بلاغـة الأمر في قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً....)

ما سبق من البيان القرآني الكريم فاضت منه معانى الترهيب والوعيد والتهديد على الرغبة عن النِّفار إلى الجنة: النِّفار إلى منازل العزة منازل الجهاد في سبيل الله،والإخلاد إلى متاع الحياة الدنيا.

وقد بلغ ذلك مبلغًا عظيمًا، فتهيأت القلوب التى فيها أثارة من إيمان لأن تقبل على الإغراء الإلهي لها بالمسارعة إلى جنة عرضها السموات والأرض أُعدَّت للمتقين فقال: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدوُا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

هذه الآية خطاب للذين آمنوا السابقِ الإنكار عليهم تَرْكَهم النِّفارَ في سبيل الله تعالى في قوله: (يَأَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلِ لَكُمْ انفروا في سبيلِ الله...)

وهو غير محصورٍ فيهم انحصارهم في عصرهم ومصرهم، فما نزل القرآن الكريم لطائفة من الأمة في زمان ومكان معين لايتعداهم بل هو لكل من كان مثلهم وفي سياقٍ كسياقهم زمانا ومكانًا، فنحن في زماننا هذا رجالا ونساءً، وشبيبة وشيبًا أحـق من يقع عليه ذلك الخطاب، فلا يزعمنَّ زاعمٌ أنَّ هذا الأمر كان خاصًا بالصحابة في غزوة تبوك لايتعداهم، كما يذهب إليه بعض المرجفين بالفتنة فينا الداعين إلى تفسير القرآن الكريم تفسيرًا تاريخيا بحصر الأحكام التشريعية في زمان نزولها ومكانه، وتلك ضلالة مدبر لها بليل بهيم.

الأمر هنا للوجوب المقتضي للتكرار عند جمهرة من أهل العلم، ولا يسقط بالنِّفار مرة واحدة في العمر، بل هو واجب كلما استنفر المسلم ولم يك ذا عذر يحجزه عن تلبية النداء ومن ثمَ جاء قوله: (خفافًا وثقالا) وقد جاء في السنة المطهرة في البخاري من كتاب "الجهاد، والصيد ":

" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال يوم الفتح لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا "

فهذا دالٌ دلالة بينة على أن من استنفر بدعوة إمامه، أو دعوة حال أمته ـ وإن كان إمامه متقاعسًا متثاقلا مثبطا قومه ـ أن ينفر حيث استنفره حال أمته، فلسان حالها أبلغ من ألف لسان، فهذا أوان النِّفار فريضةً لازمة على كل مسلم ومسلمة، وهذا أوان خروج المرأة المسلمة إلى الجهاد في سبيل الله بغير إذن زوجها، وقد أطلق الحق الأمر فلم يقيده بحال كمال الاستطاعة، بل أعلن أنه فرض على كل من كان خفيفا أو ثقيلا، (خفافا وثقالا) وهي كلمة مستعة الدلالة غير مقيدة الخفة والثقل بمجال من مجال المسلم.

يقول الطبري: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنفر لجهاد أعدائه في سبيله خفافا وثقالا وقد يدخل في الخفاف كلّ من كان سهلاً عليه النفر لقوّة بدنه على ذلك وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا تيسر بمال وفراغ من الاشتغال وقادرا على الظهر والركاب.

ويدخل في الثقال كلّ من كان بخلاف ذلك من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن معسر من المال ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهر له ولا ركاب، والشيخ وذو السنّ والعيال.

فإذ كان قد يدخل في الخفاف والثقال من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ من ذلك صنفا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نصب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافا وثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم على كلّ حال من أحوال الخفة والثقل. (1)

قول "الطبري": أمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم..." لايعنى به أنَّ الأمر مقصور عليهم، بل يعنى أن الأمر أوَّل من خوطب به هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأن من كان حاله كحالهم إيـمانًا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان مخاطبًا بذلك الأمر كمثلهم لاينقص منه شيء، فاختلاف الأعصار والأمصار لايلزمه اختلاف التكليف بالأمر والنهي، فهم وإن صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ذاتًا وإيمانا وسنة فإننا والحمد لله رب العالمين نصحبه إيمانا وسنة، فسنته قائمة فينا قيام ذاته، تراه قلوبنا في أسفار السنـة ومعالم التمسك بها من الثُلَّة المباركة التى لن تخلو منها الأرض، وإن تداعت عليها الأمم وتظاهرت على سحقها الولاة.

