: وفي العصر الراهن تقول فئة من المسلمين: كل جديد زندقة وهرتقة حتى ولو كان علمًا نافعًا، وهنا يمكن سر التأخر والتقهقر ﴿وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾: وهذا عين الافتراء عليه تعالى ﴿قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: ولكن بعض المنتمين إلى الإسلام يعلمون أن كتاب الله يحرم التقليد، ويحث على العلم النافع. ومع ذلك ينحرفون عن طريقه، ولو شاءوا لاستقاموا عليه، ولكنهم لايشاءون ولا يستمعون لأية حجة وبينة.

(29): ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾: وبكل جديد مفيد ﴿وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾: أي أبيح لكم أن تصلوا وتعبدوا الله في أي مسجد شئتم، وقيل: المراد بكلمة مسجد هنا مكان السجود تمامًا كقول الرسول الأعظم: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) ﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾: والإخلاص في الدين أن تعمل بموجبه، ولا تتخذ منه وسيلة إلى منافع شخصية. وفي أصول الكافي: (وأوحى الله إلى داود لا تجعل بيني وبينك عالمًا مفتونًا يصدك عن طرق محبتي، فإن أولئك قطاع الطريق).

(30): ﴿فَرِيقًا هَدَى﴾: وهم الذين رغبوا في الهداية (والذين اهتدوا زادهم هدى ? 17 محمد ) ﴿وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾: وهم الذين زاغوا عن الهدى إلى الظلال: ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ? 5 الصف) ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾: جهلوا بجهلهم، فانفصلوا عن واقعهم، وعاشوا في دنيا الأخيلة و الأحلام، وأيقنوا بأنه لا دين إلا دينهم ولا إيمان إلا إيمانهم ، وهنا يكمن الداء العياء، وبه جنوا على أنفسهم ومجتمعهم.

(31): ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾: البسوا أثوابًا طاهرة نظيفة عند كل عبادة (وثيابك فطهر ? 4 المدثر) ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ﴾: ما تشتهون وتستلذون إلا ما ورد النهي عنه ﴿وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾: في طعام أو شراب أو لباس.

(32): ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ﴾: من مسكن وملبس ومركب وأثاث ﴿الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾: كيف تكون حرامًا، وقد خلقها سبحانه لعباده وعياله؟ ﴿وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾: طعامًا وشرابًا وكواعب أترابًا... ومن هنا قال الفقهاء: كل شيء مباح حتى يرد فيه نهي ﴿قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: الطيبات والملذات في الدنيا للمؤمن والكافر والبر والفاجر، وهي في الآخرة للمتقين الأبرار، أما المجرمون الأشرار فهم في سموم وحميم وظل من محموم.

(33): ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾: تقدم في الآية 151 من الأنعام ﴿وَالإِثْمَ﴾: وهو كل ما يعصي الله به من القول أو الفعل ﴿وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: الظلم، وفي نهج البلاغة: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد.

(34): ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ...﴾: تهديد ووعيد للسفاحين والمجرمين بأن لهم يومًا يحاصرون فيه من كل الجهات ويؤخذون بما كانوا يجرمون.

(35) - (36): ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا﴾: مركبة من كلمتين: إن الشرطية وما زائدة مؤكدة، ولدخولها على إن دخلت النون الثقيلة على ﴿يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي﴾: مبشرين ومنذرين ﴿فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾: البريء لا يخاف العدالة، والذي يخافها ويمتلئ منها رعبًا وهيبة هو المريب.

(37): ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ...﴾: تقدم في الآية 21 من الأنعام ﴿أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ﴾: والمراد هنا المكتوب، والمعنى أن أعمال المجرمين كلها مكتوبة، وأيضًا تصلهم أرزاقهم المقدرة بالكامل ﴿حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا﴾: وهم ملائكة الموت ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ﴾: أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها؟ ﴿قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا﴾: لا نحن نعرف أين هم؟ ﴿وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾: الاعتراف بالذنب يجدي من غير شك إذا كان عن نية خالصة وتوبة صادقة، أما التوبة عند الاحتضار وتنفيذ العقوبة فإنها تمامًا كمن ينشد النجاة بعد أن شرب السم القاتل.

(38): ﴿قَالَ﴾: أي يقول سبحانه للمجرمين بعد أن يشهدوا على أنفسهم: ﴿ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ﴾: مجرمة مثلكم ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم﴾: وفعلت فعلكم ﴿مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ﴾: التي كنتم بها تكذبون ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾: وهكذا اللصوص والقراصنة يتعاطفون، وهم في الطريق إلى السلب والنهب حتى إذا افتضحوا وأُخذوا للعقاب تلاعنوا، وألقى كل التبعة والمسؤولية على صاحبه ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا﴾: أي تلاحقوا واجتمعوا في جهنم، وأدرك بعضهم بعضا ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ﴾: المراد بأُولاهم الرؤساء والقادة، وبأخراهم الإتباع والسواد ﴿رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ﴾: طلب من الله التابعون أن يضاعف سوء العذاب للرؤساء لأنهم أصل البلاء ﴿قَالَ﴾: سبحانه ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾: أي لكل من رؤساء الضلال واتباعهم عذاب عظيم ﴿وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾: لا يعلم كل فريق مقدار ما يقاسيه الآخر من العذاب وشدته.

(39): ﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾: في الإيمان والعمل الصالح الذي يوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم، بل نحن وأنتم سواء في الكفر والضلال ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾: بأيديكم أنتم، ولا تلوموا إلا أنفسكم.

(40): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا﴾: المراد بآياته تعالى الدلائل على وجوده ونبوة أنبيائه ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾: أي لا يقبل الله أعمالهم ما داموا به كافرين، ويأتي قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم- 147 من هذه السورة) ﴿وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾: أي في ثقب الإبرة، والمعنى أن المشرك أو الملحد لا يدخل الجنة أبدًا، وليس معنى هذا أنه يدخل النار حتمًا وجزمًا حيث لا ترابط بين الأمرين، فقد يعمل احدهما للخير والصالح العام ويكف أذاه عن الناس، ويغيث الملهوف، ويناصر العدل، فيكون للظالم خصمًا، وللمظلوم عونًا، أو يخترع الكهرباء، أو يكتشف الدواء للأدواء المستعصية، وما إلى ذلك لوجه الإنسانية مما ينجيه من النار ولا يدخله الجنة. وفي مجمع البيان عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: إن آية (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) جرت في الكافر والمؤمن والبر والفاجر.

(41): ﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ﴾: فراش ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ﴾: أغطية، والمعنى لهم من النار لحاف وفراش ودثار.

(42): ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾: الذين مبتدأ ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾: جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للإشارة إلى أن طريق الجنة سالكة لمن أراد ﴿أُوْلَـئِكَ﴾: مبتدأ ثان ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾: خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر الأول.

(43): ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾: وألف تف وأُف على الحقد والبغضاء، والحسد والعداء ﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا﴾: إلى طريق جنته ورضوانه، والبعد عن غضبه ونيرانه ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾: برسله وكتبه ﴿لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾: أخبرهم الرسل بالجنة فآمنوا بالغيب، ولما شاهدوها عيانا فرحوا، وأصبح الغيب مشهودًا ﴿وَنُودُواْ أَن﴾: بمعنى أي ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا﴾: هي حق لكم ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: فنعم أجر العالمين.

(44): ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ...﴾: إن أصحاب الجنة على علم اليقين بأن أصحاب النار قد وجدوا صدق الوعيد والتهديد، ولكن السؤال لمجرد الشكر على ما أنعم الله عليهم، وتذكير من كان يسخر منهم في الحياة الدنيا (فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون- 10 الأنعام) ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾: أعلن معلن ﴿بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ﴾: عذابه ﴿عَلَى الظَّالِمِينَ﴾: وفي نهج البلاغة: يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم.

