سورة المائدة

(1): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ في الخبر العهود ويعم كلما عقد الله على عباده وكلفهم به أو ويتعاقدونه بينهم ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾ هي الأزواج الثمانية والجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تحريمه كآية حرمت عليكم الميتة إلخ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ حال من ضمير لكم أو أوفوا ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ حال من ضمير محلي أي أحلت لكم حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون ﴿إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ من تحليل أو غيره.

(2): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ﴾ حدوده أو فرائضه أو مناسكه أو دينه جمع شعيرة أي علامة ﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ بالقتال فيه ﴿وَلاَ الْهَدْيَ﴾ ما أهدي إلى الكعبة ﴿وَلاَ الْقَلآئِدَ﴾ جمع قلادة هي ما قلد به الهدي من نعل وغيره علامة له ﴿وَلا آمِّينَ﴾ قاصدين ﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ بأن تقاتلوهم ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ ثوابه ورضاه عنهم في الآخرة والجملة حال من مستكن آمين تشعر بعلة المنع ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ من الإحرام ﴿فَاصْطَادُواْ﴾ إن شئتم ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ لا يحملنكم ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ شدة بغضهم ﴿أَن﴾ لأن ﴿صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني عام الحديبية ﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾ بالانتقام وقتالهم ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾ فعل الطاعة وترك المعصية ﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المعاصي وتعدي حدود الله ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ في أوامره ونواهيه ﴿إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه.

(3): ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ التي تموت حتف أنفها ﴿وَالْدَّمُ﴾ أي المسفوح منه ﴿وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ﴾ رفع الصوت به للصنم أو ما لم يسم الله سمي غيره أم لا ﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾ التي ماتت بالخنق ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾ التي تضرب حتى تموت ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ التي تردت من علو إلى أسفل فماتت ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾ التي نطحها أخرى فماتت ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾ منه فمات ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أدركتم ذكاته من المذكورات سوى الخنزير والدم ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ على حجر أو صنم ﴿وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾ بالقداح هو قمار كان في الجاهلية فحرمه الله وفسر بميسر كان بينهم وهو استقسام الجزور بالأقداح العشرة على الأنصباء المعلومة ﴿ذَلِكُمْ﴾ التناول للمذكورات ﴿فِسْقٌ﴾ حرام ﴿الْيَوْمَ﴾ أي الآن أو يوم نزولها وهو يوم الجمعة عرفة حجة الوداع ﴿يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ فيقطع طمعهم من ارتدادكم ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾ أن يقهروكم ﴿وَاخْشَوْنِ﴾ بإخلاص ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ ببيان الأحكام والفرائض وأصول الشرائع أو ينصركم على عدوكم وروى العامة والخاصة أنها نزلت بعد نصب النبي عليا خليفة يوم غدير خم ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ بولاية علي أو إكمال الدين أو فتح مكة ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ من بين الأديان ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ إلى تناول شيء من هذه المحرمات وهو متصل بالمحرمات وما بينهما اعتراض ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ مجاعة ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ﴾ غير متعمد أو مائل ﴿لِّإِثْمٍ﴾ بأن يأكل تلذذا أو يتعدى حد الضرورة أو يبغي على الإمام أو يقطع الطريق ﴿فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بعباده لا يعاقب المضطر فيما رخص له.

(4): ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ كأنهم لما تلي عليهم المحرمات سألوا عما أحل لهم ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ ما لم تستخبثه الطباع السليمة أو ما لم يدل دليل على حرمته ﴿وَمَا عَلَّمْتُم﴾ عطف على الطيبات أو شرط جوابه فكلوا ﴿مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾ كواسب الصيد على أهلها من الكلاب بقرينة ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ أي حال كونكم صاحبي كلاب أو مؤدبين لها دون سائر الجوارح، فعنهم (ليهم السلام): هي الكلاب وما عداها فلا تأكل من صيده إلا ما أدركت ذكاته ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ﴾ من طرق التأديب إلهاما أو اكتسابا ﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ وإن قتلته وإذا أكلته فكل ما بقي وقيل لا يؤكل ﴿وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ﴾ أي سموا على ما علمتم عند إرساله أو على ما أمسكن إذا أدركتم ذكاته ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ في حدوده ﴿إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ فيؤاخذكم بتعديها.

(5): ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ أي الحبوب والبقول كما في المستفيضة وأخذ بظاهره الجمهور حتى الذبائح ومنهم من استثنى نصارى تغلب واختلف في المجوس ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ﴾ لا عليكم أن تطعموهم ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ عطف على الطيبات أي العفائف والحرائر وتخصيصهن للأولوية ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ ظاهره حل نكاح كل كتابية ذمية أو حربية دائما أو منقطعا أو ملكا فيخص آية ولا تنكحوا المشركات إن شملت الكتابية وعن الباقر (عليه السلام): أنه منسوخ بتلك ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ مهورهن ﴿مُحْصِنِينَ﴾ أعفاء ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ غير زانين جهرا ﴿وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ أخلاء تزنون بهن سرا والخدن يقال للذكر والأنثى ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ﴾ بترك العمل أو ينكر شرائع الإسلام ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ الهالكين.

(6): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ من النوم أو أردتم القيام إليها ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ أمروا الماء عليها ولا يجب الدلك ولا تخليل الشعر إذ الوجه ما يواجه به ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ غاية للمغسول من اليد لا الغسل وكذا القول في الأرجل أو إلى بمعنى مع ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ أي بعضها بإجماعنا والنص الباقري ويختص بالمقدم إجماعا منا ونصا ويكفي المسمى ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ بالجر كما عن حمزة وابن كثير وأبي عمر وأبي بكر ونصبه الباقون عطف على رءوسكم محلا ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ﴾ عطف على فاغسلوا وتحتج به على وجوب الغسل لغيره أو لنفسه أو على إذا قمتم فيفيد الوجوب لنفسه ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم﴾ فسر في النساء ﴿مِّنْهُ﴾ من الصعيد أو التيمم ومن للتبعيض ويحتج بها لاشتراط علوق التراب ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم﴾ في الأمر بالوضوء والغسل والتيمم ﴿مِّنْ حَرَجٍ﴾ من ضيق ﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ﴾ من الأحداث والذنوب ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ بشرعه ما به يطهركم ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمته.

