الآيات 76-85

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿76﴾ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿77﴾ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ يمُ ﴿78﴾ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴿79﴾ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴿80﴾ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ﴿81﴾ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ﴿82﴾ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿83﴾ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿84﴾ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ﴿85﴾

القراءة:

قرأ ولا يسمع بالياء الصم بالرفع هاهنا وفي الروم ابن كثير وابن عباس والباقون ﴿لا تسمع﴾ بضم التاء الصم ﴿بالنصب﴾ وقرأ وما أنت تهدي العمي حمزة هاهنا وفي الروم وقرأ الباقون ﴿وما أنت بهادي العمي﴾ وفي الشواذ قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والجحدري وابن ذرعة تكلمهم بفتح التاء والتخفيف وقرأ أهل العراق غير أبي عمرو وسهل ﴿أن الناس﴾ بفتح الهمزة والباقون بكسرها.

الحجة:

حجة من قال ﴿تسمع﴾ إنه أشبه بما قبل من قوله ﴿إنك لا تسمع الموتى﴾ ويؤكد ذلك قوله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ومن قرأ ولا يسمع الصم الدعاء فالمعنى لا ينقادون للحق لعنادهم كما لا يسمع الأصم ما يقال له ومن قرأ تهدي العمي فالتقدير إنك لا تهديهم لشدة عنادهم وإعراضهم وأنت مرفوع بما على قول أهل الحجاز و﴿تهدي﴾ في موضع نصب بأنه خبر وعلى قول تميم يرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر الذي هو تهدي تقديره إذا أظهرت ذلك المضمر ما تهدي تهدي لأنك إذا أظهرت أفعل المضمر اتصل به الضمير ولم ينفصل كما ينفصل إذا لم تظهر ومن قرأ ﴿بهادي العمي﴾ مضافا في السورتين فاسم الفاعل للحال أو للآتي فإذا كان كذلك كانت الإضافة في نية الانفصال وقوله ﴿أن الناس﴾ بالفتح فالوجه فيه تكلمهم بأن الناس وزعموا أنه في قراءة أبي تنبئهم وعن قتادة أنه في بعض الحروف تحدثهم وهذا يدل على أن تكلمهم من الكلام الذي هو النطق وليس هو من الكلم الذي هو الجراحة.