(45): ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه﴾: عن الحق، وقد يكون الصد بقوة السلاح، وبالكتمان والإخفاء، وبالتضليل والدعايات الكاذبة في الصحف وغيرها من وسائل الإعلامِ ﴿وَيَبْغُونَهَا﴾: الهاء تعود إلى السبيل ﴿عِوَجًا﴾: كذبًا ونفاقًا وغشًا وخداعًا.

(46): ﴿وَبَيْنَهُمَا﴾: أي بين الجنة والنار أو أهليها ﴿حِجَابٌ﴾: وهو الأعراف الذي أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُم﴾: أهل الأعراف يعرفون كلا أهل الجنة وأهل النار بعلامات ﴿وَنَادَوْاْ﴾: أهل الأعراف ﴿أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾: وهنيئًا لكم بما أسلفتم في الأيام الخالية ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾: في دخول الجنة، لأنهم كانوا يؤمنون بالله ومغفرته.

(47): ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: أو النار وأهلها... ويا هول ما رأوا، فاستعاذوا بالله واسترحموا... اللهم يا غني الأغنياء أجرنا من عذابك برحمتك وعفوك، فإننا لا نطيق عدلك، ولا وسيلة لنا إلى ذلك إلا الولاء لنبيك وآله، عليهم أفضل صلواتك.

(48): ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾: المراد بالرجال هنا الجبابرة الذين تسلطوا على المستضعفين ظلما وعدوانا ﴿قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾: كنتم في الحياة الدنيا تنتقصون من قدر الناس وكرامتهم، وتتعالون عليهم بما تملكون من جاه ومال فكيف أنتم الآن؟ وفي أية حال من الهوان؟.

(49): ﴿أَهَـؤُلاء﴾: إشارة إلى المؤمنين المستضعفين ﴿الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾: أيها الجبابرة المترفون وقلتم ﴿لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ﴾: غدا ﴿بِرَحْمَةٍ﴾: في الدنيا قال الأغنياء للفقراء: نحن السعداء في الدنيا والآخرة، وأنتم البؤساء فيهما، حين جاء يوم الجزاء قيل لهؤلاء: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ﴾: وقيل لأولئك: ادخلوا النار وبئس القرار.

(50): ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء﴾: فقد أجحف بنا وأهلكنا العطش ﴿أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ﴾: من طعام، يستجدون بعد أن كان يستجدي منهم، مع فارق كبير، وهو أن فقر الدنيا إلى حين، ويمكن الصبر عليه، أما فقر الآخرة فجحيم وإلى ما شاء الله. وبالمناسبة جاء في الحديث الشريف: اتقوا النار ولو بشق تمرة... الصدقات كفارات ﴿قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾: بالله والإنسانية وقيمها، ولا يؤمنون إلا بأنفسهم وذويهم ومنافعهم.

(51): ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾: وتشمل هذه الآية لمكان كلمة (دينهم) المشرك والموحد الذي يؤوِّل الدين تبعًا لأهوائه وأهدافه الشخصية سواء أفعل ذلك عن قصد وعمد أم عن جهل بأنه يقول ويفعل بوحي من عاطفته، وهو يظن بأنه من وحي الدين والإيمان حيث لا عذر إطلاقًا لمن يعتد برأيه كوحي من السماء ﴿فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ﴾: نهملهم ﴿كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا﴾: أهملوه، ولم يعملوا له، وفي الأشعار: (وكما تراني يا جميل أراك) ناسيًا أو ذاكرًا.

(52): ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ﴾: بالقرآن ﴿فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً﴾: يهدي إلى الرشد، ويبين ما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم ضامنًا لمن عمل به الهداية في الدنيا والرحمة في الآخرة.

(53): ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَه﴾: أتنظرون أيها الجاحدون فسوف يظهر للعيان أن كل ما نطق به القرآن من ثواب المتقين وعقاب المجرمين- وهو حق وصدق ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾: بوقوع ما أخبر القرآن عنه حيث يرى كل إنسان جزاء عمله ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ﴾: أبدًا لا جدوى من هذا الاعتراف، فذوقوا ما كنتم به تكذبونِ ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا﴾: عند الله في غفران خطايانا ﴿أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾: ولو استجاب سبحانه لدعوتهم هذه لبطلت المقاييس، واستوى مصير الطيب والخبيث والمحسن والمسيء ﴿قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ﴾: بهلاك دينهم وضميرهم.

(54): ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾: هذه الأيام كناية عن الدفعات أو الأطوار حيث لا زمان ولا أيام قبل الكون، هذا إلى أن إنشاء شيء على الترتيب أدل على أن التفاعل عليم حكيم، وعلى أية حال فإن القرآن الكريم ينطق بصراحة في أكثر من آية ? أن وجود الكون لم يم دفعة ? وهذا ما يتفق تمامًا مع ما يذهب إليه العلم الحديث. ويستحيل أن يعلم ذلك محمد (ص) لو لم يكن نبيًا يتلقى الوحي من خالق الكون ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾: ليس الله تعالى جسمًا كي يجلس على العرش المحسوس وإلا افتقر إلى حيز وهو الغني عن جميع ما خلق، وعليه يجب تأويل الظاهر بما يجيزه العقل وقوانين اللغة إن أمكن وإلا وجب التفويض إلى علم الله، والتأويل هنا ممكن لغة وعقلا، وهو عند أكثر العلماء أن معنى استوى: استولى ومعنى العرش: الملك والتدبير (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? 11 الشورى) ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾: كل منهما يأتي عقب الآخر ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾: سريعًا بحيث يأتي في أثره بلا فاصل، بل يلج كل في صاحبه كما قال سبحانه: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾: بل والأرض وكل شيء من أشياء الكون من صغيره إلى كبيره والنواميس الثابتة الراسخة في الكون التي أودعها سبحانه فيه بعلمه، وقدرها تقديرًا بحكمته ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ﴾: لأنه منه لا من غير، والشاهد فيه عليه، وله ﴿وَالأَمْرُ﴾: كله، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، ولا معقب لحكمه.

(55): ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾: ومعنى الدعاء: العبادة بإخلاص، والتضرع: التواضع وعدم العجب والخفية: البعد عن التباهي والرياء ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾: الذين يتجاوزون حدود أمره ونهيه.

(56): ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ﴾: كفوا الأذى عن عيال الله، ولا يظلم بعضكم بعضا، ولا تعكروا صفو الحياة بالطمع والجشع، وتعاونوا على الخير والصالح العام ﴿بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾: حيث سير سبحانه كل شيء في الأرض على ما يرام كي يتمتع الإنسان بخيراتها وبركاتها طيلة حياته ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾: لا خوف مطلق ولا رجاء مطلق بل بين بين، قال الإمام الصادق (ع): في قلب المؤمن نوران نور خوف، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾: الذين يتهمون أنفسهم، ويتوقعون منها الخطأ، ولا يصرون على أن ما ينطقون به هو الوحي المنزل.

(57): ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ...﴾: الرياح تهب والشمس تبخر ماء البحار، وترتفع الرياح بهذا البخار إلى العلو، ثم تجذبه الأرض إليها، فيتساقط عليها قطرات متراكمة، فتحيا بعد موتها، وتنبت من كل زوج بهيج، كل ذلك يسير وفقا لنفس السنن التي أودعها سبحانه في الطبيعة، وبتعبير العارفين أن الطبيعة هي قرآن الله المكتوب بالنظام الكوني والقانون الطبيعي.

(58): ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾: المخصب ﴿يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾: زاكيًا ناميًا ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾: المجدب ﴿لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾: عسرًا ونزرًا، والإنسان ابن الأرض، وبها يشبه، وفي أبنائها النبيل الكريم، تهزه الأريحية، فيندفع آليًا إلى كل خير ومكرمة، وفيهم الخسيس الشحيح، لا تحركه ألف آية ورواية، ومعها ألف خطاب وقصيدة.