(7): ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ﴾ بالإسلام ﴿وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم﴾ عاقدكم ﴿بِهِ﴾ من مبايعتكم النبي على السمع والطاعة في العسر واليسر وما بين لكم في حجة الوداع من الأحكام وفرض الولاية، أو بيعة العقبة وبيعة الرضوان ﴿إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ فيما تأمر وتنهى ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ في كفران النعمة ونقض ميثاقه ﴿إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بسرائرها فبغيرها أولى.

(8): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ﴾ بحقوقه ﴿شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ لا يحملنكم بغض الكفار على ترك العدل معهم ﴿اعْدِلُواْ هُوَ﴾ أي العدل ﴿أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ فيجازيكم به.

(9)-(10): ﴿وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين.

(11): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ﴾ يعني أهل مكة من قبل فتحها ﴿أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بالقتل ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾ بالصلح يوم الحديبية ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ فإنه يكفي من توكل عليه.

(12): ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾ بأن يخرجوا إلى أريحا لقتل جبابرتها ﴿وَبَعَثْنَا﴾ التفات ﴿مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا﴾ كفيلا شهيدا من كل سبط يأمرهم بالوفاء بما أمروا به ﴿وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ﴾ للقسم ﴿أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ نصرتموهم وأصله المنع ومنه التعزيز ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ﴾ بالإنفاق في سبيله ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ مصدر أو مفعول ﴿لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ جواب للقسم ناب جواب الشرط ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الميثاق ﴿مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾ أخطأ طريق الحق.

(13): ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم﴾ ما زائدة ﴿مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ﴾ أبعدناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو عذبناهم بالجزية ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ منعناهم الألطاف حتى قست ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا﴾ تركوا نصيبا جزيلا ﴿مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ في التوراة من اتباع محمد إذ حرفوها أو زلت أشياء منها بشؤم تحريفهم عن حفظهم ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ خيانة أو فرقة خائنة أي الخيانة عادتهم كأسلافهم ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾ لم يخونوا وهم الذين ءامنوا ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾ إن تابوا أو بذلوا الجزية وقيل مطلق، نسخ بآية السيف ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ إلى الناس.

(14): ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى﴾ ادعوا نصرة الله بهذا الاسم ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ كما أخذنا من اليهود ﴿فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ في الإنجيل ﴿فَأَغْرَيْنَا﴾ ألزمنا من غري به لصق به ﴿بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ بين فرق النصارى الثلاث أو بينهم وبين اليهود ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ بالحساب والعقاب.

(15): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ جنسه خطاب لليهود والنصارى ﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ كالرجم ونعته (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبشارة عيسى به ﴿وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ مما تخفونه أو عن كثير منكم ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ﴾ محمد والقرآن ﴿وَكِتَابٌ﴾ القرآن ﴿مُّبِينٌ﴾ للحق.

(16): ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾ من آمن ﴿سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ سبل الله أو السلامة من عذابه ﴿وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمان ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بلطفه ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ طريق الحق أو طريق الجنة.

(17): ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ قيل: هم اليعقوبية القائلون بالإتحاد، وقيل: لم يصرحوا به ولكن لزمهم ذلك لزعمهم أنه لاهوتي وقولهم بوحدة الإله ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ﴾ من يمنع من أمره ﴿شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ فالمسيح مقهور لا يملك دفع الهلاك عن نفسه كسائر الممكنات فكيف يكون إلها ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ ومنه المسيح ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ يخلق من ذكر وأنثى، ومن ذكر بلا أنثى كحواء، ومن أنثى بلا ذكر كعيسى، ومن غير ذكر وأنثى كآدم.

(18): ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ أشياع ابنيه عزير والمسيح كما يقول حشم الملك نحن ملوك أو مقربون عنده قرب الأولاد من والدهم ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ بالقتل والأسر والمسخ والنار أياما معدودة كما زعمتم والأب لا يعذب ابنه ولا الحبيب حبيبه ﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ كسائر الناس ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ فيجازي كلا بعمله.

(19): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ ما يحتاج إلى البيان ﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾ على حين فتور من إرسال الرسل إذ ليس بينه وبين عيسى رسول بل أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي ومدة ذلك 669 سنة ستمائة وتسع وستون سنة ﴿أَن﴾ كراهة أن أو لأن ﴿تَقُولُواْ﴾ اعتذارا ﴿مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ فلا عذر لكم إذا ﴿وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من الإرسال وغيره.

(20): ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ﴾ هداكم وأعزكم بهم ولم يجعل في أمة ما جعل منكم من الأنبياء، وقيل: هم الأنبياء ما بين موسى وعيسى مدة 1700 سنة ألف وسبعمائة سنة وهم ألف نبي ﴿وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا﴾ لملك فرعون أو ذوي دور وخدم أو مالكين لأموركم بعد أن كنتم مملوكين للقبط ﴿وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾ من المن والسلوى وفلق البحر وتظليل الغمام وغيرها أو أريد عالمي زمانهم.

(21): ﴿ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ الشام أو بيت المقدس أو الطور وما حوله ﴿الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ﴾ أن تكون لنا مسكنا، أو أمركم بدخولها ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا﴾ لا ترجعوا ﴿عَلَى أَدْبَارِكُمْ﴾ منهزمين خوفا من الجبابرة، أو لا ترتدوا على دينكم بالعصيان ﴿فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ الدارين.

(22): ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ من العمالقة ولا يتأتى لنا مقاومتهم ﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ إذ لا نطيقهم.

(23): ﴿قَالَ رَجُلاَنِ﴾ كالب ويوشع ﴿مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ الله قيل: كانا من الجبابرة أسلما وأتيا موسى ﴿أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا﴾ بالتوفيق للإيمان صفة أخرى لهما أو اعتراض ﴿ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ﴾ باب قريتهم ولا تخشوهم فإنهم أجسام بلا قلوب ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ علما ذلك من إخبار موسى وقوله: كتب الله لكم أو مما عهدا من قهر الله أعداء موسى ﴿وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ به وبوعده.

(24): ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا﴾ بدل بعض من أبدا ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله.

(25): ﴿قَالَ﴾ موسى ﴿رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ﴾ فافصل ﴿بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.