ومن كسر فقال إن الناس فالمعنى تكلمهم فتقول لهم أن الناس وإضمار القول في الكلام كثير وحسن ذلك لأن الكلام قول فكان القول أظهر ومن قرأ تكلمهم فمعناه تجرحهم بأكلها إياهم.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه من الحجج ما يقوي قلب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل﴾ أي يخبرهم بالصدق ﴿أكثر الذي هم فيه يختلفون﴾ من حديث مريم وعيسى والنبي المبشر به في التوراة حيث قال بعضهم هو يوشع وقال بعضهم لا بل هو ومنتظر لم يأت بعد وغير ذلك من الأحكام وكان ذلك معجزة لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان لا يدرس كتبهم ولا يقرؤها ثم أخبرهم بما فيها ﴿وإنه﴾ يعني القرآن ﴿لهدى﴾ أي دلالة على الحق ﴿ورحمة للمؤمنين﴾ أي نعمة لهم ﴿إن ربك يقضي بينهم بحكمه﴾ يريد بين المختلفين في الدين يوم القيامة وأشار بذلك إلى شيئين (أحدهما) أن الحكم له فلا ينفذ حكم غيره فيوصل إلى كل ذي حق حقه (والآخر) أنه وعد المظلوم بالانتصاف من الظالم ﴿وهو العزيز﴾ القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء ﴿العليم﴾ بالمحق والمبطل فيجازي كلا بحسب عمله وفي هذه الآية تسلية للمحقين من الذين خولفوا في أمور الدين وأن أمرهم يؤول إلى أن يحكم بينهم رب العالمين ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿فتوكل على الله﴾ يا محمد ﴿إنك على الحق المبين﴾ أي الواضح البين الظاهر والمحق أولى بالتوكل من المبطل المدغل والمراد بهذا الخطاب سائر المؤمنين وإن كان في الظاهر لسيد المرسلين ثم شبه الكفار بالموتى فقال ﴿إنك لا تسمع الموتى﴾ يقول كما لا تسمع الميت الذي ليس له آلة السمع النداء كذلك لا تسمع الكافر النداء لأنه لا يسمع ولا يقبل الموعظة ولا يتدبر فيها ﴿ولا يسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين﴾ إنما قال ذلك لأن الأصم إذا كان قريبا فالإنسان يطمع في إسماعه فإذا أعرض وأدبر وتباعد انقطع الطمع في إسماعه فجعل سبحانه المصمم على الجهل كالميت في أنه لا يقبل الهدى وكالأصم في أنه لا يسمع الدعاء ﴿وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم﴾ في الدين بالآيات الدالة على الهدى إذا أعرضوا عنها كما لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى قصد الطريق جعل سبحانه الجهل بمنزلة العمى لأنه يمنع عن إدراك الحق كما يمنع العمى من إدراك المبصرات ﴿أن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا﴾ أي ما يسمع إلا من يطلب الحق بالنظر في آياتنا ﴿فهم مسلمون﴾ أي مستسلمون منقادون جعل سبحانه استماعهم وقبولهم الحق سماعا وتركهم للقبول تركا للسماع وقيل مسلمون أي موحدون مخلصون ﴿وإذا وقع القول عليهم﴾ أي وجب العذاب والوعيد عليهم وقيل معناه إذا صاروا بحيث لا يفلح أحد منهم ولا أحد بسببهم عن مجاهد وقيل معناه إذا غضب الله عليهم من قتادة وقيل معناه إذا أنزل العذاب بهم عند اقتراب الساعة فسمي المقول قولا كما يقال جاء الخبر الذي قلت ويراد به المخبر قال أبو سعيد الخدري وابن عمر إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم وأخذوا بمبادىء العقاب منها قوله ﴿أخرجنا لهم دابة من الأرض﴾ تخرج بين الصفا والمروة فتخبر المؤمن بأنه مؤمن والكافر بأنه كافر وعند ذلك يرتفع التكليف ولا تقبل التوبة وهو علم من أعلام الساعة وقيل لا يبقى مؤمن إلا مسحته ولا يبقى منافق إلا خطمته تخرج ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى عن ابن عمر وروى محمد بن كعب القرظي قال سئل علي صلوات الرحمن عليه من الدابة فقال أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية وفي هذا إشارة إلى أنها من الإنس وروي عن ابن عباس أنها دابة من دواب الأرض لها زغب وريش ولها ربع قوائم وعن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال دابة الأرض طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب فتسم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال يا مؤمن ويا كافر وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى المدينة فيفشو ذكرها في البادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تمكث زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم سار الناس يوما في أعظم المساجد على الله عز وجل حرمة وأكرمها على الله يعني المسجد الحرام لم ترعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فيرفض الناس عنها ويثبت لها عصابة عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر وروي عن وهب أنه قال ووجهها وجه رجل وسائر خلقها خلق الطير ومثل هذا لا يعرف إلا من النبوات الإلهية وقد روي عن علي (عليه السلام) أنه قال إنه صاحب العصا والميسم وروى علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رجل لعمار بن ياسر يا أبا اليقظان آية في كتاب الله أفسدت قلبي قال عمار وأية آية هي فقال هذه الآية فآية دابة الأرض هذه قال عمار والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يأكل تمرا وزبدا فقال يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل سبحانه الله حلفت أنك لا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار أريتكها إن كنت تعقل وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر رحمه الله أيضا وقوله ﴿تكلمهم﴾ أي تكلمهم بما يسؤهم وهو أنهم يصيرون إلى النار بلسان يفهمونه وقيل تحدثهم بأن هذا مؤمن وهذا كافر وقيل تكلمهم بأن تقول لهم ﴿إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون﴾ وهو الظاهر وقيل بآياتنا معناه بكلامها وخروجها ﴿ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون﴾ أي يدفعون عن ابن عباس وقيل يحبس أولهم على آخرهم واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال إن دخول من في الكلام يوجب التبعيض فدل ذلك على أن اليوم المشار إليه في الآية يحشر فيه قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العذاب في القتل على أيدي شيعته والذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره على ما فسرناه في موضعه وصح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه على أن جماعة من الإمامية تأولوا ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجىء إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها وإنما المعول في ذلك على إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده ومن قال إن قوله ﴿ويوم يحشر من كل أمة فوجا﴾ المراد به يوم القيامة قال المراد بالفوج الجماعة من الرؤساء والمتبوعين في الكفر حشروا وجمعوا لإقامة الحجة عليهم ﴿حتى إذا جاءوا﴾ إلى موقف الحساب ﴿قال﴾ الله تعالى لهم ﴿أكذبتم بآياتي﴾ أي كذبتم بأنبيائي ودلالاتي الدالة على ديني ﴿ولم تحيطوا بها علما﴾ أي لم تطلبوا معرفتها ولم تبينوا ما أوجب الله عليكم فيها ﴿أما ذا كنتم تعملون﴾ حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا في صحتها يقول ذلك تبكيتا لهم وتجهيلا أي هذا كان الواجب عليكم فتركتموها ولم تعرفوها حق معرفتها فبما ذا اشتغلتم ومن قال بالأول قال المراد بالآيات الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) ﴿ووقع القول عليهم﴾ أي وجب العذاب عليهم ﴿بما ظلموا﴾ أي بظلمهم إذ صاروا بحيث لا يفلح جحد منهم بسببهم ﴿فهم لا ينطقون﴾ إذ ذاك بكلام ينتفعون به ويجوز أن يكون المراد أنهم لا ينطقون أصلا لعظم ما يشاهدونه وهول ما يرونه.