(59): ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾: في قاموس الكتاب المقدس: (نوح اسم سامي معناه راحة، وهو ابن لامح منو شالح بن أخنوخ بن يارد بن مهللئيك بن قينان ابن أنوش بن شيت ابن آدم سماه أبوه نوحًا قائلا: هذا يعزينا عن عملنا وعب أيدينا من قبل الأرض) ﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾: هذا النداء هو الحد الدائم والمستقيم لرسالة جميع الأنبياء: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

(60): ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ﴾: وهم القادة والرؤساء وأصل البلاء والداء العياء: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾: ولقولهم هذا سبب لأن لكل شيء سببًا، وليس من شرطة أن يكون حقًا في الواقع، بل قد يكون باطلا في الواقع وحقا عند الجاهل أو المكابر، والسبب الموجب لقولهم هذا عن نوح أنه جاءهم بشيء جديد ما سمعوا به هم ولا آباؤهم من قبل، فحرم ما أحلوا، وأحل ما حرموا، وفوق ذلك جعل الآلهة إلهًا واحدًا.

(61): ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ﴾: أرأيت إلى هذا الأسلوب الحكيم العظيم؟ قالوا له: أنت في ضلال مبين. فلم يقل لهم: بل أنتم الضالون. بل بلع خطأهم وصفح وتساهل لأنه أراد أن يأخذهم باللين، وأن يعلمهم التواضع بالفعل لا بالقول، وأن لا يدع لهم أية وسيلة يتذرعون بها ويقولون له احتقرتنا وخاطبتنا بشدة وقسوة. ولم تدعنا بالحكمة والموعظة الحسنة.

(62): ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي﴾: التي تهدف إلى هدي البشر وإسعاده، وبث التعاون وروح الأخوة بين أفراده وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾: ومن هنا نفروا، لأنهم لا يحبون الناصحين بنص الآية79 من هذه السورة ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: من حرامه وحلاله وثوابه وعقابه.

(63): ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ﴾: رفضوا الاذعان للحق لا لشيء إلا لأن الناطق به رجل مثلهم، وهذا هو الحسد بالذات، وقد أعلنوه بصراحة في قولهم: (وما نرى لكم علينا من فضل- 27 هود). وجاء في الأشعار: (وقديمًا كان في الناس الحسد) وقد مضى على عهد نوح آلاف السنين.

(64): ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ...﴾: فاض الماء، وما بقي على الأرض إلا نوح والذين أمنوا به، ويأتي المزيد من البيان والتفصيل.

(65): ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً﴾: في قاموس الكتاب المقدس: اسم هود عبري، ومعناه المجد من بني أشير بن صوفح، وفي بعض التفاسير أن هودا أول من تكلم بالعربية، وأنه ابن شالخ بن أرفخشدين بن سام بن نوح، والمهم الحديث عن الهدى والهداة لا عن الأنساب واللغات ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ﴾: تمامًا كما قال نوح من قبله.

(66)- (69): ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ﴾: كما قال قوم نوح ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾: وهي في لغة القرآن وأهل لبنان السعة وفي لغة أهل العراق الضرب بكف مبسوطة... وبالإجمال فإن الله سبحانه قد أنعم عليهم برغد العيش والحياة. ومنحهم الخيرات الوافرة: (أم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد- 8 الفجر).

(70): ﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾: أبدًا لا منطق ولا قياس إلا التقليد والعاطفة ولإذن كيف تدرك الحقائق، ويتم الإقناع؟.

(71)- (72): ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ﴾: عذاب حيث لا وسيلة سواه ﴿وَقَطَعْنَا دَابِرَ﴾: آخر ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾: دمرناهم واستأصلناهم عن آخرهم.

(73): ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا...﴾: هلكت عاد بذنوبها، فأورث الله أرضهم وديارهم لثمود، فعمروها.

(74): ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ﴾: أورثكم ما كانوا يملكون من جنات وعيون ﴿وَبَوَّأَكُمْ﴾: أنزلكم ﴿فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا﴾: وانتصب بيوتًا على الحال كقولك: خطت الثوب قميصا وفيه إيماء أن ثمود كانت في حضارة عمرانية، وعيشة هنية ﴿فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ﴾: نعمه عليكم ﴿وَلاَ تَعْثَوْا﴾: لا تسعوا ﴿فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾: وأعظم الفساد العدوان على العباد، وكبت الحرية، وإيقاظ الفتنة وإثارة الحرب، وبث روح العداء والبغضاء.

(75)- (76): ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ...﴾: أصر المترفون من قوم صالح على التمادي في الطغيان، والتعصب لعبادة الأوثان، أما المستضعفون فمنهم من آمن، ومنهم من بقي على الشرك تبعا للمترفين.لا يكاد ينتهي القرآن الكريم من حديث المستكبرين والمترفين الذين هم أصل الهلاك والدمار بنصف الآية 16 من الإسراء: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ? باتباع الحق ? ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنا تدميرًا) وقال المكابرون المترفون ساخرين لمن آمن به من الفقراء: ﴿أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾: عن علم وبرهان، فافعلوا ما بدا لكم، فأخذت المترفين العزة بالإثم، وأصروا على الطغيان والجبروت.

(77): ﴿فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾: رغم من تحذيرهم بالعذاب ﴿وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾: ولماذا سألوه أن يعجل بعذابهم؟ ونجد الجواب عند سيد الأوصياء والحكماء عي بن أبي طالب (ع) حيث قال: (من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة، وحسنت عنده السيئة، وسكر سكر الضلالة).

(78): ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة﴾: الصيحة أو الصاعقةُ ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾: جثثًا هامدة.

(79): ﴿فَتَوَلَّى﴾: صالح ﴿عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ...﴾ : قال هذا الأسى يملا نفسه، ولكن أنفسهم كانوا يظلمون.

(80)- (81): ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾: أي وأرسلنا لوطًا أو اذكر لوطًا حين قال لقومه ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾: وهي اللواط ﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا﴾: ما عملها أحد من قبلكم.

(82): ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾: أجل أن الطهر والعفاف كبير عند العاهر الفاجر، والأمانة جريمة لا تغتفر عند العميل الخائن... اخرجوهم لأنهم يتطهرون! قال الإمام علي (ع) لمعاوية: (أردت أن تذم فمدحت، وان تفضح فافتضحت).

(83): ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾: الذين غبروا في ديارهم أي بقوا فيها فهلكوا، لأنها كانت تتآمر على زوجها مع أعدائه المشركين. وفي قاموس الكتاب المقدس: ( تحولت امرأة لوط إلى عمود ملح لأنها نظرت إلى الوراء متأسفة على ممتلكات التي خلفتها وراءها).

(84): ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا﴾: من حجارة حتى هلكوا كما في الآية 82 من هود.

(85): ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾: كان يقال له خطيب الأنبياء للينه ونعومة خطابه وأسلوبه وهو يدعو قومه إلى الحق والعدل، ومن ذلك قوله: ﴿قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ﴾: دليلًا ظاهرًا ﴿مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ﴾: كانوا ينقصون فيها ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ﴾: ولا تنقصوا ﴿النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾: إعطوا لكل ذي حق حقه ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾: تقدم في الآية 56 من هذه السورة ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾: وحيث ما يكون الخير فثم شرع الله (ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا) وكل ما فيه منفعة عامة أو خاصة لا على حساب الآخرين فهو خير...

(86): ﴿وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾: أي تتوعدون وتهددون ﴿وَتَصُدُّونَ﴾: الناس ﴿عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾: من آمن به ﴿وَتَبْغُونَهَا﴾: الهاء للسبيل ﴿عِوَجًا﴾: بتشكيك الناس وإلقاء الشبهات، كان قوم شعيب يقعدون على الطريق يردون الناس عن اتباعه والإيمان بنبوته، ويهددونهم بالأذى والتنكيل.

(88): ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ...﴾: خير الجبابرة الطغاة شعيبًا بين أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن يخرج هو ومن آمن معه مشردين، وإما أن يعود الذين آمنوا إلى الكفر والجاهلية الجهلاء ﴿قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾: يا له من درس بليغ في أُسلوب الدعوة والإرشاد: لماذا هذا الضغط والإرهاب؟ وهل تقبلونه لأنفسكم، وتتخلون عن حريتكم في الرأي والتعبير.

