الآيات 1-10

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ﴿1﴾ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ﴿2﴾ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ﴿3﴾ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ﴿4﴾ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴿5﴾ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ ﴿6﴾ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ﴿7﴾ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴿8﴾ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴿9﴾ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ﴿10﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وكل أمر مستقر بالجر والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير ونافع ﴿يوم يدع الداع﴾ بغير ياء ومهطعين إلى الداعي بياء في الوصل وروي عن ورش يوم يدع الداعي بياء في الوصل وقرأهما أبو جعفر وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل والباقون بغير ياء في وصل ولا وقف وقد تقدم القول في هذا النحو وقرأ ابن كثير إلى شيء نكر بالتخفيف والباقون ﴿نكر﴾ بضمتين وقرأ أهل العراق غير عاصم خاشعا أبصارهم والباقون ﴿خشعا﴾ وفي الشواذ قراءة حذيفة وقد انشق القمر وقراءة مجاهد والجحدري وأبي قلابة ﴿إلى شيء نكر﴾.

الحجة:

من قرأ ﴿مستقر﴾ بالجر جعله صفة لأمر ومن قرأه بالرفع جعله خبرا لكل أمر وأما قراءة ﴿نكر﴾ فإنه على فعل وهو أحد الحروف التي جاءت صفة على هذه الزنة ومثله ناقة أجد ومشية سجع صفة قال:

دعوا التحاجز وامشوا مشية سجحا

إن الرجال ذوو عضب وتذكير

ومن قرأ نكر خففه مثل رسل وكتب والضمة في تقدير الثبات ومن قرأ خاشعا أبصارهم فإنه كما لم يلحق علامة التأنيث لم يجمع وحسن أن لا يؤنث لأن التأنيث ليس بحقيقي ومن قال ﴿خشعا﴾ فقد أثبت ما يدل على الجمع وهو على لفظ الإفراد ودل لفظ الجمع على لفظ ما يدل عليه التأنيث الذي ثبت في نحو قوله في الآية الأخرى ﴿خاشعة أبصارهم﴾ ﴿وخشعت الأصوات للرحمن﴾ قال الزجاج ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد نحو قوله (خاشعا أبصارهم) ولك التوحيد والتأنيث نحو خاشعة أبصارهم ولك الجمع نحو ﴿خشعا أبصارهم﴾ تقول مررت بشباب حسن أوجههم وحسان وجوههم وحسنة أوجههم قال:

وشباب حسن أوجههم

من أياد بن نزار بن معد

قال ابن جني قراءة حذيفة وقد انشق القمر يجري مجرى الموافقة على إسقاط العذر ورفع التشكك أي قد كان انشقاق القمر متوقعا دلالة على قرب الساعة فإذا كان قد انشق وانشقاقه من أشراطها وقد يؤكد الأمر في قرب وقوعها وذلك أن قد إنما هو جواب وقوع أمر كان متوقعا.

اللغة:

في اقتربت زيادة مبالغة على قرب كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة نحو اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة في إعداده والأهواء جمع الهوى وهو رقة القلب بميل الطباع كرقة هواء الجو يقال هوي يهوى هوى فهو هو إذا مال طبعه إلى الشيء والمزدجر المتعظ مفتعل من الزجر إلا أن التاء أبدلت دالا لتوافق الزاي بالجهر ويقال أنكرت الشيء فهو منكر ونكرته فهو منكور وقد جمع الأعشى بين اللغتين فقال:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا

والنكر والمنكر الشيء الذي تأباه النفس ولا تقبله من جهة نفور الطبع عنه وأصله من الإنكار الذي هو نقيض الإقرار والأجداث القبور جمع جدث والجدف بالفاء لغة فيه والإهطاع الإسراع في المشي.

الإعراب:

﴿فما تغن النذر﴾ يجوز أن يكون ما للجحد فيكون حرفا ويجوز أن يكون استفهاما فيكون اسما والتقدير في الأول فلا تغني النذر وفي الثاني فأي شيء تغني النذر قال الزجاج قوله ﴿فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر﴾ وقف التمام فتول عنهم ويوم منصوب بقوله ﴿يخرجون من الأجداث﴾ وأما حذف الواو من يدعو في الكتاب فلأنها تحذف في اللفظ لالتقاء الساكنين فأجريت في الكتاب على ما يلفظ بها وأما الداعي فإثبات الياء فيه أجود ويجوز حذفها لأن الكسرة تدل عليها وقوله ﴿خشعا أبصارهم﴾ منصوب على الحال من الواو في يخرجون وفيه تقديم وتأخير تقديره يخرجون خشعا أبصارهم من الأجداث وإن شئت كان حالا من الضمير المجرور في قوله ﴿فتول عنهم﴾ ومهطعين أيضا منصوب على الحال و﴿أني مغلوب﴾ تقديره دعا ربه بأني مغلوب وقرأ عيسى بن عمر إني بالكسر على إرادة القول أي فدعا ربه قال إني مغلوب ومثله والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا التقدير قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا.