(26): ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ لا يدخلونها ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾ يسيرون فيها متحيرين ﴿فَلاَ تَأْسَ﴾ لا تحزن ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ روي: لبثوا في التيه أربعين سنة يسيرون من المساء إلى الصباح فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، ومات فيه هارون ثم موسى.

(27): ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ﴾ قابيل وهابيل ﴿بِالْحَقِّ﴾ بالصدق ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا﴾ اسم لما يتقرب به إلى الله روي: أن آدم أمر أن يدفع الوصية إلى هابيل فغضب قابيل وكان أكبر فقال: قربا قربانا فمن أيكما يقبل دفعتها إليه ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا﴾ هابيل إذ قرب من خير غنمه ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾ قابيل إذ قرب أردأ زرعه ﴿قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ﴾ توعده بالقتل لفرط حسده له على تقبل قربانه ﴿قَالَ﴾ جوابا له ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ أي إنما أصبت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني.

(28): ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ ظلما ﴿مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ﴾ دفعا ومقابلة ﴿إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.

(29): ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ﴾ ترجع متلبسا ﴿بِإِثْمِي﴾ بإثم قتلي ﴿وَإِثْمِكَ﴾ الذي كان منك من قبل، أو أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي وإثمك ببسطك يدك إلي ولم يرد بالذات معصية أخيه وشقاوته، أو أريد بالإثم عقوبته ﴿فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ بظلمك لي ﴿وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ﴾ من قوله أو قول الله.

(30): ﴿فَطَوَّعَتْ﴾ سهلت ﴿لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾ قيل وهو ابن عشرين سنة بالهند، أو عقبة حراء، أو موضع مسجد البصرة ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ للدارين إذ بقي عمره طريدا فزعا.

(31): ﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ﴾ روي لما قتله لم يدر ما يصنع به فجاء غرابان فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمخالبه ودفن فيه صاحبه ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي﴾ يستر ﴿سَوْءةَ أَخِيهِ﴾ جسده الميت فإنه يستقبح أن يرى ﴿قَالَ يَا وَيْلَتَا﴾ احضري فهذا وقتك وألفها بدل ياء المتكلم ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾ في العلم ﴿فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ على قتله لاسوداد جسده وتبري أبيه منه وحمله له سنة إذ تخير فيه ولم يندم عن توبة.

(32): ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وغيرهم ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ﴾ قتل ﴿نَفْسٍ أَوْ﴾ بغير ﴿فَسَادٍ فِي الأَرْضِ﴾ كالشرك وقطع الطريق ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ فإنه هتك حرمة الدماء وسن القتل وجرأ الناس عليه، أو لاستواء قتل الواحد والجميع في استجلاب العذاب ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ أنقذها من سبب هلكة ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ لما مر ﴿وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ﴾ بعد ما كتبنا عليهم وجاءتهم الرسل بالآيات الواضحة ﴿فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ مجاوزون الحد بالقتل والشرك.

(33): ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ روي: أن المحارب من شهر السلاح وأخاف الطريق في المصر أو لخارجه ﴿أَن يُقَتَّلُواْ﴾ قصاصا أو حدا ﴿أَوْ يُصَلَّبُواْ﴾ مع القتل إن قتلوا وأخذوا المال ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ﴾ اليد اليمنى والرجل اليسرى إن أخذوا المال ولم يقتلوا ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾ من بلد إلى بلد بحيث لا يمكنون من القرار في بلد إن أخافوا فقط، والآية لا تفيد التفصيل بل ظاهرها تخير الوالي بينها في كل محارب كما في بعض الروايات المعتبرة وفي بعضها التفصيل ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ ﴾ فضيحة ﴿فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مع ذلك.

(34): ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ قيل استثناء بالنسبة إلى حق الله فقط ويؤيده ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

(35): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ ما تتوسلون به إلى ثوابه من الطاعة ﴿وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ﴾ أعداءه لإعزاز دينه ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ تظفرون بنعيم الأبد.

(36): ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ﴾ ثبت ﴿أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ﴾ من المال ﴿جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

(37): ﴿يُرِيدُونَ﴾ يتمنون ﴿أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ وأبدل ما هم بخارجين عن وما يخرجون للمبالغة.

(38): ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ﴾ دخلت الفاء لشبهه بالجزاء لأن أل موصولة ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ من أصول الأصابع وبترك الإبهام عندنا فإن عاد قطعت رجله اليسرى من أصل الساق ويترك العقب فإن عاد خلد في السجن ﴿جَزَاء بِمَا كَسَبَا﴾ مفعول له أو مصدر، وكذا ﴿نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.

(39): ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

(40): ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ خطاب للنبي أو لكل أحد ﴿أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاء﴾ من العصاة ﴿وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء﴾ منهم ﴿وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ومنه التعذيب والمغفرة وقدم عليها لمقابلة تقدم السرقة على التوبة أو لتقدم استحقاقه.

(41): ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾ في إظهاره إذا وجدوا منه فرصة ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾ بيان ﴿قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ متعلقة بقالوا ﴿وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ حال أو عطف على قالوا ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ زيدت اللام لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما تفتريه أحبارهم أو للعلة والمفعول محذوف أي سماعون قولك ليكذبوا عليك ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي قابلون لقول قوم آخرين من اليهود لم يحضروا عندك تكبرا أو بغضا لك أو سماعون منك لأجلهم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ عن مواضعه التي وضعه الله فيها ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ﴾ أي إن أفتاكم محمد بهذا الحكم المحرف فاقبلوه ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ شَيْئًا﴾ بل أفتاكم بخلافه ﴿فَاحْذَرُواْ﴾ أن تقبلوه نزلت في عبد الله بن أبي حيث قالت له بنو النضير: إن بيننا وبين قريظة عهد في القتل مخالف للتوراة فسل محمدا أن لا ينقضنا إن تحاكمنا إليه فقال ابعثوا رجلا يسمع كلامي وكلامه فإن حكم لكم بما تريدون وإلا فلا ترضوا به ﴿وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ﴾ اختياره ليفتضح ﴿فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ﴾ في دفع أمره شيئا ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ حيث اختاروا تدنيسها بالكفر لعلمه بأن لطفه لا ينجع فهيم ﴿لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ ذل بالجزية والفضيحة ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ بتخليدهم النار والضمير للفريقين أو اليهود.

