الآيات 51-60

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ﴿51﴾ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴿52﴾ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴿53﴾ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴿54﴾ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴿55﴾ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿56﴾ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿57﴾ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴿58﴾ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴿59﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴿60﴾

القراءة:

قرأ حمزة والكسائي لما يأمرنا بالياء والباقون بالتاء.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ بالتاء قال إنهم تلقوا أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم بالرد وزادهم أمره إياهم بالسجود نفورا عما أمروا به ومن قرأ بالياء فالمعنى أنسجد لما يأمرنا محمد بالسجود على وجه الإنكار منهم لذلك ولا يكون أنسجد لما يأمرنا الرحمن بالسجود له لأنهم أنكروا الرحمن تعالى بقولهم وما الرحمن وأقول إذا جعلت ما بمعنى الذي على ما ذكره فالتقدير أنسجد لما يأمرنا بالسجود له وترتيب الحذف فيه على الوجه الذي تقدم بيانه في قوله سبحانه فاصدع بما تؤمر فلا وجه لإعادته وإن جعلت ما مصدرية فإنك لا تحتاج إلى حذف شيء ويكون تقديره أنسجد لأمرك أو لأمره.

اللغة:

أصل المرج الخلط ومنه أمر مريج أي مختلط وفي الحديث مرجت عهودهم أي اختلطت ومرجت الدابة وأمرجتها إذا خليتها ترعى وعذب الماء عذوبة فهو عذب والفرات أعذب المياه يقال فرت الماء يفرت فروتة فهو فرات إذا عذب والملح الأجاج الشديد الملوحة والنسب ما يرجع إلى ولادة قريبة والصهر خلطة تشبه النسب القرابة والمصاهرة في النكاح المقاربة وفي الحديث كان يؤسس مسجد قبا فيصهر الحجر العظيم إلى بطنه أي يدنيه يقال صهره وأصهره.

الإعراب:

﴿هذا عذب فرات﴾ مبتدأ وخبر في موضع نصب على الحال وكذلك قوله ﴿وهذا ملح أجاج﴾ بالعطف عليه وذو الحال أحد البحرين ﴿مبشرا ونذيرا﴾ نصب على الحال ﴿من شاء﴾ نصب على الاستثناء والمستثنى منه الكاف والميم في أسألكم و﴿أن يتخذ﴾ في موضع نصب بأنه مفعول شاء ﴿الذي خلق السماوات والأرض﴾ في موضع جر تقديره وتوكل على الحي الذي لا يموت خالق السماوات والأرض ويحتمل أن يكون في موضع نصب أو رفع على المدح والثناء على تقدير أعني الذي خلق أو هو الذي خلق و﴿الرحمن﴾ بالرفع القراءة وورد عن بعضهم في الشواذ بالجر ففي الرفع وجوه (أحدها) الابتداء وخبره ﴿فاسأل به﴾ عن الزجاج وفيه نظر لأن الفاء إنما يجوز في خبر ما فيه الألف واللام إذا جاز فيه معنى الشرط ولا يصح ذلك هنا (والثاني) أن يكون خبر مبتدإ محذوف أي هو الرحمن (والثالث) أن يكون بدلا من الضمير المستكن في استوى (والرابع) أن يكون فاعل استوى وأما الجر فعلى أن يكون صفة وتقديره وتوكل على الحي الخالق الرحمن ونفورا مفعول ثان لزاد.

المعنى:

﴿ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا﴾ ينذرهم ولكن بعثناك يا محمد إلى القرى كلها رسولا لعظيم منزلتك لدينا والنذير هو الداعي إلى ما يؤمن معه الخوف من العقاب وقيل إنه إخبار عن قدرته سبحانه والمعنى لو شئنا لقسمنا بينهم النذر كما قسمنا الأمطار بينهم ولكنا نفعل ما هو الأصلح لهم والأعود عليهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة ﴿فلا تطع الكافرين﴾ فيما يدعونك إليه من المداهنة والإجابة إلى ما يريدون ﴿وجاهدهم﴾ في الله ﴿به﴾ أي بالقرآن عن ابن عباس ﴿جهادا كبيرا﴾ أي تاما شديدا وفي هذا دلالة على أن من أجل الجهاد وأعظمه منزلة عند الله سبحانه جهاد المتكلمين في حل شبه المبطلين وأعداء الدين ويمكن أن يتأول عليه قوله رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ﴿وهو الذي مرج البحرين﴾ أي أرسلهما في مجاريهما وخلاهما كما يرسل الخيل في المرج وهما يلتقيان فلا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح وهو قوله ﴿هذا﴾ يعني أحد البحرين ﴿عذب فرات﴾ أي طيب شديد الطيب ﴿وهذا ملح أجاج﴾ شديد الملوحة وقيل الفرات البارد والأجاج الحار وقيل الأجاج المر عن قتادة ﴿وجعل بينهما برزخا﴾ أي حجابا وحاجزا من قدرة الله تعالى يمنعها من الاختلاط ﴿وحجرا محجورا﴾ أي حراما محرما أن يفسد الملح العذب ﴿وهو الذي خلق من الماء بشرا﴾ أي خلق من النطفة إنسانا وقيل أراد به آدم (عليه السلام) فإنه خلق من التراب الذي خلق من الماء وقيل أراد به أولاد آدم فإنهم المخلوقون من الماء ﴿فجعله نسبا وصهرا﴾ أي فجعله ذا نسب وصهر والصهر حرمة الختونة وقيل النسب الذي لا يحل نكاحه والصهر النسب الذي يحل نكاحه كبنات العم والخال عن الفراء وقيل النسب سبعة أصناف والصهر خمسة ذكرهم الله في قوله ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾ عن قتادة والضحاك وقد تقدم بيانه في سورة النساء وقيل النسب البنون والصهر البنات اللاتي يستفيد الإنسان بهن الأصهار فكأنه قال فجعل منه البنين والبنات وقال ابن سيرين نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة (عليها السلام) عليا (عليه السلام) فهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسبا وصهرا ﴿وكان ربك قديرا﴾ أي قادرا على ما أراد ثم أخبر سبحانه عن الكفار فقال ﴿ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم﴾ من الأصنام والأوثان ﴿وكان الكافر على ربه ظهيرا﴾ الظهير العون والمعين أي معينا للشيطان على ربه بالمعاصي عن الحسن ومجاهد وقال الزجاج لأنه يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الله فإن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان وقيل ظهيرا أي هينا كالمطرح من قولهم ظهر فلان بحاجته إذا جعلها خلف ظهره فلم يلتفت إليها واستهان بها والظهير بمعنى المظهور وهو المتروك المستخف به ومنه قوله ﴿واتخذتموه ورائكم ظهريا﴾ والأول أوجه وقالوا عنى بالكافر أبا جهل ﴿وما أرسلناك﴾ يا محمد ﴿إلا مبشرا﴾ بالجنة ﴿و نذيرا﴾ من النار وقد سبق معناه ﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء الكفار ﴿ما أسألكم عليه﴾ أي على القرآن وتبليغ الوحي ﴿من أجر﴾ تعطونيه ﴿إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا﴾ بإنفاقه ماله في طاعة الله واتباع مرضاته والمعنى إني لا أسألكم لنفسي أجرا ولكني لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله سبحانه بل أرغب فيه وأحث عليه وفي هذا تأكيد لصدقه لأنه لو طلب على تبليغ الرسالة أجرا لقالوا إنما يطلب أموالنا ﴿وتوكل على الحي الذي لا يموت﴾ أي فوض أمورك إليه فإنه ينتقم لك ولو بعد حين فإنه الحي الذي لا يموت فلن يفوته الانتقام ﴿وسبح بحمده﴾ أي احمده منزها له عما لا يجوز عليه في صفاته بأن تقول الحمد لله رب العالمين الحمد لله على نعمه وإحسانه الذي لا يقدر عليه غيره الحمد لله حمدا يكافىء نعمه في عظيم المنزلة وعلة المرتبة وما أشبه ذلك وقيل معناه وأعبده وصل له شكرا منك له على نعمه ﴿وكفى به بذنوب عباده خبيرا﴾ أي عليما فيحاسبهم ويجازيهم بها فحقيق بهم أن يخافوه ويراقبوه ﴿الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما﴾ أي ما بين هذين الصنفين ﴿في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن﴾ قد سبق تفسيره في سورة الأعراف ﴿فسئل به خبيرا﴾ اختلف في تأويله فقيل إن المعنى فاسأل عنه خبيرا والباء بمعنى عن والخبير هاهنا هو الله تعالى عن ابن جريج وأنشد في قيام الباء مقام عن قول علقمة بن عبدة:

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بإغواء النساء طبيب

يردن ثراء المال حيث وجدنه

وشرخ الشباب عندهن عجيب

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله

فليس له في ودهن نصيب

وقول الأخطل:

دع المعمر لا تسأل بمصرعه

وأسأل بمصقلة البكري ما فعلا

وقيل إن الخبير هنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعنى ليسأل كل منكم عن الله تعالى محمدا فإنه الخبير العارف به قيل إن الباء على أصلها والمعنى فاسأل بسؤالك أيها الإنسان خبيرا يخبرك بالحق في صفته ودل قوله ﴿فاسأل﴾ على السؤال كما قالت العرب من كذب كان شرا له أي كان الكذب شرا له ودل عليه كذب وقد مر ذكر أمثاله وقيل إن الباء فيه مثل الباء في قولك لقيت بفلان ليثا إذا وصفت شجاعته ولقيت به غيثا إذا وصفت سماحته والمعنى أنك إذا رأيته رأيت الشيء المشبه به والمعنى فاسأله عنه فإنه لخبير به وروي أن اليهود حكوا عن ابتداء خلق الأشياء بخلاف ما أخبر الله تعالى عنه فقال سبحانه ﴿فاسأل به خبيرا﴾ قال نفطويه أي سلني عنه فإنك تسأل بسؤالك خبيرا ﴿وإذا قيل لهم﴾ أي لهؤلاء المشركين ﴿اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن﴾ أي وأي شيء الرحمن والمعنى أنا لا نعرف الرحمن قال الزجاج الرحمن اسم من أسماء الله عز اسمه مذكور في الكتب الأولى ولم يكونوا يعرفونه من أسماء الله فقيل لهم إنه من أسماء الله ومعناه عند أهل اللغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة لأن فعلان من أبنية المبالغة تقول رجل ريان وعطشان في النهاية من الري والعطش وفرحان وجذلان إذا كان في النهاية من الفرح والجذل ﴿أنسجد لما تأمرنا﴾ مر تفسيره ﴿وزادهم نفورا﴾ أي زادهم ذكر الرحمن تباعدا من الإيمان عن مقاتل والمعنى أنهم ازدادوا عند ذلك نفورا عن الحق وقبول قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

النظم:

وجه اتصال الآية بما قبلها أن فيها إخبار أنه سبحانه أفرده بالإرسال مراعاة لحسن التدبير في تمييزه بالإكرام والإجلال لعلمه بما فيه من الخلال الموجبة في الحكمة إرساله إلى الخلق على غاية الكمال فعلى هذا يتعلق بقوله ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ثم ذكر من التصريف للآيات بقوله وهو الذي مرج البحرين ما يدل على وحدانيته وكمال قدرته ثم عجب سبحانه من إعراضهم عن الآيات مع وضوحها وظهورها ومقابلتهم لنعمه بالكفران بقوله ﴿ويعبدون من دون الله﴾ الآية ثم بين أنه أراد بتصريف الآيات الخير والإحسان بقوله ﴿وما أرسلناك﴾ الآية ثم بين أنه لا يسألهم عليه أجرا لئلا ينفروا عنه ثم بين سبحانه أنه كما لا يسألهم أجرا أنه يتوكل عليه في أمره ويفوض إليه علم المصالح فيما كلفه ثم هدد سبحانه عباده بقوله ﴿وكفى به بذنوب عباده خبيرا﴾ فإنه إذا لم يذهب عليه ذنوبهم لا يذهب عليه جزاؤهم.