(89): ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾: فيما كنا قد دعوناكم إليه من التوحيد ﴿إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا﴾: وأي عاقل يرتد عن الهدى إلى الضلال؟ ﴿وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ﴾: والله أجل وأعظم من أن يشاء الكفر والشرك، وكيف وقد نهى عنه، وتوعد عليه؟ ويسمى هذا تعليق ما لا يكون على ما لا يكون ﴿رَبَّنَا افْتَحْ﴾: احكم ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ﴾: فقد يئسنا في اتباعكم شعبيا.

(90): ﴿وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ...﴾: قال الكافرون المترفون للمؤمنين المستضعفين: إنكم لم تحسبوا حساب الخسارة في اتباعكم شعيبًا.

(91): ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ...﴾: تقدم بالحرف في 78 من هذه السورة.

(92): ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ﴾: أي كأنهم لم يقيموا في الأرض.

(93): ﴿وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ...﴾: تقدم في الآية 79 من هذه السورة.

(94): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ﴾: إلى قومه فكفروا به ﴿إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء﴾: الفقر ﴿وَالضَّرَّاء﴾: المرض وما أشبه ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾: يتوبون.

(95): ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾: أي رفعنا عنهم البأساء والضراء، ووضعنا مكانها الصحة والرخاء ﴿حَتَّى عَفَواْ﴾: كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم ﴿وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء﴾: قال الذين كثروا مالًا ورجالًا لأنبياء الله ورسله: ما نحن فيه من نعمة ورخاء هو من صروف الدهر وتقلب الأحوال لا من الله، وعلى هذا الأساس مر أسلافنا بخير وشر وخصب وجدب ﴿فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً﴾: فجأة ليكونوا عبرة لمن بعدهم.

(96): ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ﴾: وأحيوا شريعة العدل والمساواة بلا دكتاتورية عمال أو أصحاب أعمال ولا احتكار واستغلال، ولا حرب ولا نهب ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾: وعاشوا جميعًا حياة طيبة وادعة لا شقاء ولا أدواء ﴿وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾: أهملوا شريعة العدل والحياة، وأخذوا بشريعة البغي والضلال، فشرعوا من منهلها.

(97)- (99): ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى...َ﴾: العاقل لا يأمن المخبآت والمفاجآت بالغًا ما بلغ من القوة، وفي التاريخ دروس وعبر ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ﴾: أي استدراجه تعالى بالنعمة والسلامة، ثم الأخذ على حين غرة.

(100): ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾: ألم يتبين للخلف الوارثين كيف فعلنا بالسلف الموروثين من الهلاك حين عصوا وتمردوا؟ ولو شاء سبحانه لفعل بالآخرين ما فعل بالأولين ﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾: اختاروا لقلوبهم العمى والضلال، فتركهم سبحانه وهذا الإختيار.

(101): ﴿تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ...﴾: أخبرناك يا محمد عن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، عسى أن يتعظ قومك وغيرهم ويعتبروا.

(102): ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ﴾: وهو الإيمان بالحق والعمل بموجبه حتى الذين ينددون بمن يخون العهد يقولون ما لا يفعلون عن قصد.

(103): ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى﴾: كان سبحانه يبعث الرسل إلى عباده الواحد تلو الآخر، والحال هي الحال، بلاغ من انذار الرسل، وعناد وإنكار من المرسل إليهم، ثم هلاك وتدمير ﴿بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ﴾: لقب لملوك مصر كقيصر لملوك الروم، وكسرى لملوك الفرس، والنجاشي لملوك الحبشة، وفي قاموس الكتاب المقدس أن فرعون كلمة مصرية معناها البيت الكبير ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾: فكفروا بالآيات والمعجزات.

(104): ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ﴾: بلا جلالة وفخامة: ﴿إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾: (وما بالقليل ذا اللقب).

(105)- (108): ﴿حَقِيقٌ عَلَى﴾: واجب علي ﴿أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾: شأن الأنبياء والأتقياء ﴿قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾: دليلا على نبوتي ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: وكان فرعون يستخدم بني إسرائيل كأرقاء، فطلب منه موسى أن يطلق سراحهم ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ﴾: ظاهرًا وواقعًا لا تمويهًا وإيهامًا ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء﴾: وكان موسى شديد السمرة، فكيف صارت يده بيضاء من غير داء؟.

(109)- (110): ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾: وأسند سبحانه هذا القول بالذات إلى فرعون في الآية 34 من الشعراء، فما هو وجه الجمع؟ الجواب: قال هذا فرعون ووافقه عليه الملأ، أو قاله الملأ ووافقهم فرعون أو قالوه جميعًا، فلا مانعة جمع.

(111): ﴿قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾: أخرهما حتى ترى رأيك فيهما ﴿وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ﴾: وهم الشرطة.

(112): ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾: وكانت أرض مصر تموج بالسحرة في عهد الفراعنة.

(113)- (114): ﴿وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا...﴾: كان السحرة في ذاك يمثلون الدين، فساوموا صاحب السلطان والجاه والمال ضد نبي الله، وفي كل عصر يوجد من يتسم بسمة الدين، ويساوم عليه المترفين والملوك والشياطين.

(115)- (119): ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ...﴾: ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، فخيل للنظارة أنها حيات تسعى، وألقى موسى عصاه، فبطل السحر والساحر.

(120)- (122): ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾: خروا سجدًا لله مؤمنين به وبنبوة موسى حين جاء الحق وزهق الباطل.

(123): ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ﴾: وهكذا كل حكام البغي والضلال لا يرمون بالفتات للأذناب إلا أن يتخلوا عن دينهم وعقلهم وضميرهم ومروأتهم وأُمتهم ﴿إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا﴾: تآمرهم أيها السحرة مع موسى وبني إسرائيل كي تخرجوا أهل مصر منها، وتكون لكم وحدكم، قال هذا فرعون زورًا وتمويهًا لئلا يتركه الناس، وينضموا إلى موسى.

(124)- (126): ﴿لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ﴾: أي يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو العكس ﴿قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾: لا نبالي بالموت ما دمنا مرضيين عند رب العالمين. وهكذا كل مؤمن حقًا وصدقًا يستولي إيمانه على جميع مشاعره، وينسى ذويه ومنافعه، ويضحي بنفسه في سبيل دينه والذود عنه ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾: هذي هي أُمنية المؤمن المخلص: الثبات والصبر في جهاد لوجه الله والموت على دين الله.

(127): ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ﴾: وهذا هو دأب حاشية السوء المرتزقة، يشيرون على أُولي الأمر بالشر والفساد خوفًا على عيشهم ومكانتهم ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾: قد يقال: أنى يكون للفرعون آلهة وهو الرب الأعلى بزعمه؟ وقيل في الجواب: جعل فرعون للناس أصنامًا يعبدونها، وجعل نفسه إله الآلهة، ومن هنا قال: أنا ربكم الأعلى ﴿قَالَ﴾: فرعون: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ﴾: سنعيد سيرتنا الأولى في بني إسرائيل من قتل الأبناء واستبقاء النساء حتى ينقرضوا.

(128): ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ﴾: لما سمع بنو إسرائيل تهديد فرعون جزعوا، فسنهم موسى ومناهم.

(129): ﴿قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ...﴾: قال بنو إسرائيل لموسى: صبرنا على الأذى حتى أتيت، فلم يذهب عنا شر بعد مجيئك، ولا رأينا من عافية ﴿قَالَ﴾: موسى لبني إسرائيل ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾: سيحرركم الله من العبودية، ويمن عليكم بالاستقلال، لتظهر أعمالكم للوجود، ويبلوكم: هل تشكرون أو تكفرون، ثم يجزيكم بما تستحقون.

(130): ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ﴾: بالقحط والجدب ﴿وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ﴾: بما يطرأ عليها من آفات.