(42): ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ كرر تأكيدا ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ الحرام كالرشاء ﴿فَإِن جَآؤُوكَ﴾ متحاكمين إليك ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ خير (صلى الله عليه وآله وسلّم) بين الحكم والإعراض وكذا الأئمة والحكام وقيل نسخ بآية وأن احكم بينهم ﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا﴾ لن يقدروا لك على ضرر ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ فيثيبهم.

(43): ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ﴾ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به مع صراحة الحكم في كتابهم وتنبيه على أنهم ما قصدوا به معرفة الحق بل ما هو أهون عليهم ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ بكتابهم لإعراضهم عنه وعما يوافقه.

(44): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى﴾ إلى الحق ﴿وَنُورٌ﴾ بيان للأحكام ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ﴾ من بني إسرائيل وموسى ومن بعده فيما تتوافق فيه الشريعتان ﴿الَّذِينَ أَسْلَمُواْ﴾ صفة مادحة ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ﴾ الكاملون علما وعملا ﴿وَالأَحْبَارُ﴾ العلماء ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُواْ﴾ بسبب الذي كلفهم الله حفظه عن التبديل ﴿مِن كِتَابِ اللّهِ﴾ بيان لما ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾ أنه حق أو رقباء لئلا يبدل ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ﴾ أيها الحكام في حكوماتكم أو أيها اليهود في إظهار الحق ﴿وَاخْشَوْنِ﴾ في الحكومة أو كتمان الحق ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً﴾ رشوة أو جاها ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ للاستهانة ويأتي إن شاء الله وصفهم بالظلم لحكمهم بخلافه والفسق لخروجهم عنه والصفات الثلاث عامة وقيل في اليهود خاصة وقيل هذه في المسلمين والظالمون في اليهود والفاسقون في النصارى.

(45): ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾ فرضا على اليهود في التوراة ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ ذات قصاص إن أمكن وإلا فالأرش والحكم مقرر في شرعنا أيضا ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي بالقصاص وعفا عنه ﴿فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ للمصدق تكفر به ذنوبه أو للجاني يسقط ما لزمه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ﴾ من الأحكام ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

(46): ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ حال ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾.

(47): ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ دلت الآية على اشتمال الإنجيل على الأحكام واستقلال شرع عيسى ونسخه لليهودية.

(48): ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن ﴿بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ﴾ من جنس الكتب السماوية ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ ورقيبا على سائر الكتب تشهد بصحتها ويحفظها عن التبديل ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ﴾ إليك ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾ عادلا ﴿عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ﴾ أيها الأمم ﴿شِرْعَةً﴾ للدين ﴿وَمِنْهَاجًا﴾ طريقا واضحا ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دين واحد لم ينسخ أبدا ﴿وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم﴾ من الشرائع المختلفة ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ فابتدروها ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ استئناف يعلل فاستبقوا ﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ بالفصل بين محقكم ومبطلكم.

(49): ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ﴾ عطف على الكتاب أو الحق أي أنزلنا الكتاب وأن احكم، أو أنزلناه بالحق وأن احكم ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ﴾ أن يضلوك ﴿عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ عن الحكم المنزل ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ تنبيه على أن المجازاة بجميع الذنوب يكون في الآخرة كقوله ليذيقهم بعض الذي عملوا ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾.

(50): ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ من الميل والمداهنة ﴿يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي عندهم واللام للتبيين أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون.فإنهم الذين يثبتون أن لا أحسن من الله حكما.

(51): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى﴾ توادونهم وتعتمدون عليهم ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ تعليل المنهي أي إنما يوالي بعضهم بعضا لاتخاذهم في الدين ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ حكمه حكمهم من أحب قوما فهو منهم وفيه تغليظ في وجوب مجانبتهم ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بموالاتهم الكفار.

(52): ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق كابن أبي ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ أي في موالاتهم ﴿يَقُولُونَ﴾ معتذرين عنها ﴿أَوْلِيَاء نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر فتكون الدولة للكفار ﴿فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ بالنصر لرسوله على أعدائه ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ بقتلى اليهود وإجلائهم من ديارهم ﴿فَيُصْبِحُواْ﴾ أي المنافقين ﴿عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من الشك في أمر النبي وموالاتهم اليهود ﴿نَادِمِينَ﴾.

(53): ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ يقول بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين واغتباطا بما وفقوا به من الإخلاص أو يقولونه لليهود إذ حلف لهم المنافقون بالنصرة ونصب جهدا مصدرا أو حالا أي حلفوا يجتهدون جهد أيمانهم أي أغلظها فحذف الفعل ونابه المصدر فجاز تعليقها ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ من القول أو قول الله أي بطلت أعمالهم التي تكلفوها رياء ﴿فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ﴾ للدارين.

(54): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ فلن يضر الله ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ﴾ ويوفقهم لرضاه أو بحسن ثوابهم ﴿وَيُحِبُّونَهُ﴾ يطيعونه ولا يعصونه ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ عاطفين عليهم بتواضع ﴿أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أشداء عليهم من عزة إذا غلبه ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾ بتقلبهم في دينهم ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الأوصاف ﴿فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وهؤلاء الموصوفون قيل هم أهل اليمن وقيل هم الفرس وقيل الأنصار والأصح ما روي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنها في علي وأصحابه وقتالهم للناكثين والمارقين والقاسطين. وروي أنها في المهدي وأصحابه.

(55): ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ﴾ الأولى بكم والمتولي أموركم ﴿اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وأفرد الولي إيذانا بأن الولاية لله تعالى أصالة ولغيره تبعا ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ نزلت في علي (عليه السلام) حين سأل سائل وهو راكع في صلاته فأومأ إليه بخنصره فأخذ خاتمه منها بإطباق أكثر المفسرين واستفاضة الروايات فيه من الجانبين وتدل على إمامته دون من سواه للحصر وعدم اتصاف غيره بهذه الصفات وعبر عنه بصيغة الجمع تعظيما أو لدخول أولاده الطاهرين.

(56): ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ يتخذهم أولياء ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ وضع موضع فإنهم إيذانا بأنهم حزبه أي أتباعه تفخيما لشأنهم واعتراضا بأضدادهم بأنهم حزب الشيطان.

(57): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ﴾ بيانية ﴿الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ في مناهيه ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾.