روى الشيخان بسنديهما عن معاوية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: " لاتَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمةً بِأَمرِ اللهِ، لايَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ". {البخاري:العلم ـ من يردالله به خيرًا،ومسلم:الإمارة ـ لاتزال طائفة ـ النصُّ له ـ ح.ر: 174}.

ويبين" ابوحيان"في تفسيره "أنَّ الخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة وأما من لايمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا " اهـ (2).

ويُفَصِّلُ "الطاهر بن عاشور" هذا بقوله إنهما كلمتان مستعارتان لما يشبههما من أحوال الجيش وعلائقهم، فالخفة تستعارللإسراع

إلى الحرب، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدة، قال قريط بن أنيف العنبري: قومٌ إذا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ {} طاروا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا

فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما قال " أبو الطيب ":

ثقالٌ إذا لاقَوا خِفَافٌ إذَا دُعُـوا

وتستعار الخفة لقلة العدو، والثقل لكثرة عدد الجيش...

وتستعار الخفة لقلة الأزواد أو قلة السلاح، والثقل لضد ذلك

وتستعار الخفة لقلة العيال، والثقل لضد ذلك

وتستعار الخفة للركوب؛ لأن الراكب أخف سيرًا، والثقل للمشي على الأرجل، وذلك في وقت القتال

قال النابغة:

علَى عَرَفاتٍ لِلطِعـانِ عـوابِسٌ بِهِنَّ كُلُـومٌ بيْـنَ دامٍ وجـالِبِ

إذا اسْتُنْزِلُوا عَنْهُنَّ للضَّرْبِ ارْقَلُوا إلى المَوْتِ إِرْقَالَ الجِمَالِ المَصاعِبِ

وكل هذه المعانى صالحة للإرادة من الآية. (3)

وعطف (ثقالا) على (خفافًا) ليس للتنويع أي ليست " الواو" بمعنى " أو" فليس المعنى انفروا خفافا أو ثقالا، بل انفروا في الحالين، فكل مسلم له نصيب من الحالين فهو إن كان خفيفا من المرض فقد يكون ثقيلا من الأهل والولد، وهكذا

ولم يصرح بتقييد الأمر بالنِّفار،كما كان في قوله تعالى(إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) لأن هذا القيد أضحى بيِّنًا مستحضرًا في النفس وأنَّ الله تعالى لن يكون منه أمر بالنِّفار إلى شيء إلا إلى سبيله، ولاسيَّما بعد ما كان من بسـط في التهديد والوعيد والترهيب من ترك النِّفار إلى الجهاد في سبيله،

وجاء قوله (جاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) معطوفًا على (انفروا) على الرغم من أن قوله (انفروا) معناه الدعوة إلى النّفارِ في سبيل الله، أ فيكون هذا من قبيل عطف المؤكِّد على المؤكَّد ؟

النِّفار فيه معنى الانزعاج وسرعة الحركة إلى الشيء، وهذا يكون عند مقاربة الخطر للأمة المسلمة، بحيث يجب الانزعاج والإسراع إلى ساحات الوغى.

وفي الدعوة إلى الجهاد اتساع في الميدان الذي تكون فيه المجاهدة، واتساع في المنهاج والآلات، فإن الجهاد في سبيل الله فرض عين على كل مسلم ومسلمة، إذ هو شامل حركة المسلم بغير استثناء، فما من مسلم إلا وهو قادر على صورة من صور الجهاد في سبيل الله ماكان يتردد في صدره زفير أو شهيق، فإن صور الجهاد لاتكاد

تُعَدُّ ولا تحصر، فإن الاجتهاد في الدعاء الصالح بمنازل الاستجابة من الجهاد، وهل يعجز عن تلك الصورة أحدٌ في صدره شهيقٌ أوْ زفيرٌ ؟

فعطف (جاهدوا) على (انفروا) من عطف عام على خاص، وهو في بيان العربية، ثم في بيان الوحي العَلِيِّ جذُ كثير

وهذا العطف مسلك من مسالك التوكيد في العربية، وهي كثيرة متنوعة، وقد جاءت السنة محرضـة الأمة على الجهاد في سبيل الله تبليغًا لما جاء به الأمر الإلهى لرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (يَأيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِين عَلَى الْقِتَال " فجاء في بيان النبوة: روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: " قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم،فقال: " دُلَّنُي عَلَى عملٍ يَعْدِلُ الجهادَ. قال:لا أجدُه. قال: هَلْ تستطيعُ إذا خرجَ المجاهدُ أن تدخلَ مسجدَك،فتقومَ، ولا تَفْتُرَ،وتصومَ،ولا تَفْطُرَ ؟