(131): ﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَة﴾: الرخاءُ ﴿قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ﴾: قالوا بغطرسة وشموخ: نحن دون سوانا نستحق البذخ والرفاهية ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾: قحط وجذب ﴿يَطَّيَّرُواْ﴾: يتشاءموا ﴿بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ﴾: نصيبهم ﴿عِندَ اللّهُ﴾: لا عند موسى أو غيره.

(132): ﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾: وكلمة لك (لك) تومئ أن العناد لدافع شخصي لا مبدئي.

(133): ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾: المطر الشديد، أغرق البيوت، وأتلف الأملاك ﴿وَالْجَرَادَ﴾: أكل زرعهم وثمارهم ﴿وَالْقُمَّلَ﴾: تعلقت على جلودهم وشعورهم ﴿وَالضَّفَادِعَ﴾: امتلأت بها فرشهم وأوانيهم ﴿وَالدَّمَ﴾: تحول ماؤهم إلى دم.

(134)- (135): ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾: هذا العذاب ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا...﴾: فزعوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا ونتوب ولا نعود، فدعا موسى ربه، فكشف عنهم العذاب إلى أمد معلوم كي يمهد لهم سبيل التوبة ويقيم عليهم الحجة، ولكنهم عادوا على ظل التمرد والمعصية.

(136): ﴿فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ﴾: البحر بذنوبهم، وما كان لهم من واق.

(137): ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ﴾: وهم بنوا إسرائيل ، فقد كان يستضعفهم فرعون وقومه ﴿مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾: بالخصب وكثرة الأرزاق، ومشارق الأرض ومغاربها إشارة إلى سلطان داوود وسليمان على بني إسرائيل، وأنهما أقاما دولة في أرض فلسطين، لها حدودها الشرقية والغربية، ولكن سرعان ما ذهبت مع الأيام، وحكم رقاب الإسرائيليين بختنصر ثم الفرس والعرب والأتراك واليونانيين وغيرهم من القوميات والأمم، والصهيونية أعلم الناس بذلك، ولكنها تستر به دينها ولإيمانها بأن كل ما كان في نطاق قدرتها فهو حلال محلل لها أرضًا كان أو مالًا أو دمًا.

(138): ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾: ما أن انتهت متاعب موسى (ع) مع فرعون وقومه حتى ابتدأت متاعبه مع بني إسرائيل، وهي أمر وأشد على نفسه من متاعب فرعون أضعافا مضاعفة حيث قالوا من جملة ما ﴿قَالُواْ﴾: بكل وقاحة وصلافة: ﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾: يطلب اليهود من النبي الذي أُرسل إليهم بالتوحيد أن يتخذ لهم أصنامًا بنفسه ويده! أبعد هذا يقال: كيف حطم موسى الألواح من سورة الغضب؟ ﴿قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾: سفهاء لؤماء.

(139)- (140): ﴿إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ﴾: مهلك ومدمر ﴿مَّا هُمْ فِيهِ﴾: من السفه والشرك ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: تقدم في الآية 47 من البقرة.

(141): ﴿وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ...﴾: تقدم في الآية 49 من سورة البقرة.ٌ

(142): ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾: طلب موسى من ربه أن ينزل عليه كتابًا يهدي به الناس، فوعده سبحانه أن ينزل الكتاب بعد 30 ليلة، ويستمر إنزاله عشر ليال ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ﴾: عند خروجه إلى الجبل للمناجاة: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾: شؤونهم ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾: لا تطع من دعاك منهم إلى الإفساد واحمله على الصلاح ما استطعت.

(143): ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا﴾: للوقت الذي حددناه لنزول التوراة ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾: رأيتك بقلبي وعقلي، وأُحب أن تتجلى لعيني عن إفراط شوق ﴿قَالَ لَن تَرَانِي﴾: لأن هذه الرؤية ممتنعة ذاتا ﴿وَلَـكِنِ﴾: سأُريك بعض آثار القدرة الإلهية ﴿انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾: والمفروض أن الجبل لم يستقر، فالرؤية إذن ممتنعة وغير ممكنة، وكأنه يقول لموسى: إن رؤيتي مستحيلة فلا طلبها، ولكن اطلب شيئًا آخر، وهو كيف أفعل بهذا الجبل فانظر إليه ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ﴾: أي أمر ربه ﴿لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾: غار في الأرض، ولم يبق له عين ولا أثر ﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾: غاب عن وعيه لهول المفاجأة ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾: من سؤال رؤيتك ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾: بجلالك وعظمتك.

(144): ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾: من أهل زمانك ﴿بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي﴾: بالنبوة والتكليم ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ﴾: التوراة وشرف النبوة والحكمة ﴿وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾: لهذه النعم.

(145): ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ﴾: التوراة ﴿مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾: احتاجت إليه بنو إسرائيل آنذاك ﴿مَّوْعِظَةً﴾: بالتبشير والتحذير ﴿وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾: من الحلال والحرام ﴿فَخُذْهَا﴾: التوراة ﴿بِقُوَّةٍ﴾: احرص على العمل بها والدعوة إليها بجد واجتهاد ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا﴾: بأكثرها أجرًا وثوابًا كالعفو وكظم الغيظ والصدقة المستحبة.

(146): ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ﴾: أي أن الله سبحانه يحفظ دينه الحق، ويظهره على الشرك كله، ويصرف عنه الجبابرة الطغاة الذين يحاولون إبطاله جاهدين ﴿وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا...﴾: حدد سبحانه في هذه الآية السفلة أدق وأجمع تحديد: فالحق والعدل عندهم كلام فارغ، والحجج والبراهين تصورات وهمية، والدين والإيمان جهل وجمود، وحساب الله وثوابه وعقابه خرافات ومغيبات! ... أبدًا لا شيء في الوجود إلا المعدة والنقود!.

(147): ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾: والمراد بآيات الله، الحق سواء أكان الطريق إلى معرفته العقل أم الوحي، وكل من أنكر الحق من حيث هو فعمله هباء، ووجوده كعدمه حتى ولو صادف الحق والواقع.

(148): ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ﴾: أي من بعد خروجه إلى الطور ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾: بضم الحاء، وهي ما تتزين به النساء ﴿عِجْلاً جَسَدًا﴾: وليس رسمًا بالألوان والجسد بدل من العجل أو صفة أي مجسدًا ﴿لَّهُ خُوَارٌ﴾: صوت كصوت البقر ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً﴾: صنعوا العجل بأيديهم وعبدوه... وأية غرابة؟ فأكثر الناس يعبدون الدرهم والدينار، وهما من صنع أيديهم.

(149): ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ﴾: عضوها ندامة على سوء فعلهم، وسألوا الله الرحمة والغفران.

(150): ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا﴾: تركهم على التوحيد فوجدهم مشركين، فثار و ﴿قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ﴾: ارتدوا عن دينهم في حياة موسى، فإذا تكون الحال بعد موته؟ ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾: المراد بأمره تعالى غياب موسى عن قومه وانتظاره بأمر الله أربعين ليلة، وفي آية ثانية (أفطال عليكم العهد- 86 سورة طه) والمعنى ما انتظرتم حتى يعود إليكم موسى ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾: كانت التوراة بيده فوضعها جانبا ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾: في قاموس الكتاب المقدس أن هرون كان أكبر من أخيه موسى بثلاث سنين ﴿يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾: يجذبه نحوه لهول ما رأى من الكفر والشرك ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي﴾: رأوني ضعيفًا وعاجزًا عن ردعهم بالقوة ﴿وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي﴾: لشدة ما أنكرت وحذرت ﴿فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ﴾: وبك أيضًا ﴿الأعْدَاء﴾: وهم الذين عبدوا العجل ﴿وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾: لا تظهر غضبك علي كما أظهرته عليهم، وهنا يلين موسى، وتأخذه عاطفة الرحمة والأخوة، وناجى ربه بقوله:

(152): ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ ...﴾: تهديد ووعيد لكل من عبد هواه سواء أتمثل بعجل أم بشخص أم بنقد أم بحزب.