(58): ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ اتَّخَذُوهَا﴾ بالأذان ﴿إِلَى الصَّلاَةِ﴾ أي الصلاة أو المناداة ﴿هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ سخرية وضحكة ﴿ذَلِكَ﴾ الاتخاذ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسبب أنهم ﴿قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ قيح الهزء بالحق.

(59): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ﴾ تنكرون ﴿مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا﴾ من القرآن ﴿وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ﴾ إلى الأنبياء ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ عطف على.

﴿أن ءامنا﴾ أي ما تنكرون منا إلا مخالفتكم إذ دخلنا الإيمان وأنتم خارجون منه فالمستثنى لازم الأمرين وهو المخالفة أو بحذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون أو على المجرور أي ما تنقمون منا إلا إيمانا بالله وبما أنزل إلينا وبأن أكثركم فاسقون

(60): ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ﴾ المنقوم ﴿مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ﴾ ولعل ذكرها بدل العقوبة تهكم ونصب تمييزا ﴿مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ لكفره ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ مسخوا أصحاب السبت قردة وكفار مائدة عيسى خنازير وقيل المسخان في أهل السبت مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير ﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ الشيطان بطاعته أو العجل بضم الباء وجر التاء على أنه وصف كحذر وبفتح الباء ونصب التاء عطفا على صلة من ﴿أُوْلَئِكَ﴾ الملعونون ﴿شَرٌّ مَّكَاناً﴾ تمييز كنى عن شرارتهم بشرارة مكانهم وهو سقر لأنه أبلغ ﴿وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ الطريق المستقيم.

(61): ﴿وَإِذَا جَآؤُوكُمْ﴾ أي منافقو اليهود ﴿قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ﴾ إليك متلبسين ﴿بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ﴾ من عندك متلبسين ﴿بِهِ﴾ ولم يؤثر فيهم وعظك والجملتان حال من فاعل قالوا ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ﴾ من الكفر.

(62)-(63): ﴿وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ﴾ من اليهود ﴿يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ﴾ الكذب أو الكفر ﴿وَالْعُدْوَانِ﴾ تعدي حدود الله ﴿وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ الحرام كالرشاء ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ ذم علمائهم على ترك نهيهم بأبلغ من ذمهم من حيث إن العمل أنما يسمى صنعا بعد التدرب فيه فيفيد أن ترك إنكار المعصية أقبح من ارتكابها.

(64): ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ مقبوضة من الرزق روي أنهم كانوا أكثر الناس مالا فلما كذبوا النبي ضيق عليهم فقالوا ذلك، وغل اليد وبسطها كناية عن البخل والجود ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ دعاء عليهم بالبخل أو بغل الأيدي حقيقة بإغلال الأسر في الدنيا وإغلال النار في الآخرة ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ في تثنية اليد أبلغ رد لإفادتها غاية الجود، إذ غاية ما يبذل الجواد أن يعطي بيديه أو إشارة إلى منح الدارين ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ من توسيع وتضييق وفق حكمته ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ أي يزدادون عند نزول القرآن بحسدهم ﴿طُغْيَانًا﴾ تماديا في الجحود ﴿وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ﴾ مع النبي ﴿أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ أي للفساد باجتهادهم في المعاصي ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.

(65): ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ﴾ بمحمد ﴿وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ مع المؤمنين.

(66): ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ﴾ عملوا بما فيهما ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ﴾ من سائر كتبه أو القرآن ﴿لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ أوسع عليهم الرزق بإفاضة من كل جهة أو بإنزال بركات السماء والأرض عليهم ﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾ معتدلة لم يغالوا ولم يقصروا وهم من آمن بالرسول ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ﴾ بئس عملهم أو شيء أو الذي يعملونه.

(67): ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ جميعه لا تكتم منه شيئا خوف أحد ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ﴾ ذلك ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ وقرىء رسالاته أي كأنك لم تؤد شيئا إذ كتمان البعض ككتمان الكل في استحقاق العقاب ﴿وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ يضمن لك العصمة منهم أن يقتلوك فما عذرك، عن أهل البيت وابن عباس وجابر: أن الله أوحى إلى نبيه أن يستخلف عليا فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فنزلت فأخذ بيده فقال ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا بلى قال من كنت مولاه فعلي مولاه ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ لا يمكنهم من إيصال مكروه إليك.

(68): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾ يعتد به من الدين ﴿حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ من الكتب بالعمل بما فيها ومنه الإيمان واتباعي ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ لا تحزن عليهم.

(69): ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى﴾ والصابئون مبتدأ نوى تأخيره وحذف خبره لدلالة خبر إن عليه أي والصابئون كذلك فهو كاعتراض يفيد أن الصابئين مع وضوح ضلالتهم يثاب عليهم إن صح إيمانهم وصلح عملهم فغيرهم أولى ولم يعطف على محل اسم إن لعدم مضي خبرها ﴿مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا﴾ مبتدأ خبره ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ والجملة خبر إن والرابط محذوف أي من آمن منهم أو خبرها فلا خوف ومن آمن بدل من اسمها وما عطف عليها.

(70): ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ على الإيمان بالله وبرسله وبما جاءت به ﴿وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً﴾ لإرشادهم ﴿كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ﴾ من التكاليف ﴿فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ جواب الشرط محذوف أي استكبروا كما قال: كلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وجملة ﴿فَرِيقًا كَذَّبُواْ﴾ استيناف كأنه قيل فما يفعلون بالرسل فأجابهم بذلك وإنما جيء بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة.

(71): ﴿وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بتكذيبهم الأنبياء وقتلهم ﴿فَعَمُواْ﴾ من الحق فلم يبصروه ﴿وَصَمُّواْ﴾ عن استماعه ﴿ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ﴾ حين قتلوا أنفسهم ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ بعد ما تاب الله عليهم وكثير بدل من الضمير ﴿وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فيؤاخذهم به.

(72): ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ هم اليعقوبية القائلون بالإتحاد ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ فإني لست بإله بل عبد مربوب مثلكم ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ﴾ في عبادة غيره ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ أي ما لهم ناصر وعبر بالظاهر إيذانا بأنهم ظلموا بإشراكهم وهو من قول عيسى أو كلام الله.

