الآيات 26-29

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿26﴾ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿27﴾ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴿28﴾ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴿29﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير عن ابن فليح وابن ذكوان شطاه بفتح الطاء والباقون بسكونها وقرأ ابن عامر ﴿فأزره﴾ بقصر الهمزة والباقون فآزره بالمد وفي الشواذ قراءة الحسن أشداء على الكفار رحماء بينهم بالنصب فيهما وقراءة عيسى الهمداني شطاءه بالمد والهمزة وشطاه أيضا.

الحجة:

قال أبو علي يشبه أن يكون شطا لغة في شطء فيكون كالشمع والشمع والنهر والنهر ومن خفف الهمزة في شطاه حذفها وألقى حركتها على الطاء فقال شطاه قال أبو زيد أشطأت الشجرة بغصونها إذا أخرجت غصونها.

أبو عبيدة أخرج شطأه فراخه وأشطأ الزرع فهو مشطىء أي مفرخ وآزره على فاعله معناه ساواه أي صار مثل الأم وفاعله الشطء أي آزرا لشطء الزرع فصار في طوله قال امرؤ القيس:

بمحنية قد آزر الضال نبتها

مضم جيوش غانمين وخيب

أي ساوى نبته الضال فصار في قامته لأنه لا يرعى ويجوز أن يكون فاعل آزر الزرع أي آزر الزرع الشطء ومن الناس من يفسر آزره أعانه وقواه فعلى هذا يكون آزر الزراع الشطء قال أبو الحسن آزره أفعله وهو الأشبه ليكون قول ابن عامر أزره فعله فيكون فيه لغتان فعل وأفعل لأنهما كثيرا ما يتعاقبان على الكلمة ومن قرأ أشداء بالنصب فهو نصب على الحال من معه أي هم معه على هذا الحال.

اللغة:

الحمية الأنفة والإنكار يقال فلان ذو حمية منكرة إذا كان ذا غضب وأنفة والكفار الزراع هنا لأن الزراع يغطي البذر وكل شيء قد غطيته فقد كفرته ومنه يقال لليل كافر لأنه يستر بظلمته كل شيء قال:

ألقت ذكاء يمينها في كافر وقال لبيد:

في ليلة كفر النجوم غمامها

الإعراب:

محمد مبتدأ ورسول الله عطف بيان والذين معه عطف على محمد وأشداء خبر محمد وما عطف عليه وقيل محمد مبتدأ ورسول الله خبره والذين معه مبتدأ وما بعده خبره ﴿يبتغون فضلا من الله﴾ إن شئت كان في موضع الحال وإن شئت كان خبرا بعد خبر وإن شئت كان هو الخبر فيمن نصب أشداء ويكون تراهم أيضا في موضع النصب مثل أشداء.

﴿ذلك مثلهم في التوراة﴾ ابتداء وخبر والكلام تام ثم ابتدأ فقال ﴿ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه﴾ فلهم مثلان أحدهما في التوراة والثاني في الإنجيل وقال مجاهد بل قوله ﴿أشداء على الكفار﴾ مع ما بعده جميعا في التوراة والإنجيل وكذلك قوله ﴿كزرع أخرج شطاه﴾ في التوراة والإنجيل فيكون قوله ﴿كزرع﴾ خبر مبتدإ مضمر أي هم كزرع أخرج شطاه.

المعنى:

ثم قال سبحانه ﴿إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية﴾ إذ يتعلق بقوله لعذبنا أي لعذبنا الذين كفروا وأذنا لك في قتالهم حين جعلوا في قلوبهم الأنفة التي تحمي الإنسان أي حميت قلوبهم بالغضب ثم فسر تلك الحمية فقال ﴿حمية الجاهلية﴾ أي عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له وذلك أن كفار مكة قالوا قد قتل محمد وأصحابه آباءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه الحمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم وقيل هي أنفتهم من الإقرار لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم حيث أراد أن يكتب كتاب العهد بينهم عن الزهري ﴿فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى﴾ وهي قول لا إله إلا الله عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ﴿وكانوا أحق بها وأهلها﴾ قيل أن فيه تقديما وتأخيرا والتقدير كانوا أهلها وأحق بها أي كان المؤمنون أهل تلك الكلمة وأحق بها من المشركين وقيل معناه وكانوا أحق بنزول السكينة عليهم وأهلها وقيل وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها وقد يكون حق أحق من غيره أ لا ترى أن الحق الذي هو طاعة يستحق بها المدح أحق من الحق الذي هو مباح لا يستحق به ذلك ﴿وكان الله بكل شيء عليما﴾ لما ذم الكفار بالحمية ومدح المؤمنين بلزوم الكلمة والسكينة بين علمه ببواطن سرائرهم وما ينطوي عليه عقد ضمائرهم ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق﴾ قالوا إن الله تعالى أرى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أن المسلمين دخلوا المسجد الحرام فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا مكة قال المنافقون ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام فأنزل الله هذه الآية وأخبر أنه أرى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصدق في منامه لا الباطل وأنهم يدخلونه وأقسم على ذلك فقال ﴿لتدخلن المسجد الحرام﴾ يعني العام المقبل ﴿إن شاء الله آمنين﴾ قال أبو العباس ثعلب استثنى الله فيما يعلم ليستثني الناس فيما لا يعلمون وقيل أن الاستثناء من الدخول وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة وقد مات منهم أناس في السنة فيكون تقديره لتدخلن كلكم إن شاء الله إذ علم الله أن منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها فأدخل الاستثناء لأن لا يقع في الخبر خلف عن الجبائي وقيل أن الاستثناء داخل على الخوف والأمن فأما الدخول فلا شك فيه وتقديره لتدخلن المسجد الحرام آمنين من العدو إن شاء الله فهذه الأقوال الثلاثة للبصريين وقيل إن أن هنا بمعنى إذ أي إذ شاء الله حين أرى رسوله ذلك عن أبي عبيدة ومثله قوله وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين قال معناه إذ كنتم وهذا القول لا يرتضيه البصريون ﴿محلقين رءوسكم ومقصرين﴾ أي محرمين يحلق بعضكم رأسه ويقصر بعض وهو أن يأخذ بعض الشعر وفي هذا دلالة على أن المحرم بالخيار عند التحلل من الإحرام إن شاء حلق وإن شاء قصر ﴿لا تخافون﴾ مشركا ﴿فعلم﴾ من الصلاح في صلح الحديبية ﴿ما لم تعلموا﴾ وقيل علم في تأخير دخول المسجد الحرام من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بينهم والصلح المبارك موقعه ﴿فجعل من دون ذلك﴾ أي من قبل الدخول ﴿فتحا قريبا﴾ يعني فتح خيبر عن عطا ومقاتل وقيل يعني صلح الحديبية.