(153): ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ﴾: ما من شك أن من تاب عن الذنب كمن لا ذنب له.

(154): ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ...﴾: النبي معصوم، ما في ذلك ريب، ولكن العصمة لا تحوّله عن طبيعة الإنسان إلى طبيعة ثانية، تسلب عنه صفة الرضا والغضب، بخاصة إذا كانا لله، والمؤمن إذا غضب لا يخرج عن الحق، وإذا رضي لا يدخل في باطل.

(155): ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ﴾: منصوب بنزع الخافض أي من قومه ﴿سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا﴾: صحبهم معه إلى الطور ليسمعوا كلام الله، ويزدادوا إيمانًا، ولما سمعوا كلامه جل وعز قالوا: أرنا الله جهرة ﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾: الصاعقة عقابًا لهم على هذه الجرأة ﴿قَالَ﴾: موسى: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾: اختار موسى من بني إسرائيل 70 رجلا، وصحبهم معه إلى الله، ولما طلبوا الرؤية سفها وجهلا أهلكهم سبحانه من دون موسى. فما يصنع؟ هل يعود إلى بني إسرائيل وحيدًا فريدًا وهل يقبلون منه لو أعلمهم بالحقيقة؟ إنه لموقف يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة، فتضرع إلى الله سبحانه أن يكشف عنه ما هو فيه ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا﴾: كلا، إنك أجل وأعظم ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾: أي منحتك وابتلاؤك ﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء﴾: والله سبحانه عادل وحكيم، ويستحيل في حقه أن يضل أحدًا من عباده إلا أن يختارها هو بملء حريته (فلما زاغوا أزاغ الله بقلوبهم- 5الصف) ﴿وَتَهْدِي مَن تَشَاء﴾: بعد أن يختار العبد الهداية لنفسه (والذين اهتدوا زادهم هدى- 17 محمد).

(156): ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء﴾: من المجرِمين ومن أهل المعاصي ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾: فما من مؤمن ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو منقلب في نعمة الله ورحمته، وبكلمة العذاب مشروط بالمعصية، أما الرحمة فهي بلا قيد وشرط ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾: على الحتم والجزم يوم القيامة ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾: أي يأتمرون بأمر الله وينتهون بنهيه.

(157): ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ﴾: محمدًا، والأمية وصف خاص به من دون الأنبياء، إشعارًا بأنه على أُميته أخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ﴾: أي يجدون أوصافه ﴿مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ﴾: تقدم في الآية 146 من البقرة ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾: أثقالهم أي أنه تعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر ﴿وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾: فالإنسان حر في آرائه وفي اختيار الأسلوب الذي يتلاءم معه في الحياة على أن تنتهي حريته عند حرية الآخرين ومصلحتهم، لأن الحرية الخاصة تحمل في طبعتها مكروب القضاء على كل حرية. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الآية الكريمة تحدد الإسلام بكلمات قليلة وواضحة يمكن تلخيصها بأنه حينما يوجد الخير والمصلحة فثم دين الله وشريعته ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ﴾: بمحمد ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾: أعانوه في إحياء الإسلام ونشره، ووقروه ﴿وَنَصَرُوهُ﴾: على قوى الشر وأعداء ﴿الخير وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ﴾: والمراد بهذا النور كتاب الله وسنة نبيه ﴿أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾: دنيا وآخرة.

(158): ﴿قُلْ﴾: يا محمد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا...﴾: الإسلام دين أهل الأرض جميعًا بلا استثناء، لا لأنه نزل على محمد (ص) دون سواه، بل لأنه دين العقل والعلم والحياة الإنسانية. هكذا ندعي نحن المسلمين، وعلى طالب الحق والحقيقة أن ينظر ويدرس، ثم يحكم بوحي من عقله وضميره، شريطة أن يكون كفؤا علما وخلقا، ويكفي في هذا الموجز أن نشير إلى هذا المبدأ القرآني النبوي، وهو أن الإسلام باتفاق الجميع ينهى عن التقليد والجهل بشتى صوره، ويأمر باتباع العلم والعقل، والعمل بموجب العدل والمجاراة، وبالتقوى والاستقامة والعمل الصالح النافع، وما بعد اللم والعدل والصلاح إلا الجهل والجور والفساد.

(159): ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى﴾: كان اليهود ومازالوا أشد الناس عداوة للحق وأهله وعلى هذا الأساس أعلنوا الحرب على رسول الله (ص) وما آمن به إلا قليل كعبد الله بن سلام وابن صوريا.

(160): ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا﴾: جمع سبط، وهو في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب ﴿أُمَمًا﴾: أي نسل كل سبط صار جماعة كثيرة ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ﴾: وهم في التيه ﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾: فضربه ﴿فَانبَجَسَتْ﴾: انفجرت ﴿مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾: تقدم في الآية 60 من البقرة ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ﴾: تقدم في الآية 57 من البقرة.

(161)- (162): ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ? إلى قوله - يَظْلِمُونَ﴾: تقدم في الآية 58 وما بعدها من البقرة.

(163): ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾: على شاطئه، والغرض من هذا السؤال التقريع والتوبيخ ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾: يتجاوزون حدود الله بصيد الأسماك في يوم السبت، وقد نهوا عنه ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً﴾: ظاهرة على وجه الماء، فكانت الحيتان تكثر وتظهر للعيان في هذا اليوم ابتلاءً لهم إذ كان صيدهما حرامًا عليهم، وتغيب عنهم في سائر الأيام.

(164): ﴿وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا...﴾: انقسم الإسرائيليون في صيد الحيتان يوم السبت ثلاث فرق: الأولى عصت. والثانية عارضت. والثالثة وقفت عن الحياد، لم تعص ولم تعارض، وقالت الثانية والثالثة: اتركوا العصاة لله وحده، فإنه يستأصلهم عن آخرهم أو يبقيهم مع العذاب الأليم. فقالت الثانية: نهيناهم ليعلم الله سبحانه أنّا كارهون لما يفعلون، وأيضًا نرجو أن يرتدعوا عن غيهم.

(165): ﴿فَلَمَّا نَسُواْ﴾: العصاة ﴿مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾: وهو نهي جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾: لأن التقوى عتق من الشهوات، ونجاة من المهلكات ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾: شديد من البؤس.

(166): ﴿فَلَمَّا عَتَوْاْ﴾: تكبروا وتمردوا ﴿عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾: مطرودين، وتقدم في الآية 65 من البقرة.

(167): ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾: من الإيذان بمعنى الإعلام ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ...﴾: تقدم في الآية 112 من آل عمران.

(168): ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا﴾: تفرقوا جماعات شتى لا وطن ولا دولة، وحاولت الصهيونية أن تقيم دولة على الباطل... ونحن على يقين بأن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة... ومصائر الخلق بيد الله لا بيد الصهيونية ومن يساندها ﴿مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾: تقدم في 159 من هذه السورة.

(169): ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾: أردأ وأسوأ، والخلف بسكون اللام ذم، وبفتحها مدح ﴿وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾: بقيت التوراة في خلف السوء ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى﴾: وهو المال الحرام كالربا والرش والغش والبغاء، ويقولون: ما دمت أعيش فليهلك العالم ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾: لأنهم شعب الله المختار كما يفترون ﴿وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾: يأخذ اليهود الحرام أول مرة، ويقولون: لا بأس هو مغفور ثم يأخذونه مرات ومرات غير مكترثين ولا مستغفرين، لأن الله أرصد لهم الغفران والأمان! ولا عنصرية إجرامية تشبه هذه العنصرية ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ...﴾: هكذا تكذيب لليهود في زعمهم أن الله يغفر لهم مهما عصوا، ووجه الرد والتكذيب أن اليهود درسوا التوراة، وهي تقول بصراحة: يغفر لمن تاب وأقلع عن الذنب وإن من أصر عليه فهو من الهالكين، وأيضًا أخذت التوراة عهدًا وميثاقًا على كل من آمن بالله أن لا يفتري الكذب عليه، واليهود يكذبون عليه ويفترون.