(73): ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ﴾ آلهة ﴿ثَلاَثَةٍ﴾ أي أحدها والآخران عيسى وأمه ﴿وَمَا﴾ في الوجود ﴿مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ من للبيان وعدل عن وليمسنهم تكريرا للشهادة بكفرهم أو للتبعيض أي الذين بقوا منهم على الكفر لأن منهم من تاب ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مؤلم.

(74): ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ﴾ مما هم فيه ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ يوحدونه ﴿وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ترغيب لهم.

(75): ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ﴾ مضت ﴿مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ فهو مثلهم ليس بإله ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ بين غاية كمالهما وأنه لا يوجب إلهيتهما ثم بين نقصهما المنافي للألوهية بقوله ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾ ويحتاجان إليه كغيرهما ﴿انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ﴾ الدالة على بطلان قولهم ﴿ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ كيف يصرفون عن تدبرها.

(76): ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا﴾ يعني عيسى فإنه كسائر عباد الله لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بتمليك الله فكيف لغيره، وعبر عنه بما تبعيدا له عن مرتبة الألوهية وقدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ﴿وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ للأقوال ﴿الْعَلِيمُ﴾ بالأحوال.

(77): ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ﴾ لا تجاوزوا الحق ﴿فِي دِينِكُمْ﴾ غلوا ﴿غَيْرَ الْحَقِّ﴾ فترفعوا عيسى وتجعلوه إلها أو تضعوه وتجعلوه لغير رشدة (77): أو خطاب للنصارى فقط ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ﴾ عن الحق وهم أسلافهم ﴿مِن قَبْلُ﴾ قبل بعث محمد ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا﴾ تبعهم في ضلالهم ﴿وَضَلُّواْ﴾ حين بعثه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فكذبوه ﴿عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ الطريق المستقيم أي الإسلام.

(78): ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ لعن داود أهل أيلة حين اعتدوا في السبت فمسخوا قردة ولعن عيسى أصحاب المائدة حين كفروا فمسخوا خنازير ﴿ذَلِكَ﴾ اللعن ﴿بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ بسبب عصيانهم واعتدائهم.

(79): ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ﴾ لا ينهى بعضهم بعضا أو لا ينتهون ﴿عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ عن معاودته أو عن مثله ﴿لبئس ما كانوا يفعلون﴾ قسم مؤكد لذم فعلهم.

(80): ﴿تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يوالون المشركين بغضا لك ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ من الزاد لمعادهم ﴿أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾.

(81): ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ﴾ محمد أو موسى ﴿وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ﴾ القرآن أو التوراة ﴿مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء﴾ لمنع الإيمان ذلك ﴿وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ خارجون عن الإيمان.

(82): ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ لتضاعف كفرهم وفرط بغضهم للحق وحسدهم للنبي ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى﴾ لميلهم إلى الإسلام ﴿ذَلِكَ﴾ أي قرب مودتهم ﴿بِأَنَّ﴾ بسبب أن ﴿مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا﴾ علماء وعبادا ﴿وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن اتباع الحق أو يتواضعون، قيل هم النجاشي وأصحابه هاجر إليهم جعفر بن أبي طالب وأصحابه ووصف لهم النبي ودينه وتلا عليهم سورة مريم فآمنوا.

(83): ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ﴾ من القرآن ﴿تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ لرقة قلوبهم ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا﴾ بنبيك وكتابك ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ بنبوته أو من أمته الشاهدين على الأمم يوم القيامة.

(84): ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ﴾.

(85): ﴿فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ﴾ الموحدين.

(86): ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ في ذكر أحوال المصدقين بالآيات وتعقيبه بحال المكذبين بها ترغيب وترهيب.

(87): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ﴾ مستلذاته لعله تعالى لما مدح النصارى على ترهبهم عقبه بالنهي عن الإفراط في ذلك، وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) وصف القيامة فبالغ فهم قوم من الصحابة أن يلازموا الصيام والقيام ويجانبوا الفرش والنساء فيسيحوا في الأرض فبلغ ذلك النبي فقال: إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ونزلت ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ حدوده بتحريم الحلال وبالعكس ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.

(88): ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾.

(89): ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ﴾ الكائن ﴿فِي أَيْمَانِكُمْ﴾ هو الحلف بلا قصد: كلا والله وبلى والله أو على ما أظن أنه كذلك ولم يكن أي لا يؤاخذكم به بعقاب ولا كفارة ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ﴾ وثقتم ﴿الأَيْمَانَ﴾ عليه إذا حنثتم، أو بنقض ما عقدتم وقرىء عاقدتم ﴿فَكَفَّارَتُهُ﴾ كفارة نكثه ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ ويجزي الأعلى ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ عطف على إطعام وهو مسماها كثوب يواري العورة وقيل ثوبان ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ إعتاقها وظاهره إجزاء كل رقبة واشترط بعض إيمانها وأو للتخيير الواجب إحدى الخصال الثلاث مطلقا والتعيين للمكفر ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ إحداها ﴿فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ﴾ المذكور ﴿كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ وحنثتم ﴿وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ﴾ أن تنكثوها ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نعمه بتبيين الأحكام.

(90): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ القمار ﴿وَالأَنصَابُ﴾ الأصنام التي نصبت للعبادة ﴿وَالأَزْلاَمُ﴾ القداح التي يستقسمون بها ﴿رِجْسٌ﴾ خبيث مستقذر ﴿مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ لأنه بتزيينه ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ أي الرجس أو التعاطي ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ باجتنابه أكد تحريم الخمر والميسر بحصرهما في الرجس وقرنهما بالأصنام والأزلام وجعلهما من عمل الشيطان والأمر باجتنابهما وجعله من الفلاح وبيان مفاسدهما في الدنيا والدين.

(91): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ لما يحصل فيهما من الشرور والفتن ﴿وَيَصُدَّكُمْ﴾ بالاشتغال بهما ﴿عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ﴾ وإنما خص الخمر والميسر بإعادة الذكر تنبيها على أنهما المقصودان بالبيان وأن الأنصاب والأزلام مذكوران بالتبع للدلالة على أنهما مثلهما وأفرد الصلاة بالذكر مع أن الذكر يعمها للإشعار بتعظيمها وبأنها عماد الدين وبأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان ﴿ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾ عنهما بعد بيان ما فيهما من الصوارف وهو أبلغ من فانتهوا.

(92): ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ﴾ عصيانهما ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ عن الطاعة ﴿ َاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ لا يضره توليكم وإنما يضركم.

