الآيات 21-30

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ﴿21﴾ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ﴿22﴾ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴿23﴾ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ﴿24﴾ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا ﴿25﴾ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴿26﴾ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴿27﴾ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴿28﴾ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ﴿29﴾ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴿30﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو تشقق خفيفة الشين هاهنا وفي سورة ق والباقون ﴿تشقق﴾ مشددة الشين وقرأ ابن كثير ننزل بنونين خفيفة الملائكة بالنصب والباقون و﴿نزل﴾ بنون واحدة وتشديد الزاي وفتح اللام و﴿الملائكة﴾ بالرفع.

الحجة:

تشقق أصله تتشقق فأدغم التاء في الشين والتخفيف أكثر في الكلام لأن الحذف أخف عليهم من الإدغام ومن قرأ وننزل الملائكة تنزيلا فإن أنزل مثل نزل ومثله في التنزيل وتبتل إليه تبتيلا فجاء المصدر على فعل قال الشاعر:

وقد تطويت انطواء الخصب

اللغة:

الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه ومثله الطمع والأمل واللقاء المصير إلى الشيء من غير حائل والعتو الخروج إلى أفحش الظلم وأصل الحجر الضيق وسمي الحرام حجرا لضيقه بالنهي عنه قال المتلمس:

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها

حجر حرام ألا تلك الدهاريس

ومنه حجر الكعبة لأنه لا يدخل عليه في الطواف وإنما يطاف من ورائه لتضييقه بالنهي عنه والحجر العقل لما فيه من التضييق في القبيح والهباء غبار كالشعاع لا يمكن القبض عليه وفلان كناية عن واحد بعينه من الناس لأنه معرفة وقال ابن دريد عن أبي حاتم عن العرب أنهم كنوا عن كل مذكر بفلان وعن كل مؤنثة بفلانة فإذا كنوا عن البهائم أدخلوا عليه الألف واللام فقالوا الفلان والفلانة.

الإعراب:

﴿يوم يرون الملائكة﴾ العامل في ﴿يوم﴾ معنى قوله ﴿لا بشرى يومئذ للمجرمين﴾ فإنه يدل على يحزنون و﴿يومئذ﴾ توكيد ليوم يرون ولا يجوز أن يكون ﴿يوم يرون﴾ منصوبا بلا بشرى لأن ما يتصل بلا لم يعمل فيما قبلها و﴿حجرا﴾ منصوب لأنه مفعول ثاني لفعل مقدر وهو جعل الله عليكم الجنة حجرا محجورا.

﴿أصحاب الجنة يومئذ خير﴾ العامل في يومئذ خير.

﴿ويوم تشقق﴾ العامل فيه محذوف تقديره واذكر يوم تشقق.

﴿الملك يومئذ الحق للرحمن﴾ يومئذ من صلة ﴿الملك﴾ الذي هو المصدر و﴿الحق﴾ صفة له والجار والمجرور الذي هو ﴿للرحمن﴾ في موضع خبر المبتدأ الذي هو ﴿الملك﴾ ويجوز أن يكون يومئذ ظرفا وهو بدل من ﴿يوم تشقق﴾ ويكون العامل فيهما الظرف الذي هو قوله ﴿للرحمن﴾ وأن تقدما عليه.

﴿ويوم يعض﴾ يجوز أن يكون العامل فيه اذكر ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله و﴿ويقول﴾ جملة في موضع الحال.

﴿يا ليتني﴾ المنادى محذوف وتقديره يا صاحبي ليتني.

و﴿يا ويلتا﴾ منادى مضاف أصله يا ويلتي تعالي فإنه وقتك فأبدل من الكسرة فتحة ومن الياء ألفا لثقل الكسرة والياء وخفة الفتحة والألف.

النزول:

قال ابن عباس نزل قوله ﴿ويوم يعض الظالم﴾ في عقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف وكانا متخالين وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة الرسول فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما ودعا الناس فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعامه فلما قربوا الطعام قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أنا بأكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال عقبة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وبلغ ذلك أبي بن خلف فقال صبات يا عقبة قال لا والله ما صبات ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم فقال أبي ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل ذلك عقبة وارتد وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فضرب عنقه يوم بدر صبرا وأما أبي بن خلف فقتله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد بيده في المبارزة وقال الضحاك لما بزق عقبة في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاد بزاقه في وجهه فأحرق خديه وكان أثر ذلك فيه حتى مات وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر الله تعالى وقال أبو عبد الله (عليه السلام) ليس رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده إلى جنة أو تسوقه إلى نار تجري فيمن بعده إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.

المعنى:

ثم حكى سبحانه عن حال الكفار بقوله ﴿وقال الذين لا يرجون لقاءنا﴾ أي لا يأملون لقاء جزائنا وهذا عبارة عن إنكارهم البعث والمعاد وقيل معناه لا يخافون فهي لغة تهامة وهذيل يضعون الرجاء موضع الخوف إذا كان معه جحد لأن من رجا شيئا خاف فوته فإنه إذا لم يخف كان يقينا ومن خاف شيئا رجا الخلاص منه فوضع أحدهما موضع الآخر ﴿لولا أنزل علينا الملائكة﴾ أي هلا أنزل الملائكة ليخبرونا بأن محمد نبي ﴿أو نرى ربنا﴾ فيخبرنا بذلك ويأمرنا باتباعه وتصديقه قال الجبائي وهذا يدل على أنهم كانوا مجسمة فلذلك جوزوا الرؤية على الله ثم أقسم الله عز اسمه فقال ﴿لقد استكبروا﴾ بهذا القول ﴿في أنفسهم﴾ أي طلبوا الكبر والتجبر بغير حق ﴿وعتوا﴾ بذلك أي طغوا وعاندوا ﴿عتوا كبيرا﴾ أي طغيانا وعنادا عظيما وتمردوا في رد أمر الله تعالى غاية التمرد ثم أعلم سبحانه أن الوقت الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة وإن الله تعالى قد حرمهم البشرى في ذلك اليوم فقال ﴿يوم يرون الملائكة﴾ يعني يوم القيامة ﴿بشرى يومئذ للمجرمين﴾ أي لا بشارة لهم بالجنة والثواب قال الزجاج والمجرمون الذين أجرموا الذنوب وهم في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله عز وجل ﴿ويقولون حجرا محجورا﴾ أي ويقول الملائكة لهم حراما محرما عليكم سماع البشرى عن قتادة والضحاك وقيل معناه ويقول المجرمون للملائكة كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل حجرا محجورا دماؤنا عن مجاهد وابن جريج قال الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول حجرا أي حرام عليك حرمتي في هذا الشهر فلا يبدأه بشر فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة فقالوا ذلك ظنا منهم أنه ينفعهم وقيل معناه يقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله عن عطا عن ابن عباس وقيل يقولون حجرا محجورا عليكم أن تتعوذوا فلا معاذ لكم ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل﴾ أي قصدنا وعمدنا كما في قول الشاعر:

وقدم الخوارج الضلال

إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلال وفي هذا بلاغة عجيبة لأن التقدير قصدنا إليه قصد القادم على ما يكرهه مما لم يكن رآه قبل فيغيره وأراد به العمل الذي عمله الكفار في الدنيا مما رجوا به النفع والأجر وطلبوا به الثواب والبر نحو إنصافهم لمن يعاملهم ونصرهم للمظلوم وأعتاقهم وصدقاتهم وما كانوا يتقربون به إلى الأصنام ﴿فجعلناه هباء منثورا﴾ وهو الغبار يدخل الكوة من شعاع الشمس عن الحسن ومجاهد وعكرمة وقيل هو رهج الدواب عن ابن زيد وقيل هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب عن قتادة وسعيد بن جبير وقيل هو الماء المهراق عن ابن عباس والمنثور المتفرق وهذا مثل والمعنى تذهب أعمالهم باطلا فلم ينتفعوا بها من حيث عملوها لغير الله ثم ذكر سبحانه فضل أهل الجنة على أهل النار فقال ﴿أصحاب الجنة يومئذ﴾ يعني يوم القيامة ﴿خير مستقرا﴾ أي أفضل منزلا في الجنة ﴿وأحسن مقيلا﴾ أي موضع قائلة قال الأزهري القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها وقال ابن عباس وابن مسعود لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قال البلخي معنى خير وأحسن هنا أنه خير في نفسه وحسن في نفسه لا بمعنى أنه أفعل من غيره كما في قوله وهو أهون عليه أي هو هين عليه وكما يقال الله أكبر لا بمعنى أنه أكبر من شيء غيره ﴿ويوم تشقق السماء بالغمام﴾ عطف على قوله ﴿يوم يرون﴾ المعنى تتشقق السماء وعليها غمام كما يقال ركب الأمير بسلاحه وخرج بثيابه أي وعليه سلاحه وثيابه عن أبي علي الفارسي وقيل تتشقق السماء عن الغمام الأبيض عن الفراء وإنما تتشقق السماء لنزول الملائكة وهو قوله ﴿ونزل الملائكة تنزيلا﴾ وقال ابن عباس تتشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا من الإنس والجن ثم كذلك حتى تتشقق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها ﴿الملك يومئذ الحق للرحمن﴾ أي الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة ويزول ملك سائر الملوك فيه وقيل إن الملك ثلاثة أضرب ملك عظمة وهو لله تعالى وحده وملك ديانة وهو بتمليك الله تعالى وملك جبرية وهو بالغلبة ﴿وكان يوما على الكافرين عسيرا﴾ أعسر عليهم ذلك اليوم لشدته ومشقته ويهون على المؤمنين كأدنى صلاة صلوها في دار الدنيا وفي هذا بشارة للمؤمنين حيث خص بشدة ذلك اليوم الكافرين ﴿ويوم يعض الظالم على يديه﴾ ندما وأسفا وقيل هو عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس على ما مضى ذكره عن ابن عباس وقيل هو عام في كل ظالم نادم يوم القيامة وكل خليل يخال غيره في غير ذات الله قال عطاء يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين ثم تنبتان ولا يزال هكذا كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل ﴿يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا﴾ أي ليتني اتبعت محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) واتخذت معه سبيلا إلى الهدى ﴿يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا﴾ يعني أبيا ﴿خليلا﴾ وقيل أراد به الشيطان عن مجاهد وإن قلنا إن المراد بالظالم هنا جنس الظلمة فالمراد به كل خليل يضل عن الدين ولو قال لما اتخذ فرعون وهامان وإبليس وجميع المضلين لطال فقال فلانا حتى يتناول كل خليل مضل عن الدين ﴿لقد أضلني﴾ أي صرفني وردني ﴿عن الذكر﴾ أي عن القرآن والإيمان به ﴿بعد إذ جاءني﴾ مع الرسول وتم الكلام هنا ثم قال الله ﴿وكان الشيطان للإنسان خذولا﴾ لأنه يتبرأ منه في الآخرة ويسلمه إلى الهلاك ولا يغني عنه شيئا ﴿وقال الرسول﴾ يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يشكو قومه ﴿يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا﴾ يعني هجروا القرآن وهجروني وكذبوني عن ابن عباس والمعنى جعلوه متروكا لا يسمعونه ولا يتفهمونه وقيل إن قوله ﴿وقال الرسول﴾ معناه ويقول كما في قول الشاعر:

مثل العصافير أحلاما ومقدرة

لو يوزنون بزف الريش ما وزنوا

أي ما يزنون.