(170): ﴿وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾: يعملون بأمره ونهيه ﴿وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ﴾: وكل من ترك الصلاة فهو عند الله من المجرمين حتى ولو أحيا الناس أجمعين، أجل إنه تعالى كما قال: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾: أبدًا لكل شيء عند الله سبحانه حساب وجزاء.

(171): ﴿وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ...﴾: اقتلعناه ورفعناه فوق اليهود حين أبوا أن يأخذوا التوراة بشرط الالتزام بها وتقدم في الآية 63 من البقرة.

(172): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾: وأخذ الذرية هنا عبارة عن إخراجهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى الحياة الدنيا جيلا بعد جيل ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾: بما أودع فيهم من عقول، وما في الكون من بينات ودلائل على وجوده تعالى ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾: والشواهد على وجود الله سبحانه يحملها الإنسان في جسمه وروحه فضلا عن الكون، بل وفي فطرته حتى ولو كان ملحدًا، والفرق أن وجوده تعالى يتجلى في فطرة الملحد عندما يصهره الخطب والكرب (وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أُحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين (يونس) ﴿شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾: لا عذر لمن شك في الله وهو يرى خلقه إلا أن يكون مجنونًا، وإن قال قائل: رأينا ألوف العقلاء يشكون ويجحدون قلنا في جوابه: نريد الجنون الخفي الذي يفسر ويعلل كل شيء بأصله وعلته إلا الكون العجيب، يعلله ويفسره بالصدفة ويقول المثل الإنكليزي: (لو كان الجنون يؤلم صاحبه لسمعت الصراخ من كل بيت).

(173)- (174): ﴿أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾: وهذه الآية واضحة الدلالة على أن من شأن التوحيد أن يكون من المسلمات والبديهات، وليس موضعًا للاجتهاد أو التقليد تمامًا كوجود الأرض والشمس، وقال بعض الفلاسفة جاء الخفاء من شدة الظهور والجلاء.

(175): ﴿وَاتْلُ﴾: يا محمد ﴿عَلَيْهِمْ﴾: على اليهود ﴿نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا﴾: جاء في التفاسير أن عالمًا من علماء بني إسرائيل اسمه بلعم بن لاعور، أُوتي شيئًا من علم الكتاب، ولكنه كفر بعد ذلك وتزندق، ولم أجد اسم باعور ولا بلعم في قاموس الكتاب المقدس ولا في فهرس هذا الكتاب ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ﴾: صار قرينًا له.

(176): ﴿وَلَوْ شِئْنَا﴾: أن نلجئه قهرًا إلى العمل بعمله ﴿لَرَفَعْنَاهُ بِهَا﴾: أي لارتفعت منزلته وخلد ذكره ﴿وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ﴾: أي مال إلى الدنيا وزينتها، ورغب فيها ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ﴾: هذه الحال الدائمة للكلب في الحر والبرد والتعب والراحة، وكذلك من ينقاد إلى أهوائه، وينطلق معها سواء أنصحته أم تجاهلته ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾: حدث اليهود يا محمد عن الذين زاغوا من أسلافهم وما آل إليه أمرهم، عسى أن يعتبروا بمن مضى، ويعلموا أنك تنطق بوحي من الله سبحانه، فتقوم الحجة لله ولك عليهم.

(177): ﴿سَاء﴾: فعل ماض والفاعل ضمير مستتر أي أساء المثل ﴿مَثَلاً﴾: تمييز ﴿الْقَوْمُ﴾: مبتدأ وخبره جملة ساء ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ﴾: بدل من القوم ﴿بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾: أي وكانوا يظلمون أنفسهم.

(178): ﴿مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾: أن المهتدي حقًا وواقعًا هو من عند الله مهتديًا حتى ولو كان عند الناس من ضالين ﴿وَمَن يُضْلِلْ﴾: أي من كان ضالا عند الله لا عند الناس ﴿فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾: حتى ولو كانوا في الدنيا سادة وقادة.

(179): ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا﴾: خلقنا ﴿لِجَهَنَّمَ﴾: اللام للعاقبة مثل لدوا للموت ﴿كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾: خلق سبحانه العقلاء، ومنحهم مع العقل الحرية والقدرة، وأمرهم ونهاهم، فمنهم سمعوا وأطاعوا فدخلوا الجنة، وكثير منهم عصوا وتمردوا فدخلوا النار بسوء اختيارهم (وما ربك بظلام للعبيد- 46 فصلت). ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾: العقل من شأنه أن يدرك، وأيضًا من شأن العين أن تبصر والأذن أن تسمع، ولكن إذا طغت العاطفة فلا إدراك ولا سمع ولا بصر إلا لها، وأي عقل بصدق رأي الوالدة في ولدها، والعدو ضد عدوه ﴿أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾: غير المغفول عنهم.

(180): ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾: كل أسمائه تعالى على مستوى واحد في الحسن حيث لا حالات متعددة ولا صفات متغايرة للذات القدسية ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾: بأي اسم شئتم، فكل واحد منها يعبر عن تنزيهه وتعظيمه، وليس الله اسم أعظم واسم غير أعظم ﴿وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾: ينحرفون بها إلى الأصنام كاشتقاق كلمة اللات من الله والعزى من العزيز.

(181): ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾: بعد أن أشار سبحانه في الآيات السابقة أن كثيرًا من الجن والإنس للنار. أشار هنا أن أُمة أو جماعة للجنة.

(182): ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾: قد تتابع النعم على الإنسان، فيتمادى في طغيانه ذاهلًا عن المخبآت والمفاجآت حتى إذا قال الناس: طوبى له فاجأته ساعة السوء.

(183): ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾: والمراد بكيده سبحانه أنه تعالى يمهلهم حتى إذا ركنوا إلى ما هم فيه أخذهم من حيث لا يشعرون. وفي نهج البلاغة: الحذر الحذر، فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر.

(184): ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ﴾: وفي الآية 22 من التكوير: (وما صاحبكم بمجنون). قال مشركو العرب للرسول الأعظم (ص): إنك لمجنون! ولا غرابة- على منطقهم وعاداتهم- ألم يجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وقال وثار على عاداتهم وتقاليدهم، وقال لهم من جملة ما قال: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم- 98 الأنبياء) (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين- 54 الأنبياء). ولو كان محمد (ص) في هذا العصر لقيل عنه: مخرب هدام.

(185): ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ﴾: أو لم ينظر العقلاء نظرة استدلالية علمية إلى كل ما يقع عليه اسم الشيء في هذا الكون ليعلموا أن الله موجود وأنه على كل شيء قدير، وقد استوحى الشاعر من هذه الآية قوله: (وفي كل شيء له آية. تدل على أنه واحد) ويتمثل في هذا الاستدلال القرآني الكوني المنهج العلمي الذي يستخدم الاستقراء والقياس معًا، يستقرئ الناظر أولًا جزيئات الكون وما فيها من سنن تحكمها وتضبط حركاتها وسكناتها وتفاعلها، وينطلق من ذلك ليقول: في الكون نظام وتدبير ولكل نظام وتدبير مدبر ومنظم، فللكون خالق عليهم ومدبر حكيم ﴿وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾: سارعوا أيها العقلاء إلى النظر في الكون، واستنطقوا ما فيه من آيات بينات تهتدوا بها إلى الحق قبل أن يفاجئكم، وأنتم غافلون ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ﴾: بعد القرآن ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: ومن لا يهتدي بموعظة الله وإرشاده لا يهتدي بشيء.

(186): ﴿مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ﴾: من حاد عن صراطه تعالى فهو ضال تمامًا كمن يمشي مكبًا على وجهه ﴿وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾: إذا خرجوا من طاعته، واستنكفوا عن عبادته.