(93): ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ﴾ من الحلال والمستلذات ﴿إِذَا مَا اتَّقَواْ﴾ المحرم ﴿وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ﴾ ثبتوا على التقوى والإيمان ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ﴾ ثبتوا على اتقاء المعاصي ﴿وَّأَحْسَنُواْ﴾ عملهم قيل لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة للنبي كيف إخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فنزلت.

وقيل في الذين تعاهدوا على ترك الطيبات ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ يثيبهم ويكرمهم.

(94): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ﴾ في حال إحرامكم ﴿بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ﴾ كالبيض والفراخ ﴿وَرِمَاحُكُمْ﴾ هو كبار الصيد ﴿لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ ليتميز من يخاف عقابه غائبا في الآخرة فيتجنب الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه ﴿فَمَنِ اعْتَدَى﴾ فصاد ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الابتلاء ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ مر في إبهامه تشديدا لحال الصيد.

(95): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ﴾ المحلل وبعض المحرم كالثعلب والأرنب والضب واليربوع والقنفذ والقمل ﴿وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾ جمع حرام بمعنى محرم ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا﴾ ذاكرا للإحرام والحرمة ومثله الناسي والمخطىء، ذكر المتعمد لنزولها فيه وهو أبو البشر قتل حمار وحش برمحه محرما ﴿فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ﴾ أي فعليه جزاء مماثل ما قتله ﴿مِنَ النَّعَمِ﴾ صفة للجزاء أو تفسير المثل ﴿يَحْكُمُ بِهِ﴾ أي بمثل ما قتل ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ مسلمان عادلان فقيهان يعرفان المماثل في الخلقة وقرأ الباقر والصادق ذو عدل وفسراه بالإمام ﴿هَدْيًا﴾ حال من الهاء في به أو من جزاء ﴿بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ صفة هديا أو إضافة لفظية، قيل بلوغه الكعبة: ذبحه في الحرم والتصدق به، وعندنا ذبحه بفناء الكعبة في الجزورة والتصدق به فيها للمعتمر وبمنى كذلك للحاج ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ عطف على جزاء ﴿طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ عطف بيان أو خبر محذوف أي يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي ﴿أَو عَدْلُ﴾ أو مساوي ﴿ذَلِكَ﴾ الطعام ﴿صِيَامًا﴾ تمييز عدل فيصوم عن طعام كل مسكين يوما ﴿لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ أي فعليه كذا ليذوق ثقل جزاء فعله ﴿عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف﴾ من قتل الصيد محرما أول مرة مع الجزاء أو قبل التحريم أو في الجاهلية ﴿وَمَنْ عَادَ﴾ إلى ذلك ﴿فَيَنتَقِمُ﴾ فهو ممن ينتقم ﴿اللّهُ مِنْهُ﴾ وعنهم (عليهم السلام): ليس عليه الكفارة إن أصابه ثانيا متعمدا بل هو ممن ينتقم الله منه وإن أصاب خطأ فعليه الكفارة وإن عاد مرارا ﴿وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ ممن عصاه.

(96): ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ مصيداته أن ينتفعوا به مما يؤكل ومما لا يؤكل ﴿وَطَعَامُهُ﴾ ما يطعم من صيده أي وأحل لكم المأكول منه وهو السمك أو المراد وأحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ﴾ مفعول له أي تمتيعا لكم ﴿وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ أي مسافريكم يتزودونه قديدا ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ﴾ ما صيد فيه مما يفرخ فيه ﴿مَا دُمْتُمْ حُرُمًا﴾ محرمين وإن صاده محل عندنا ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ للجزاء.

(97): ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ عطف بيان ﴿قِيَامًا لِّلنَّاسِ﴾ أي ما يقوم به أمر دينهم بحجة ودنياهم بأمن داخله وربح التجارة عنده وقرىء قيما مصدر قام ﴿وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ لامه للجنس أي الأشهر الحرم الأربعة ﴿وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ﴾ فسرا في أول السورة ﴿ذَلِكَ﴾ الجعل ﴿لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فإن من تأمل في أعمال الحج وشرائعه علم أن فيها حكما ومصالح لا تحصى وأن شارعها هو الحكيم الخبير.

(98): ﴿اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه ﴿وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ﴾ لمن تاب ﴿رَّحِيمٌ﴾ به.

(99): ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ﴾ وقد فعل وقامت عليكم الحجة فلا عذر لكم في التفريط ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ من الأعمال فاحذروه.

(100): ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي﴾ عند الله ﴿الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ حرام المال وحلاله وصالح العمل وطالحه ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ﴾ أيها السامع ﴿كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ فإن قليل الطيب خير من كثير الخبيث ﴿فَاتَّقُواْ اللّهَ﴾ وأدوا ما هو خير ﴿يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لتفوزوا بالثواب.

(101): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء﴾ لم تبرز لكم ﴿إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ تغمكم ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ﴾ وإذا ظهرت غمتكم فلا تسألوا عنها ﴿عَفَا اللّهُ عَنْهَا﴾ عن مسألتكم التي سلفت فلا تعودوا ﴿وَاللّهُ غَفُورٌ﴾ للذنوب ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجل العقوبة.

(102): ﴿قَدْ سَأَلَهَا﴾ أي الأشياء بحذف عن أو المسألة بقرينة تسألوا ﴿قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ فأجيبوا ببيانها ﴿ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ﴾ أي بسببها إذ لم يقبلوها.

(103): ﴿مَا جَعَلَ اللّهُ﴾ رد لبدع الجاهلية أي ما شرع ﴿مِن بَحِيرَةٍ﴾ من مزيدة ﴿وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ قيل كانوا إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها وحلبها وكان الرجل يقول: إن قدمت فناقتي سائبة ويحرم منافعها كالبحيرة وإذا ولدت الشاة أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا كانت لآلهتهم وإن ولدتهما لم يذبحوا الذكر لها إذا وصلته أخته وإذا أنتج من الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره وقالوا: حمى ظهره ولم يمنع ماء ولا مرعى ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ﴾ بنسبة ذلك إليه ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أن ذلك افتراء لأنهم قلدوا كبارهم.