قال ومن يستطيع ذلك " { كتاب: الجهاد:ح.ر:2623}

وفي الباب نفسه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:" لَقابُ قَوسٍ في الجَّنة خيرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عليه الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ

وقال لَغَدْوَةٌ أوْ رَوْحَةٌ فِي سبيلِ اللهِ خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَتَغْرُبُ " {ح.ر:2631}

وبسنده عن عبد الرحمن بن جبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال ما اغْبرَّت قَدَما عبدٍ في سبيل الله فتَمَسَّه النارُ." {ح.ر:2656}

وبسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:" مَا أحدٌ يَدخلُ الجنَّة يُحبُّ أن يرجعَ إلى الدُّنيا وله ما على الأرضِ من شيءٍ إلا الشهيدُ يَتَمَنَّى أن يرجعَ إلى الدنيا فيُقتلَ عشرَ مراتٍ لِما يَرَى مِنَ الكَرامَة " {ح.ر:2662 }

وروى "مسلمٌ" في صحيحه من كتاب " الإمارة": بسنده عن أبي هريرة " رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أنه قال:" مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ " {ح.ر: 158/ 191.}

وروى في الكتاب نفسه: كتاب الإمارة بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: " تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبيلِهِ، لايُخرجُه إلاَّ جهادًا في سبيلِي، وإيمانًا بِي وتَصْديقًا برُسُلي، فهوَ عليَّ ضَامِنٌ أنْ أدخلَهُ الجنَّة، أوْ أَرْجِعَهُ إلى مسْكَنِهِ الذِي خرجَ منْهُ، نائلاً ما نَالَ منْ أجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ

والَّذِي نَفْسُ محمَّدٍ بيدِهِ، مَامِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سبيلِ اللهِ إلاَّ جاءَ يَوْمَ القِيامةِ كَهَيْئَتِه يَوْم كُلِمَ لوْنُهُ لَوْنُ دمٍ وَريحُهُ مِسْكٌ.

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى المُسْلِمِينَ مَا قَعدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبيلِ اللهِ أبدًا، وَلَكِنْ لاأَجِدُ سَـعَةً، فَأَحْمِلَهُمْ،ولايَجِدُونَ سَـعَـةً، ويَشُقُّ عَلَيْهِمْ أن يتَخَلَّفُوا عَنَِّي.

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أغْزُو فِي سبيل اللهِ، فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو،فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُ،فَاُقْتَلُ " {ح.ر:1.3/ 1876}

روى " الترمزي " في صحيحه من كتاب الإيمان ? ح.ر: 2616" بسنده عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال".

ألا أُخْبِرُكُمْ بِرَاْسِ الأَمْرِ كُلِّه وَعَمُودِه وذِرْوَةِ سَنَامِه ؟

قُلْتُ: بلَى يارسول الله

قال:رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد..."

وروى في كتاب " الجهاد: ح.ر:1621 بسنده عن فضالةبن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: " كلُّ ميِّتٍ يختَمُ عَلى عملِهِ إلا الذي مات مُرابطًا في سبيلِ اللهِ، فإنَّه يُنْمى له إلى يومِ القيامَة، ويَأمَنُ فتنة القبرِ"

فهذا هو الاستثمار الأعظم وتلك هي التنمية التي يجدر بنا أن يكون لنا منها النصيب الأوفر.، فقد جاء في السنة أيضًا برواية الترمزى "ح.ر: 1625" عن خُرَيْم بن فاتك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: " من أَنْفَقَ فِي سبيلِ اللهِ كُتِبتْ له سبعمائة ضعفٍ "

وفي حديث آخر:"ح.ر: 1628" " عن زيد بن خالد الجُهَنِيِّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال:

" مَنْ جَهَّزَ غازيًا فَقَدْ غَـزا، ومَنْ خَلَفَ غَازيًا في أهله فقد غَزَا"

وإن الأحاديث النبوية في التحريض على الجهاد في سبيل الله كثيرة لايتسع المقام للإشارة إلي كثير منها،وهي في دواوين السنة المرفوعة المسندة محفوظة.