المعنى:

﴿اقتربت الساعة﴾ أي قربت الساعة التي تموت فيها الخلائق وتكون القيامة والمراد فاستعدوا لها قبل هجومها ﴿وانشق القمر﴾ قال ابن عباس اجتمع المشركون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن فعلت تؤمنون قالوا نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه أن يعطيه ما قالوا فانشق القمر فرقتين ورسول الله ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا وقال ابن مسعود انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شقتين فقال لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشهدوا اشهدوا وروي أيضا عن ابن مسعود أنه قال والذي نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقي القمر وعن جبير بن مطعم قال انشق القمر على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل فقال ناس سحرنا محمد فقال رجل إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلهم وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وجبير بن مطعم وعبد الله بن عمر وعليه جماعة المفسرين إلا ما روي عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال معناه وسينشق القمر وروي ذلك عن الحسن وأنكره أيضا البلخي وهذا لا يصح لأن المسلمين أجمعوا على ذلك فلا يعتد بخلاف من خالف فيه ولأن اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه ومن طعن في ذلك بأنه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان يخفى على أحد من أهل الأقطار فقوله باطل لأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد حجبه عن أكثرهم بغيم وما يجري مجراه ولأنه قد وقع ذلك ليلا فيجوز أن يكون الناس كانوا نياما فلم يعلموا بذلك على أن الناس ليس كلهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو من آية وعلامة فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه وإنما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر لأن انشقاقه من علامة نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة ﴿وإن يروا آية يعرضوا﴾ هذا إخبار من الله تعالى عن عناد كفار قريش وأنهم إذا رأوا آية معجزة أعرضوا عن تأملها والانقياد لصحتها عنادا وحسدا ﴿ويقولوا سحر مستمر﴾ أي قوي شديد يعلو كل سحر عن الضحاك وأبي العالية وقتادة وهو من إمرار الحبل وهو شدة فتله واستمر الشيء إذا قوي واستحكم وقيل معناه سحر ذاهب مضمحل لا يبقى عن مجاهد وهو من المرور وقال المفسرون لما انشق القمر قال مشركو قريش سحرنا محمد فقال الله سبحانه ﴿وإن يروا آية يعرضوا﴾ عن التصديق والإيمان بها قال الزجاج وفي هذا دلالة على أن ذلك قد كان ووقع وأقول ولأنه تعالى قد بين أن يكون آية على وجه الإعجاز وإنما يحتاج إلى الآية المعجزة في الدنيا ليستدل الناس بها على صحة النبوة ويعرف صدق الصادق لا في حال انقطاع التكليف والوقت الذي يكون الناس فيه ملجئين إلى المعرفة ولأنه سبحانه قال ﴿ويقولوا سحر مستمر﴾ وفي وقت الإلجاء لا يقولون للمعجز أنه سحر ﴿وكذبوا﴾ أي بالآية التي شاهدوها ﴿واتبعوا أهواءهم﴾ في التكذيب وما زين لهم الشيطان من الباطل الذي هم عليه ﴿وكل أمر مستقر﴾ فالخير يستقر بأهل الخير والشر يستقر بأهل الشر عن قتادة والمعنى أن كل أمر من خير وشر مستقر ثابت حتى يجازى به صاحبه إما في الجنة أو في النار وقيل معناه لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف عن