الآيات 1-5

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴿1﴾ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿2﴾ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿3﴾ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿4﴾ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿5﴾

اللغة:

الفتح ضد الأغلاق وهو الأصل ثم استعمل في مواضع فمنها الحكم والقضاء ويسمى الحاكم فتاحا والفتاحة الحكومة ومنها النصر والاستفتاح الاستنصار ومنها فتح البلدان ومنها العلم وقوله وعنده مفاتح الغيب من ذلك.

المعنى:

﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾ أي قضينا لك قضاء ظاهرا عن قتادة وقيل معناه يسرنا لك يسرا بينا عن مقاتل وقيل معناه أعلمناك علما ظاهرا فيما أنزلناه عليك من القرآن وأخبرناك به من الدين وقيل معناه أرشدناك إلى الإسلام وفتحنا لك أمر الدين عن الزجاج ثم اختلف في هذا الفتح على وجوه:

(أحدها) أن المراد به فتح مكة وعدها الله ذلك عام الحديبية عند انكفائه منها عن أنس وقتادة وجماعة من المفسرين قال قتادة نزلت هذه الآية عند مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية بشر في ذلك الوقت بفتح مكة وتقديره إنا فتحنا لك مكة أي قضينا لك بالنصر على أهلها وعن جابر قال ما كنا نعلم فتح مكة إلا يوم الحديبية (وثانيها) إن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية وكان فتحا بغير قتال قال الفراء الفتح قد يكون صلحا ومعنى الفتح في اللغة فتح المنغلق والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتحه الله وقال الزهري لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير فكثر بهم سواد الإسلام وقال الشعبي بويع بالحديبية وذلك بيعة الرضوان وأطعم نخيل خيبر وظهرت الروم على فارس وفرح المسلمون بظهور أهل الكتاب وهم الروم على المجوس إذ كان فيه مصداق قول الله تعالى إنهم سيغلبون و﴿يبلغ الهدي محله﴾ والحديبية بئر روي أنه نفذ ماؤها فظهر فيها من أعلام النبوة ما اشتهرت به الروايات قال البراء بن عازب تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فما ترك منها قطرة فبلغ ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها وتركها ثم إنها أصدرتنا نحن وركابنا وفي حديث سلمة بن الأكوع إما دعا وإما بزق فيها فجاشت فسقينا وأسقينا وعن محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج لزيارة البيت لا يريد حربا فذكر الحديث إلى أن قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انزلوا فقالوا يا رسول الله ما بالوا ذي ماء فأخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كنانته سهما فأعطاه رجلا من أصحابه فقال له أنزل في بعض هذه القلب فأغرزه في جوفه ففعل فجاش بالماء الرواء حتى ضرب الناس بعطن وعن عروة وذكر خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح وإلى الماء فنزلوا عليه فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قد سبق نزل على الحديبية وذلك في حر شديد وليس فيها إلا بئر واحدة فأشفق القوم من الظمأ والقوم كثير فنزل فيها رجال يمتحونها ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلو من ماء فتوضأ ومضمض فاه ثم مج فيه وأمر أن يصب في البئر ونزع سهما من كنانته وألقاه في البئر فدعا الله تعالى ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها وروى سالم بن أبي الجعد قال قلت لجابر كم كنتم يوم الشجرة قال كنا ألفا وخمسمائة وذكر عطشا أصابهم قال فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بماء في تور فوضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنه العيون قال فشربنا وسعنا وكفانا قال قلت كم كنتم قال لو كنا مائة ألف كفانا كنا ألفا وخمسمائة (وثالثها) أن المراد بالفتح هنا فتح خيبر عن مجاهد والعوفي وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري كان أحد القراء قال شهدنا الحديبية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزءون الأباعر فقال بعض الناس لبعض ما بال الناس قالوا أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخرجنا نوجف فوجدنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واقفا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع الناس إليه قرأ ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾ السورة فقال عمر أ فتح هو يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل فيها أحد إلا من شهدها(ورابعها) أن الفتح الظفر على الأعداء كلهم بالحجج والمعجزات الظاهرة وإعلاء كلمة الإسلام ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ قد قيل فيه أقوال كلها غير موافق لما يذهب إليه أصحابنا أن الأنبياء معصومون من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها قبل النبوة وبعدها (فمنها) أنهم قالوا معناه ما تقدم من معاصيك قبل النبوة وما تأخر عنها (ومنها) قولهم ما تقدم الفتح وما تأخر عنه (ومنها) قولهم ما وقع وما لم يقع على الوعد بأنه يغفره له إذا وقع (ومنها) قولهم ما تقدم من ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك وما تأخر من ذنوب أمتك بدعوتك والكلام في ذنب آدم كالكلام في ذنب نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن حمل ذلك على الصغائر التي تقع محبطة عندهم فالذي يبطل قولهم إن الصغائر إذا سقط عقابها وقعت مكفرة فكيف يجوز أن يمن الله سبحانه على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يغفرها له وإنما يصح الامتنان والتفضل منه سبحانه بما يكون له المؤاخذة به لا بما لو عاقب به لكان ظالما عندهم فوضح فساد قولهم ولأصحابنا فيه وجهان من التأويل (أحدهما) أن المراد ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك وما تأخر بشفاعتك وأراد بذكر التقدم والتأخر ما تقدم زمانه وما تأخر كما يقول القائل لغيره صفحت عن السالف والآنف من ذنوبك وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال والسبب بينه وبين أمته ويؤيد هذا الجواب ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال سأله رجل عن هذه الآية فقال والله ما كان له ذنب ولكن الله سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي (عليه السلام) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر وروى عمر بن يزيد قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) عن قول الله سبحانه ﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ قال ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له (و الثاني) ما ذكره المرتضى قدس الله روحه أن الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول والمراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك عن مكة وصدهم لك عن المسجد الحرام ويكون معنى المغفرة على هذا التأويل الإزالة والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه أي يزيل الله تعالى ذلك عنك ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فستدخلها فيما بعد ولذلك جعله جزاء على جهاده وغرضا في الفتح ووجها له قال ولو أنه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن قوله ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله﴾ معنى معقول لأن المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح فلا يكون غرضا فيه وأما قوله ﴿ما تقدم﴾ و﴿ما تأخر﴾ فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح بك وبقومك وقيل أيضا في ذلك وجوه أخر (منها) إن معناه لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك (ومنها) أن المراد بالذنب هناك ترك المندوب وحسن ذلك لأن من المعلوم أنه ممن لا يخالف الأوامر الواجبة فجاز أن يسمى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسم ذنبا لعلو قدره ورفعة شأنه (ومنها) أن القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما قيل في قوله عفا الله عنك وهذا ضعيف لأن العادة جرت في مثل هذا أن يكون على لفظ الدعاء وقوله ﴿ويتم نعمته عليك﴾ معناه ويتم نعمته عليك في الدنيا بإظهارك على عدوك وإعلاء أمرك ونصرة دينك وبقاء شرعك وفي الآخرة برفع محلك فإن معنى إتمام النعمة فعل ما يقتضيها وتبقيتها على صاحبها والزيادة فيها وقيل يتم نعمته عليك بفتح خيبر ومكة والطائف ﴿ويهديك صراطا مستقيما﴾ أي ويثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة ﴿وينصرك الله نصرا عزيزا﴾ النصر العزيز هو ما يمتنع به من كل جبار عند وعات مريد وقد فعل ذلك بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ صير دينه أعز الأديان وسلطانه أعظم السلطان ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ وهي أن يفعل الله بهم اللطف الذي يحصل لهم عنده من البصيرة بالحق ما تسكن إليه نفوسهم وذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلة الدالة عليه فهذه النعمة التامة للمؤمنين خاصة وأما غيرهم فتضطرب نفوسهم لأول عارض من شبهة ترد عليهم إذ لا يجدون برد اليقين وروح الطمأنينة في قلوبهم وقيل هي النصرة للمؤمنين لتسكن بذلك قلوبهم ويثبتوا في القتال وقيل هي ما أسكن قلوبهم من التعظيم لله ولرسوله ﴿ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم﴾ أي يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح وعلو كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا وقيل ليزدادوا تصديقا بشرائع الإسلام وهو أنهم كلما أمروا بشيء من الشرائع والفرائض كالصلاة والصيام والصدقات صدقوا به وذلك بالسكينة التي أنزلها الله في قلوبهم عن ابن عباس والمعنى ليزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم ﴿ولله جنود السموات والأرض﴾ يعني الملائكة والجن والإنس والشياطين عن ابن عباس والمعنى أنه لو شاء لأعانكم بهم وفيه بيان أنه لو شاء لأهلك المشركين لكنه عالم بهم وبما يخرج من أصلابهم فأمهلهم لعلمه وحكمته ولم يأمر بالقتال عن عجز واحتياج لكن ليعرض المجاهدين لجزيل الثواب ﴿وكان الله عليما حكيما﴾ فكل أفعاله حكمة وصواب ﴿ليدخل المؤمنين والمؤمنات﴾ تقديره إنا فتحنا لك ليغفر لك الله إنا فتحنا لك ليدخل المؤمنين والمؤمنات ﴿جنات﴾ ولذلك لم يدخل واو العطف في ليدخل إعلاما بالتفصيل ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي من تحت أشجارها الأنهار ﴿خالدين فيها﴾ أي دائمين مؤبدين لا يزول عنهم نعيمها ﴿ويكفر عنهم سيئاتهم﴾ أي عقاب معاصيهم التي فعلوها في دار الدنيا ﴿وكان ذلك عند الله فوزا عظيما﴾ أي ظفرا يعظم الله به قدره.