ولا يعجبنى القول بأنَّ الجهاد:" حقيقة في المدافعة بالسلاح، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاق على الجيش واشتراء الكراع والسلاح مجاز بعلاقة السببية " كما يقول " الطاهر بن عاشور " فإن الجهاد دال على جميع صوره دلالة حقيقية فهو من الالفاظ المتواطئة التى يشمل معناها صورًا عديدة تنطوى تحت معنى عام لها، وقد جاء في السنة ما يؤكد أن للجهاد صورًا عدَّة:

جاء في مسند أحمد(3/456) بسنده عن:" عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر ما أنزل أتى النبي فقال إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت وكيف ترى فيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:" إنَّ المُؤمنَ يُجاهدُ بسيفه ولسانه " اهـ

وفيه أيضًا:" كان بشير بن عبد الرحمن بن كعب يحدث أن كعب بن ملك كان يحدث أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: " والـذي نفسـي بيـده لكأنما تنضحونهم بالنبـل فيما تقولون لهم من الشعر "اهـ

وفي " مسلم"من كتاب "الجهاد:{ح.ر: 123/18.2}عن سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع رسول الله إلى خيبر فَتَسَيَّرْنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع ألا تُسْمِعُنَا من هُنَيَّاتِك وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يَحْـدُو بالقوم يقول:

اللهم لولا أنت ما اهْتَدَيْنا ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنَا

فاغْفِرْ فِدَاءً لك ما اقْتَفَيْنَا وَثَبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقْينَا

وألْقِيـنْ سَكِيـنَةً علينا إنَّا إذا صِيـحَ بنا أتينا

وبالصِّياح عَوَّلُوا علينا

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:من هذا السائق ؟

قالوا: "عامر" قال: يرحمه الله.

فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به

قال:فأتينا خيبر فحاصرناهم.............

فلما تصَّاف القومُ كان سيف "عامر" فيه قِصَرٌ فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب ركبة " عامر" فمات منه

قال: فلما قَفَلُوا قال سلمة وهو آخذ بيدي قال: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ساكتا قال: مالك؟

قلت له: فداك أبي وأمي زعموا أن " عامرا " حبط عمله

قال: من قاله ؟ قلت: فلان وفلان وأسيد بن حضير الأنصاري

فقال: كذب من قاله. إن له لأجران، وجمع بين إصبعيه.إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ. قَـلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بها مثله...."

قول الصحابي:" وجبت يارسول الله لولا أمتعتنا به" أي وجبت له الشهادة لقول الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: يرحمه الله" فقد فهم الصحابي(وفي رواية" مسلم "أنه "عمربن الخطاب" ? ح.ر: 18.7) أن هذا إنباء من النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأن سيستشهد، فقال الصحابي لولا أخرت هذه الدعوة ليبقى معنا نتمتع بصحبته.

فهذا دالٌ دلالة بينة على أن صور الجهاد في سبيل الله عزَّ وجل لاتعد ولا تحصى، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى "

روى " البخاري " في " الجهاد " بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قوله"... من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهوفي سبيل الله "

فلسان المرء كسيفه إذا ما كان المرمى أن تكون كلمة الله هي العليا.إنِّ إخلاص النية، واتباع ما جاء به الكتاب والسنة يجعل كل عمل صالحًا، وكل عمل صالح يجعل كلمة الله أي شريعته هى العليا، فإذا ما جاء مرفوعًا عن " ابن مسعود ":" من كثَّر سَوَادَ قَوْمٍ، فهو منهم، ومن رضي عمل قومٍ كان شريك من عمل به" أخرجه أبو يعلى (4) فإن في هذا دلالة لاتغيم على أنَّ كل عمل فيه القصد إلى أن تكون كلمة الله هي العليا هو من الجهاد في سبيل الله.

وجاء في هذه الآية تقديم الأموال والأنفس على قوله (في سبيل الله) وجاء في غيرها بتقديم في سبيل الله:

{} لايَسْتَوَي الْقَاعِدونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ والْمُجاهِدونَ فِي سَبيلِ اللهِ بِأمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ..." (النساء: 95)

{} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَرُوا وَجاهَدوا بِأمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِم في سبيلِ الله"(الأنفال:72)

{} الَّذِينَ آمَنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللهِ بأمْوالِهِمْ وأَنْفُسِهِمِ أَعْظَمُ دَرَجَةًعِنْدَ اللهِ " (التوبة:2.)