الكلبي ﴿ولقد جاءهم﴾ أي ولقد جاء هؤلاء الكفار ﴿من الأنباء﴾ يعني الأخبار العظيمة في القرآن بكفر من تقدم من الأمم وإهلاكنا إياهم ﴿ما فيه مزدجر﴾ أي متعظ وهو بمعنى المصدر أي وازدجار عن الكفر وتكذيب الرسل ﴿حكمة بالغة﴾ يعني القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية والنهاية ﴿فما تغن النذر﴾ أي أي شيء تنفع النذر مع تكذيب هؤلاء وإعراضهم وهو جمع النذير وقيل معناه فلا تغني النذر شيئا أي أن الأنبياء الذين بعثوا إليهم لا يغنون عنهم شيئا من عذاب الله الذي استحقوه بكفرهم لأنهم خالفوهم ولم يقبلوا منهم عن الجبائي وقيل النذر هي الزواجر المخوفة وآيات الوعيد ثم أمره سبحانه بالإعراض عنهم فقال ﴿فتول عنهم﴾ أي أعرض عنهم ولا تقابلهم على سفههم وهاهنا وقف تام ﴿يوم يدع الداع إلى شيء نكر﴾ أي منكر غير معتاد ولا معروف بل أمر فظيع لم يروا مثله فينكرونه استعظاما واختلف في الداعي فقيل هو إسرافيل يدعو الناس إلى الحشر قائما على صخرة بيت المقدس عن مقاتل وقيل بل الداعي يدعوهم إلى النار ويوم ظرف ليخرجون أي في هذا اليوم يخرجون من الأجداث ويجوز أن يكون التقدير في هذا اليوم يقول الكافرون وقوله ﴿خشعا أبصارهم﴾ يعني خاشعة أبصارهم أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب وإنما وصف الأبصار بالخشوع لأن ذلة الذليل أو عزة العزيز تتبين في نظره وتظهر في عينه ﴿يخرجون من الأجداث﴾ أي من القبور ﴿كأنهم جراد منتشر﴾ والمعنى أنهم يخرجون فزعين يدخل بعضهم في بعض ويختلط بعضهم ببعض لا جهة لأحد منهم فيقصدها كما أن الجراد لا جهة لها فتكون أبدا متفرقة في كل جهة قال الحسن الجراد يتلبد حتى إذا طلعت عليها الشمس انتشرت فالمعنى أنهم يكونون ساكنين في قبورهم فإذا دعوا خرجوا وانتشروا وقيل إنما شبههم بالجراد لكثرتهم وفي هذه الآية دلالة على أن البعث إنما يكون لهذه البنية لأنها الكائنة في الأجداث خلافا لمن زعم أن البعث يكون للأرواح ﴿مهطعين إلى الداع﴾ أي مقبلين إلى صوت الداعي عن قتادة وقيل مسرعين إلى إجابة الداعي عن أبي عبيدة وقيل ناظرين قبل الداعي قائلين هذا يوم عسر عن الفراء وأبي علي الجبائي وهو قوله ﴿يقول الكافرون هذا يوم عسر﴾ أي صعب شديد وقد قيل أيضا في قوله ﴿فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر﴾ أقوال أخر (أحدها) أن المعنى فأعرض عنهم إذا تعرضوا لشفاعتك يوم يدع الداعي وهو يوم القيامة فلا تشفع لهم ذلك اليوم كما لم يقبلوا منك اليوم (وثانيها) أن معناه فتول عنهم فإنهم يرون ما ينزل بهم من العذاب يوم يدع الداعي وهو يوم القيامة فحذف الفاء من جواب الأمر (وثالثها) أن معناه فتول عنهم فإنهم يوم يدعو الداعي صفتهم كذا وكذا وهي ما بينه إلى قوله ﴿يوم عسر﴾ (ورابعها) فتول عنهم واذكر يوم يدع الداعي إلى آخره عن الحسن ﴿كذبت قبلهم﴾ أي قبل كفار مكة ﴿قوم نوح فكذبوا عبدنا﴾ نوحا كما كذبك يا محمد هؤلاء الكفار وجحدوا نبوتك ﴿وقالوا مجنون﴾ أي هو مجنون قد غطي على عقله ﴿وازدجر﴾ أي زجر بالشتم والرمي بالقبيح عن ابن زيد وقيل معناه زجر بالوعيد وتوعد بالقتل فهو مثل قوله ﴿لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين﴾ ﴿فدعا ربه أني مغلوب فانتصر﴾ أي فقال يا رب قد غلبني هؤلاء الكفار بالقهر لا بالحجة فانتصر أي فانتقم لي منهم بالإهلاك والدمار نصرة لدينك ونبيك وفي هذا دلالة على وجوب الانقطاع إلى الله تعالى عند سماع الكلام القبيح من أهل الباطل.