الآيات 83-88

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿83﴾ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿84﴾ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿85﴾ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ ﴿86﴾ وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿87﴾ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿88﴾

النزول:

قيل لما نزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجحفة في مسيرة إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال أ تشتاق إلى بلدك ومولدك فقال نعم قال جبرائيل فإن الله يقول ﴿إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد﴾ يعني مكة ظاهرا عليها فنزلت الآية بالجحفة وليست بمكية ولا مدنية وسميت مكة معادا لعوده إليها عن ابن عباس.

المعنى:

﴿تلك الدار الآخرة﴾ يعني الجنة ﴿نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض﴾ أي تجبرا وتكبرا على عباد الله واستكبارا عن عبادة الله ﴿ولا فسادا﴾ أي عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل وروى زاذان عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو دال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ ﴿تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا﴾ ويقول نزلت هذه الآية في أهل العدل والمواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس وروى أبو سلام الأعرج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا قال إن الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية ﴿تلك الدار الآخرة﴾ الآية يعني أن من تكبر على غيره بلباس يعجبه فهو ممن يريد علوا في الأرض قال الكلبي يعني بقوله ﴿فسادا﴾ الدعاء إلى عبادة غير الله وقال عكرمة هو أخذ المال بغير حق ﴿والعاقبة للمتقين﴾ أي والعاقبة الجميلة المحمودة من الفوز بالثواب للذين اتقوا الشرك والمعاصي وقيل معناه الجنة لمن اتقى عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ﴿من جاء بالحسنة فله خير منها﴾ مضى تفسيره ﴿ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما يعملون﴾ أي لا يزاد في عقابهم على قدر استحقاقهم بخلاف الزيادة في الفضل على الثواب المستحق فإنه يكون تفضلا فهو مثل قوله ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها ﴿إن الذي فرض عليك القرآن﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعنى أن الذي أوجب عليك الامتثال بما تضمنه القرآن وأنزله عليك ﴿لرادك إلى معاد﴾ أي يردك إلى مكة عن ابن عباس ومجاهد والجبائي وعلى هذا فيكون في الآية دلالة على صحة النبوة لأنه أخبر به من غير شرط ولا استثناء وجاء المخبر مطابقا للخبر قال القتيبي معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه وقيل ﴿إلى معاد﴾ إلى الموت عن ابن عباس في رواية أخرى وعن أبي سعيد الخدري قيل إلى المرجع يوم القيامة أي يعيدك بعد الموت كما بدأك عن الحسن والزهري وعكرمة وأبي مسلم وقيل إلى الجنة عن مجاهد وأبي صالح فالمعنى أنه مميتك وباعثك ومدخلك الجنة والظاهر يقتضي أنه العود إلى مكة لأن ظاهر العود يقتضي ابتداء ثم عودا إليه على أنه يجوز أن يقال الجنة معاد وإن لم يتقدم له فيها كون كما قال سبحانه في الكفار ثم إن مرجعهم لألى الجحيم ثم ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال ﴿قل﴾ يا محمد ﴿ربي أعلم من جاء بالهدى﴾ الذي يستحق به الثواب ﴿ومن هو في ضلال مبين﴾ أي ومن لم يجيء بالهدى وضل عنه أي لا يخفى عليه المؤمن والكافر ومن هو على الهدى ومن هو ضال عنه وتأويله قل ربي يعلم أني جئت بالهدى من عنده وإنكم في ضلال سينصرني عليكم ثم ذكر نعمه فقال ﴿وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب﴾ أي وما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرفك بإنزال القرآن عليك ﴿إلا رحمة من ربك﴾ قال الفراء هذا من الاستثناء المنقطع ومعناه إلا أن ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير كذلك ينعم عليك بردك إلى مكة فاعرف هذه النعم وقيل معناه وما كنت ترجو أن تعلم كتب الأولين وقصصهم تتلوها على أهل مكة ولم تشهدها ولم تحضرها بدلالة قوله وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا أي أنك تتلو على أهل مكة قصص مدين وموسى ولم تكن هناك ثاويا مقيما وكذلك قوله وما كنت بجانب الغربي وأنت تتلو قصصهم وأمرهم فهذه رحمة من ربك ﴿فلا تكونن ظهيرا للكافرين﴾ أي معينا لهم وفي هذا دلالة على وجوب معاداة أهل الباطل وفي هذه الآية وما بعدها وإن كان الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالمراد غيره وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول القرآن كله إياك أعني واسمعي يا جارة ﴿ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك﴾ أي ولا يمنعك هؤلاء الكفار عن اتباع آيات الله التي هي القرآن والدين بعد إذ نزلت إليك تعظيما لذكرك وتفخيما لشأنك ﴿وادع إلى ربك﴾ أي إلى طاعة ربك الذي خلقك وأنعم عليك وإلى توحيده ﴿ولا تكونن من المشركين﴾ أي لا تمل إليهم ولا ترض بطريقتهم ولا توال أحدا منهم ﴿ولا تدع مع الله إلها آخر﴾ أي لا تعبد معه غيره ولا تستدع حوائجك من جهة ما سواه ﴿لا إله إلا هو﴾ أي لا معبود إلا هو وحده لا شريك له ﴿كل شيء هالك إلا وجهه﴾ أي كل شيء فإن بائد إلا ذاته وهذا كما يقال هذا وجه الرأي ووجه الطريق وهذا معنى قول مجاهد ﴿إلا هو﴾ وفي هذا دلالة على أن الأجسام تفنى ثم تعاد على ما قاله الشيوخ في الفناء والإعادة وقيل معناه كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه فإن ذلك يبقى ثوابه عن عطا وابن عباس وعن أبي العالية والكلبي وهو اختيار الفراء وأنشد:

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

رب العباد إليه الوجه والعمل

أي إليه أوجه العمل وعلى هذا يكون وجه الله ما وجه إليه من الأعمال ﴿له الحكم﴾ أي له القضاء النافذ في خلقه وقيل له الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره ﴿وإليه ترجعون﴾ أي تردون في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

النظم:

اتصل قوله تلك الدار الآخرة الآية بما قبله على معنى أنه سبحانه كما حرم نعم الدنيا عليهم بالهلاك كذلك يحرم عليهم نعم الآخرة وأما وجه اتصال قوله إن الذي فرض عليك القرآن الآية بما قبله فقد ذكر فيه من حمل المعاد على البعث أنه اتصل بقوله تلك الدار الآخرة ومن حمله على العود إلى مكة قال إنه لما بين سبحانه وعده لأم موسى رد موسى عليها مع شرف النبوة كذلك وعده ربه العودة إلى مكة مع الشرف العظيم وقد أنجز وعده كما أنجز وعده هناك ويكون معنى الكلام أن الذي أنزل القرآن بذلك الوعد سينجز هذا الوعد واتصل قوله قل ربي أعلم من جاء بالهدى على معنى أنه أمره بأن يقول لهم ربي أعلم بالصادق والكاذب لا يلتبس عليه شيء.