{} انْفِرُوا خِفافًا وثِقالاً وَجاهِدُوا بأمْوالِكُم وأنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ" (التوبة:41)

{} فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يُجاهِدُوا بِأمْوالِهِمْ وِأنْفُسِهِمْ فِي سَبيلِ اللهِ..." (التوبة:81)

{} إنَّماالْمُؤْمِنونَ الَّذِينَ آمَنـوا بِاللهِ وَرَسُولِه ثُـمَّ لَمْ يَرْتابُوا وجاهَدُوابِأمْوالِهِم وَأنْفُسِهِم فِي سَبيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"(الحجرات: 15)

{} يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِه،وَتُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ بأمْوالِكِمْ وأنْفُسِكُمْ ذلِكم خَيْرٌ لكُم إنْ كُنتُم تَعْلَمُون " (الصف: 1.-11)

فهذه سبعة مواطن في أربعة منها قدم "الأموال والأنفس " على قوله (في سبيل الله):(الأنفال:72- التوبة:41، 81- الحجرات: 15)

وفي ثلاثة أخر عن قوله(في سبيل الله) (النساء: 95- التوبة:2.- الصف: 11)

ولم يأت في أي موطن من هذه المواطن ولا في غيرها تقديم " الأنفس" على الأموال" إلا في آية واحدة في غير هذه المواطن هي قوله تعالى: "إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوالَهُم بِأنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.." (التوبة:111)

وهذا من تصريف البيان القرآني الكريم، ولكل صورة من هذه الصور ما يقتضيها في سياقها.

في سورة التوبة جاءت ثلاث آيات: الأولى كان فيها تقديم (في سبيل الله) وما بقي أخر فيه (في سبيل الله)

فأيُّ الصور هي الأصل في اللغة: تقديم الظرف أم الآلة ؟

من البين أنَّ المتعلِّقات ليس فيما بينها ترتيب محفوظ يلزم إذا لم يكن ما يقتضي العدول عنه،إلا أن يكون المفعول به، فمن قال: أعنت محمدًا ليلة سفره بألف دينار محبة له، أو قال: أعنت محمدًا محبة له بألف دينار ليلة سفره " لايكون أحدهما هو الأصل والآخر عدولاً عنه، بل يكون في كل صورة إلاحَـة إلى ما هو المهم عندك أو عنده.

كذلك في تقديم الأموال والأنفس على السبيل إنما يكون لأمر راجع إلى بيان أهمية ما يجاهد به، وتقديم السبيل إنما يكون لأمر راجع إلى بيان ما يجاهد فيه:

جاءت الآية العشرين من سورة التوبة:" الَّذِينَ آمَنُوا وهاجَروا وجاهَدوا في سبيل الله بأمْوالِهم وأنْفُسِهم أعْظَمُ دَرجةً عِندَ اللهِ وأؤلئك هُمُ الفائِزُونَ) في معرض الإنكار على من جعل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، فإن السقاية والإعمار بغير إيمان سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، فالسياق هنا لبيان أهمية أن تكون أفعالنا صادرة عن إيمان وأن تكون في سبيل الله الذي نؤمن به جلَّ جلالُه، فكان السياق مقتضيًا هنا تقديم ما يدل على أهمية أن يكون العمل مخلصًا لله رب العالمين، ومن ثم قال الله تعالى مبينًا:" لايَسْتَوُون عِنْدَ اللهِ"

وفي الآيتين (41، 81) من سورة التوبة كان التقديم للآلة(أموالكم وأنفسكم) ووجه هذا أن الآية الحادية والأربعين جاءت في سياق الإنكار والتوبيخ والتهديد والوعيد لمن تثاقل عن النِّفار في غزوة العسرة حيث الحَـرُّ وبُعْدُ الشُّقَّةِ وطيب الظلال تحت الأشجار في الديار والبساتين، فرغبوا في هذه عن إنفاق أموالهم وإجهاد أنفسهم، فاقتضى السياق تقديم ما كان سببا في تثاقهم ورغبتهم عن الجهاد: الأموال ومتاع الأنفس.

وفي الآية الحادية والثمانين سياق الآية وسباقها يكتنفها بما يصرح بأن النكير عليهم كراهة الجهاد بأموالهم وأنفسهم.

تجد هذا جليًا من أول قوله تعالى:" " ومِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ الله لَئِنْ آتانا مِنْ فضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ".