عمرة القضاء:

وكذلك جرى الأمر في عمرة القضاء في السنة التالية للحديبية وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخل مكة مع أصحابه معتمرين وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى المدينة وعن الزهري قال بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) بين يديه إلى ميمونة بنت الحرث العامرية فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب وكان تحته أختها أم الفضل بنت الحرث فزوجها العباس رسول الله فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أصحابه فقال اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ليرى المشركون جلدهم وقوتهم فاستكف أهل مكة الرجال والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وهم يطوفون بالبيت وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متوشحا بالسيف يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله

اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

يا رب إني مؤمن لقيله

إني رأيت الحق في قبوله

ويشير بيده إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنزل الله في تلك العمرة الشهر الحرام بالشهر الحرام وهو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتمر في الشهر الحرام الذي صد فيه ثم قال سبحانه ﴿هو الذي أرسل رسوله﴾ يعني محمدا ﴿بالهدى﴾ أي بالدليل الواضح والحجة الساطعة وقيل بالقرآن ﴿ودين الحق﴾ أي الإسلام ﴿ليظهره على الدين كله﴾ أي ليظهر دين الإسلام بالحجج والبراهين على جميع الأديان وقيل بالغلبة والقهر والانتشار في البلدان وقيل أن تمام ذلك عند خروج المهدي (عليه السلام) فلا يبقى في الأرض دين سوى دين الإسلام ﴿وكفى بالله شهيدا﴾ بذلك ثم قال سبحانه ﴿محمد رسول الله﴾ نص سبحانه على اسمه ليزيل كل شبهة.

تم الكلام هنا ثم أثنى على المؤمنين فقال ﴿والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ قال الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أن كانوا يتحرزون من ثياب المشركين حتى لا تلتزق بثيابهم وعن أبدانهم حتى لا تمس أبدانهم وبلغ تراحمهم فيما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه ومثله قوله أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ﴿تريهم ركعا سجدا﴾ هذا إخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ﴿يبتغون فضلا من الله ورضوانا﴾ أي يلتمسون بذلك زيادة نعمهم من الله ويطلبون مرضاته ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾ أي علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشد بياضا عن ابن عباس وعطية قال شهر بن حوشب يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر وقيل هو التراب على الجباه لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب عن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي العالية وقيل هو الصفرة والنحول عن الضحاك قال الحسن إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى وقال عطاء الخراساني دخل في هذه الآية كل من صلى الخمس ﴿ذلك مثلهم في التوراة﴾ يعني أن ما ذكر من وصفهم هو ما وصفوا به في التوراة أيضا تم ذكر نعتهم في الإنجيل فقال ﴿ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه﴾ أي فراخه عن الضحاك وقيل ليس بينهما وقف والمعنى ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل جميعا عن مجاهد والمعنى كمثل زرع أخرج شطأه أي فراخه ﴿فآزره﴾ أي شده وأعانه وقواه وقال المبرد يعني أن هذه الأفراخ لحقت الأمهات حتى صارت مثلها ﴿فاستغلظ﴾ أي غلظ ذلك الزرع ﴿فاستوى على سوقه﴾ أي قام على قصبه وأصوله فاستوى الصغار مع الكبار والسوق جمع الساق والمعنى أنه تناهى وبلغ الغاية ﴿يعجب الزراع﴾ أي يروع ذلك الزراع أي الأكرة الذين زرعوه قال الواحدي هذا مثل ضربه الله تعالى بمحمد وأصحابه فالزرع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله وكانوا في ضعف وقلة كما يكون أول الزرع دقيقا ثم غلظ وقوي وتلاحق فكذلك المؤمنون قوى بعضهم بعضا حتى استغلظوا واستووا على أمرهم ﴿ليغيظ بهم الكفار﴾ أي إنما كثرهم الله وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين بتوافرهم وتظاهرهم واتفاقهم على الطاعة ثم قال سبحانه ﴿وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ أي وعد من أقام على الإيمان والطاعة ﴿منهم مغفرة﴾ أي سترا على ذنوبهم الماضية ﴿وأجرا عظيما﴾ أي ثوابا جزيلا دائما.