(187): ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: يا محمد ﴿عَنِ السَّاعَةِ﴾: القيامة ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾: متى وقوعها وحدوثها، وقال أعرابي لرسول الله (ص): متى تقوم الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا﴾: لا يظهرها ﴿لِوَقْتِهَا﴾: في وقتها ﴿إِلاَّ هُوَ﴾: وحده لا شريك له ﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾: أي ثقل وقعها على أهل السموات والأرض لهولها وشدتها ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾: من غير إشعار وإنذار ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾: أي كأنك منهم بالسؤال عنها مثل اهتمامهم.

(188): ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا﴾: هذي هي عقيدة المسلمين بممد (ص)، إنه واحد من الناس، يصيبه ما يصيبهم من عوارض الطبيعة، والفرق أنه بشير ونذير ﴿إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ﴾: ربي، فهو الذي ينفعني، ويدفع الضر عني ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾: حيث لا أقدم إلا على ما ينفع ﴿وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾: حيث أُحجم عما يضر، وما كنت غالبا تارة ومغلوبًا حينًا في الحروب ﴿إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾: وللذين يريدون أن يهتدوا إلى الحق.

(189): ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾: وعلى مستوى واحد في الحقوق والواجبات، ومن سفه الرأي أن يعتقد الإنسان أفضليته على غيره بالجاه والمال أو بالنسب والعنصر ﴿وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾: تقدم في الآية الأولى من النساء ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾: من السكينة بمعنى الطمأنينة ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا﴾: قاربها الزوج ﴿حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا﴾: أي خف عليها حمله، ولم تلق منه الأذى وكرب ﴿فَمَرَّتْ بِهِ﴾: استمرت بالحمل ولم تسقط، وقامت وقعدت وتصرفت كأن لم يكن حمل ﴿فَلَمَّا أَثْقَلَت﴾: حان وقت الولادة، واقترب الوضع ﴿دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: الولد الصالح البار سعادة وهناء لوالديه، والعاق الفاسد شقاء وبلاء.

(190)- (192): ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء﴾: المشهور بين المفسرين أن ضمير المثنى في (آتينا) يعود إلى آدم وحواء، وأن الضمير في (جعلا) يعود إلى أولادهما على حذف مضاف، والذي نراه أن هذه الحكاية ليست عن حادثة معينة بين زوجين بالخصوص، وإنما هي حكاية حال الإنسان بما هو، وأنه إذا أراد شيئًا دعا لله وتضرع، وقطع العهود على نفسه والمواثيق حتى إذا آتاه الله ما أراد نكث العهد وخان تمامًا كقوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون- 65 العنكبوت).

(193): ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ﴾: إن تدعوا أيها المشركون أصنامكم ﴿إِلَى الْهُدَى﴾: إلى أن يهدوكم لما تريدون ﴿لاَ يَتَّبِعُوكُمْ﴾: لا يستجيبوا لكم ﴿سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ﴾: لا فرق بين الصامت والناطق عند الأصنام.

(194): ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ﴾: أي الأصنام ﴿عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾: أي لو افترضنا أن الأصنام أحياء عقلاء؟، كما تزعمون أيها المشركون فهم أمثالكم لا تفاضل فيما بينكم، فكيف تستغيثون بهم إذا نزلت بكم نازلة.

(195): ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ...﴾: أبدًا لا حياة في هذه الأصنام، فكيف تكون شريكة لله في خلقه! وفي نهج البلاغة: كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية- أعطوك صفة- المخلوقين بأوهامهم ﴿قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ﴾: أصنامكم ﴿ثُمَّ كِيدُونِ﴾: أي كيدوني ﴿فَلاَ تُنظِرُونِ﴾: أي فلا تمهلوني، والمعنى قل يا محمد للمشركين اجمعوا أصنامكم لحربي وضرتي، ولا تمهلوني لحظة فهذا أوان مقدرتها وسلطانها.

(196): ﴿إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾: هذا من كلام الرسول الأعظم (ص) يخاطب به المشركين ويقول: أنتم تتولون الأصنام، وأنا أتولى الله الذي نزل علي القرآن، وهو سبحانه يتولى حفظي وحراستي.

(197): ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ...﴾: تقدم قبل في الآية 192.

(198): ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ﴾: أيضًا تقدم في الآية 193، وجاء التكرار، لأن النبي (ص) تحدى الأصنام وعبدتها الطغام ﴿وَتَرَاهُمْ﴾: أي ترى الأصنام ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾: تمامًا كالتماثيل في الكنائس، وفيه إيماء على أن عرب الجاهلية كان لهم شأن في النحت.

(199): ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾: والذي يفهم من كلمة العفو للوهلة الأولى التجاوز عن الذنب، والمراد به هنا ما يعم ويشمل التيسير في كل شيء وعدم التشدد والتعسير في نطاق الشرع وأحكامه، والمراد بالعرف الخير وكل ما فيه جهة نفع وصلاح، وبالإعراض عن الجاهلين الحلم والأناة عند الغضب. هذا هو الإسلام في أخلاقه: حياة فاضلة تقوم على اليسر وعدم الحرج في الدعوة إلى كل خير والعمل به، والإعراض عن القال والقيل وعن الإمام الصادق (ع): ليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق هذه الآية.

(200): ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ﴾: إذا رأيت منكرًا من سفيه أو معصية من فاسق، وغضبت لله، فلا يذهبن الغضب بحلمك، فاصبر واستعذ بالله، وخاطبه بالحسنى، عسى أن يستجيب لك. قال الإمام علي (ع) وفي وصفه تعالى: (ولا يشغله غضب عن رحمة).

(201): ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ﴾: إن المؤمنين حقًا وصدقًا إذا اصطدمت عاطفتهم مع دينهم وقام الصراع بينهما، وأوشكت العاطفة أن تتغلب على الدين ﴿تَذَكَّرُواْ﴾: نهي الله سبحانه وغضبه وعذابه ﴿فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾: بأن العافية للمتقين، فكبحوا عاطفتهم، وأمسكوها بلجام الدين والتقوى عن معاصي الله، وقادوها إلى طاعته.

(202): ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾: الشياطين هم أخوان المجرمين، وأولئك يغرون هؤلاء جاهدين في كل قبيح ورذيلة، وهؤلاء يسرعون إلى الإجابة طائعين.

(203): ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ﴾: كان المشركون يطلبون من النبي (ص) معجزات معينة على سبيل التعنت، فإذا لم يأتهم ﴿قَالُواْ لَوْلاَ﴾: هلا ﴿اجْتَبَيْتَهَا﴾: افتعلتها من عندك أو طلبتها من ربك ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي﴾: الأمر كله في قبضته تعالى، ولا شيء لي منه ﴿هَـذَا بَصَآئِرُ﴾: ودلائل من الله سبحانه تهدي عقول ذوي الضمائر إلى حياة أفضل وأكمل دنيا وآخرة.

(204): ﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ﴾: تدبروا معانيه ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾: روى الإمام علي (ع) عن النبي (ص) أنه قال: ستكون فتن من بعدي. فقال الإمام: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: المخرج كتاب الله... هو حبل الله المتين، ونوره المبين، وهو الذكر الحكيم والصراط المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشجع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الترداد... من عمل به سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.

(205): ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ﴾: أي أُذكره عن علم وفهم لمعاني كلمات الجلال والكمال التي تحمده بها وتمجده ﴿تَضَرُّعاً﴾: متضرعًا ﴿وَخِيفَةً﴾: خائفًا ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ﴾: بصوت متوسط بين الجهر والإخفات، ويروى أن وليًا مر بمن يرفع صوته بالقرآن فقال له: إن ربك غير أصم ﴿بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾: صباحًا ومساء وفي كل حين ﴿وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾: عن ذكر الله وطاعته.

(206): ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ﴾: وهم الذين لهم مكانة ومثوبة عنده تعالى سواء أكانوا من الإنس أم الملائكة ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾: أي يتقربون إليه بكل ما أحب ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾: سجود الخاشعين المتقين.