وتراه في صدر الآية:" فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَن يجَاهِدُوا بَأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لاتَنْفِرُوا فِي الحَرِّ ".

هذا كله دالٌ دلالة بَيِّـنَةً على أنَّ السِّياقَ هنا قاضٍ بأنَّ تقدُّمَ الآلة على السبيل هو العَلِيُّ بلاغـة.

أمَّا تقديم الأموال على الأنفس في المواطن كلها خلا الآية الحادية عشرة بعد المئة (إن الله اشْتَرَى...) فإن محبة المرء لماله أكثر من محبته لنفسه وحرصه عليه أضعاف حرصه على سلامة نفسه، وإن تظاهر كثير من الناس بغير ذلك، ألا ترانا نلقى بأنفسنا في رهق الحياة الدنيا لنجمع ما فضل عن حاجاتنا إن كنا نجمعه من حلال ؟ وألا ترى كثيرًا منا يلقى بنفسه في المذلة في دنياه وفي الحطمة في أخراه ـ وهو العليم بذلك ـ من أجل جمعه لأموال من حرام ؟

كلنا أو جُلُّـناالمال حبيب إليه أكثر من نفسه وولده

(وتُحِبُّونَ المَال حُبًّا جَمًّا){الفجر:2.}

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ){العاديات:8}

على أن المجاهدة بالمال مجالها متسع جدًا، ويتمكن منه كثير من الناس إذا ما أخلصوا، وحاجة الجهاد إلى الأموال أكثر من حاجته إلى الأنفس، ولاسيما أن أكثر الأمة نساء، وبعض الرجال غير صالح للجهاد بنفسه لعذر شرعيٍّ، فكان هذا وجهًا آخر لتقديم المال على النفس.

وكأنَّ في تقديم المال بُشرَى للأمة أن المال فيها سيفيض ويكثر في أيدى كثير منهم مما ييسر لهم المشاركة في فريضة الجهاد في سبيل الله.

أمَّـا تقديم النفس على المال في " إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم......." فوجهه أن هذه الآية جاءت لبيان وجه البسط في كشف أستار المنافقين والمتثاقلين عن الجهاد في سبيل الله تعالى وأنَّهم إِنَّما نُدِبُوا إلى القيام بالوفاء بالمبايعة التى بايعوا الله عز وجل عليها وأنها مبايعة كان المشترِي فيها مشتريًا ما كان هو المانحه لمن يشترى منه، فاعجب لمشْتَرٍ يشترى ما وهب مِمَّنْ وهب، لما كانت النفوس هي التى يتجلى فيها كمال الهبة و انتفاء أن يكون للمرء دخل في اكتسابها قدمت على المال الذي قد تظن بعض النفوس أن لها في اكتسابه دخلا عظيمًا، وذلك شأن السائرين على سنن قارون القائل: " إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي" {القصص: 78}.

فاقتضَي المقام كما ترى تقديم ما كان أقوى في تصوير فضل الله على المؤمنين باشتراء ما وهبه وحده لهم بأنَّ لهم الجنة، وبرغم من هذا يبخل على أنْفًسِهِم المتثاقلون أن يقدموا ما وُهِبُوا في سبيل الله عزَّ وجلَّ ليفوزوا بهبة هى أعلى وأعظم:

" وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"(آل عمران: 18)

" هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَن يَبْخَلُ ومَن يبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوا يسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لايَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ "{محمد: 38}

وفي اسم الإشارة (ذلكم) من قوله تعالى: (ذلكُـم خيرٌ لكُمْ) استحضار لما سبق الأمر به من النِّفار خفافًا وثقالا، والجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله ليخبر عنه بذلك الخبر العظيم (خير لكم) وهو خبر من الذي وسع علمه كل شيء، فلا يبقى في نفس عاقلٍ أن ثَمَّ شيئًا هو خير له مما يؤمر به في هذ الآية.

وجاء المسند (خير) منكرًا إشارة إلى تعظيمه وتنويعه وأنه لايحاط به، وأنه غير مقصور أو محصور في زمان أو حياة من دون حياة فإن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة لمن جاهد واستشهد أو أبلى وصدق، وفيه عزُّ الدنيا لم جاء من بَعدُ، فلولا الجهاد ما كان لمسلم عزة في الدنيا، فإنه ما ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله إلا ذلُّوا، وقد أنبأ النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بذلك.