(104): ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ﴾ من الدين وتمسكهم بالتقليد دليل نقص عقلهم ﴿أَوَلَوْ﴾ همزة إنكار دخلت على واو الحال أي حسبهم ذلك ولو ﴿كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ من الحق ﴿وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ إليه.

(105): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ الزموا صلاحها ونصب أنفسكم بعليكم لأنه اسم لالزموا ﴿لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ﴾ أي الضلال ﴿إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيجازي كلا بعمله.

(106): ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ أي الأشهاد الذي شرع بينكم وأضيفت إلى الظرف اتساعا ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي أسبأبه ظرف للشهادة ﴿حِينَ الْوَصِيَّةِ﴾ بدل منه ﴿اثْنَانِ﴾ خبر شهادة بحذف مضاف أو فاعلها أي عليكم أن يشهد اثنان ﴿ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ مسلمان وهما صفتان ﴿أَوْ آخَرَانِ﴾ عطف على اثنان وظاهره اعتبار عدالتهما في دينهما ﴿مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ من أهل الذمة ولا تسمع شهادتهم إلا في هذه القضية عندنا ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ﴾ سافرتم ﴿فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ أي قاربتم والجزاء محذوف دل عليه أو آخران ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ تقفونهما صفة آخران والشرط اعتراض يفيد أنه لا يعدل عن المسلمين إلا إذا تعذر مطلقا أو في سفر فقط ﴿مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ﴾ صلاة العصر كما روي لاجتماع الناس حينئذ أو أي صلاة ﴿فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ إن ارتاب الوارث وهو اعتراض يخصص القسم بحال الريبة ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ﴾ لا نستبدل بالقسم أو بالله ﴿ثَمَنًا﴾ عوضا من الدنيا بأن يحلف به كاذبا لأجله ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ المقسم له ﴿ذَا قُرْبَى﴾ قريبا منا ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ﴾ التي أمرنا بأدائها ﴿إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ﴾ أي إن كتمنا.

(107): ﴿فَإِنْ عُثِرَ﴾ اطلع ﴿عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا﴾ بخيانة وتحريف ﴿فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا﴾ في الحلف ﴿مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ﴾ جيء عليهم وهم الورثة الأوليان الأحقان بالشهادة خبر محذوف أي هما ﴿الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ﴾ أصدق ﴿مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا﴾ وما تجاوزنا الحق فيها ﴿إِنَّا إِذًا﴾ إذا اعتدينا ﴿لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أنفسهم.

(108): ﴿ذَلِكَ﴾ الحكم المذكور ﴿أَدْنَى﴾ أقرب إلى ﴿أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ﴾ أدنى إلى أن يخافوا ﴿أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ على الورثة المدعين فيحلفوا على كذبهم فيفتضحوا ﴿وَاتَّقُوا اللّهَ﴾ أن تكذبوا أو تخونوا ﴿وَاسْمَعُواْ﴾ وصية سماع قبول ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ الخارجين عن طاعته إلى حجته أو الجنة.

(109): ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ﴾ ظرف لأذكر مضمرا ﴿فَيَقُولُ﴾ لهم توبيخا لقومهم ﴿مَاذَا﴾ في موضع المصدر أي إجابة ﴿أُجِبْتُمْ قَالُواْ﴾ تشكيا وردا للأمر إلى علمه بما كابدوا منهم ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا﴾ بما أنت تعلمه أي لا حاجة إلى شهادتنا ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾.

(110): ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ جبرئيل أو ملك أعظم منه أو روحك المطهرة من الأدناس ﴿تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ﴾ طفلا ﴿وَكَهْلاً﴾ بلا تفاوت في كمال العقل ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي﴾ فسر في آل عمران ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ اليهود ﴿عَنكَ﴾ عن قتلك ﴿إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ المعجزات ﴿فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ﴾ ما ﴿هَذَا﴾ الذي جئت به ﴿إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.

(111): ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ﴾ أمرتهم على ألسنة رسلي ﴿أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾ أن مصدرية أو مفسرة ﴿قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ مخلصون.

(112): ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ معمول لاذكر مضمرا ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ﴾ أن تقترحوا عليه ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ كما ادعيتم.

(113): ﴿قَالُواْ نُرِيدُ﴾ سؤالها من أجل ﴿أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ تسكن بزيادة اليقين ﴿وَنَعْلَمَ أَن﴾ مخففة ﴿قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ في ادعاء الرسالة ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ لله بالوحدانية ولك بالرسالة عند من لم يحضرها.

(114): ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً﴾ قال كان يوم نزولها يوم عيد الأحد ﴿لِّأَوَّلِنَا﴾ أهل زماننا بدل من لنا بإعادة الجار ﴿وَآخِرِنَا﴾ من يأتي بعدنا ﴿وَآيَةً﴾ كائنة ﴿مِّنكَ﴾ على قدرتك ﴿وَارْزُقْنَا﴾ إياها أو شكرها ﴿وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.

(115): ﴿قَالَ اللّهُ﴾ مجيبا لهم ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا﴾ بالتخفيف والتشديد ﴿عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ﴾ الهاء للمصدر ﴿أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ فنزلت الملائكة بها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فأكلوا منها، وروي أنها كانت تنزل فيأكلون منها ثم ترفع فمنع مترفوهم سفلتهم منها فرفعت ببغيهم ومسخوا قردة وخنازير.

(116): ﴿وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ تنزيها لك أن يكون لك شريك ﴿مَا يَكُونُ﴾ ما ينبغي ﴿لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ﴾ أي معلوماتك وذكر النفس للمشاكلة ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ يقرر الجملتين منطوقا ومفهوما.

(117): ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ أقر بأنه عبد مأمور ﴿أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ رقيبا أمنعهم أن يقولوا ذلك ﴿مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ تحفظ أعمالهم وتطلع على حالهم ﴿وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مطلع عالم به.

(118): ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ الأحقاء بالعذاب إذ عبدوا غيرك ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ المنيع القادر على الثواب والعقاب بمقتضى الحكم.

(119): ﴿ قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ﴾ بعملهم ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ بثوابه ﴿ذَلِكَ﴾ أي ما عدد من النفع هو ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ إذ فيه سعادة الأبد.

(120): ﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾ من ذلك عيسى وأمه وغلب غير العقلاء لفرط بعدهم عن رتبة الألوهية ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.