في مسندأحمد (ج:2/42) بسنده عن عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم قال: " لئن تركتم الجهادَ وأخذْتم بأذنابِ البقرِ وتَبايَعْتُم بالعِينَة ليُلْزِمَنَّكُم الله مَذَلَّةً في رِقابِكُم لاتَنْفَكُّ عَنْكُم حتَّى تتوبوا إلى الله وتَرجِعُوا عَمَّا كنتم عليه ".

فانظر في حال قومك، أليس هذا ما هَـدَّدَ به نبي الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولن يكون الفكاك منه إلا بما أخبر أنه السبيل إلى الفكاك: أن تتوبوا إلى الله وترجعوا عما كنتم عليه ".

" يَأيُّهَا الذين آمنوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنةً لاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خََاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"{الأنفال: 24-25}.

وكان البيان بهذا الخبر مجردًا من المؤكدات إبلاغًا في أنه قد بلغ بما سبق من البسط في تسفيه من أخلد إلى الأرض وأعرض عن النِّفار إلى الجهاد في سبيل الله مبلغًا عظيمًا في التقرر والرسوخ لايبقى عاقل في حاجة إلى مزيد تأكيد معه،وفي الوقت نفسه إلاحَـة إلى أنه تعجز كل المؤكدات عن أن تضيف شيئًا إلى ماسبق من تقرير وترسيخ، فإذا ما كان في الناس من يقضِي ظاهر حاله أنه لمَّا يزل مفتقرًا إلى تأكيد بعديد من المؤكدات، فإن مثل هذا جدير بأن يُعْرَضَ عنه، فإنك لو ظلِلْت العمر كله تؤكد له تلك الحقيقة لبقى قلبه أغلف كصخرة صماء لايؤثر فيه شيء، فذلك الذي ختم الله على قلبه.

" أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ"(الجاثية:23) .

وقد جاء في السنة النبوية المطهرة ما يصرف هذه الحقيقة القرآنية: (ذلكم خير لكم): في البخاري من كتاب الجهاد:" قيل يارسول الله:أيُّ الناس افضل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله..." .

وفي (مسندأحمد) قال رسول الله والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل تبتغى فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله ولا ثقل ميزان عبد كدابة تنفق له في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله) .

الكتاب و السنة هاديان إلى أن الجهاد في سبيل الله عزّ وجلَّ خير للعبد من متاع الحياة الدنيا.

وجاءت الفاصلة (إن كنتم تعلمون) لبيان أن هذا إنما ينتفع بهديه أولو العلم، فقوله (كنتم) دال على أن ما سبق بيانه يفتقر المرء إلى أن يكون ممن يعلم لينتفع به فيكون خيرًا له، وهذا دال على أن الهدي القرآني إنما ينتفع به من كان مؤهلا أن يكون من أهل العلم أمَّا من كان غيرذلك فلن يكون إلا وبالا عليهم:

" قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِين لايُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئكَ يُنَادَوْنَ من مَكَانٍ بَعيدٍ " (فصلت: 44) .

فالقرآن الكريم إنما ينتفع به من كان مهيئًا لذلك، ومن لم يختم الله على قلبه والله عز وجل يختم سورة " التوبة" بتقرير هذه الحقيقة: " وَإذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {}

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ {}

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهثمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ {}

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَة نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُون {}َ

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتْمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {}

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَعَلَيْهِ تَوِكَّلْتُ وَهُوَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ "

فشأن المؤمن أنه كلما جاءه الهدى من عند الله آمن به وصدقه، فكان ذلك زيادة في رصيده الإيمانى إذ أضحى ما يؤمن به الآن أكثر وأكبر مما كان يؤمن به من قبل، وإذا زاد رصيد العبد فيما يؤمن به زاد عطاءالإيمان على قلبه نورًا على نور، وبضده شأن المنافق والمتهالك في المعاصي كلما جاءه الهدى أعرض عنه فزاد رصيده في الإعراض والعصيان فزداد بعدًا عن ربه، وهذا تفسير قرآنى مبين لقوله (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) فإن من كان ذا علم يحمله علمه على أن يوقن بأن ما أمره به ربه تعالى إنَّما هو خير عميم له في دنياه وأخراه

" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّواشَيْئًا وَهُوَشَرٌّلَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ "{البقرة:216}


1- جامع البيان للطبري: ج 6/424

2- البحر المحيط لأبي حيان:ج 5 / 44

3التحرير والتنوير 1./2.7}

4- فتح الباري 13/31= ك: الفتن)