الآيات 11-20

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ﴿11﴾ إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴿12﴾ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴿13﴾ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴿14﴾ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا ﴿15﴾ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا ﴿16﴾ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴿17﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴿18﴾ فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴿19﴾ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴿20﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر وابن كثير وحفص ويعقوب ﴿ويوم يحشرهم﴾ بالياء والباقون بالنون وقرأ ابن عامر فنقول بالنون والباقون بالياء وقرأ أبو جعفر وزيد عن يعقوب أن نتخذ بضم النون وفتح الخاء وهو قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وروي عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) وزيد بن علي والباقون ﴿نتخذ﴾ بفتح النون وكسر الخاء وروي بعضهم عن ابن كثير فقد كذبوكم بما يقولون بالياء والقراءة المشهورة بالتاء وقرأ حفص ﴿فما تستطيعون﴾ بالتاء والباقون بالياء وروي عن علي (عليه السلام) ويمشون في الأسواق بضم الياء وفتح الشين المشددة.

الحجة:

قال أبو علي حجة من قرأ ﴿يحشرهم﴾ بالياء قوله ﴿كان على ربك وعدا مسئولا﴾ ويوم يحشرهم ربك ومن قرأ نحشرهم بالنون ﴿فيقول﴾ بالياء فعلى أنه أفرد بعد أن جمع كما أفرد بعد الجمع في قوله وآتينا موسى الكتاب إلى قوله إلا تتخذوا من دوني وكيلا وقراءة ابن عامر ويوم نحشرهم فنقول حسن لإجرائه المعطوف مجرى المعطوف عليه في لفظ الجمع قال ابن جني من قرأ أن نتخذ بضم النون فإن قوله ﴿من أولياء﴾ في موضع الحال أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء ودخلت من زائدة لمكان النفي تقول اتخذت زيدا وكيلا فإن نفيت قلت ما اتخذت زيدا من وكيل وكذلك أعطيته درهما وما أعطيته من درهم وهذا في المفعول به وأما قراءة الجماعة ﴿أن نتخذ من دونك من أولياء﴾ فإن قوله ﴿من أولياء﴾ في موضع المفعول أي أولياء فهو كقولك ضربت رجلا فإن نفيت قلت ما ضربت من رجل والمعنى في قوله ﴿ما كان ينبغي لنا أن نتخذ﴾ لسنا ندعي استحقاق الولاء ولا العبادة لنا والمعنى في قوله ﴿فقد كذبوكم بما تقولون﴾ بالتاء كذبوكم في قولكم أنهم شركاء وأنهم آلهة وذلك في قولهم تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ومن قرأ بما يقولون بالياء فالمعنى فقد كذبوكم أي ما كنتم تعبدون بقولهم وقولهم هو نحو ما قالوه في قوله وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون وقوله فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وقوله فما يستطيعون بالياء معناه فما يستطيع الشركاء صرفا ولا نصرا لكم ومن قرأ بالتاء فمعناه فما تستطيعون أنتم أيها المتخذون للشركاء من دونه صرفا ولا نصرا ومن قرأ يمشون فمعناه يدعون إلى المشي ويحملهم حامل على المشي وجاء على فعل لتكثير فعلهم لأنهم جماعة.

اللغة:

السعير النار الملتهبة مأخوذة من إسعار النار وهو شدة إيقادها أسعرتها إسعارا وسعرها الله تسعيرا والتغيظ الهيجان والغليان ومنه قيل لشدة الغضب الغيظ ومقرنين مأخوذ من القرن وهو الحبل يشد فيه بعيران أو أبعرة ثم يستعمل في كل مجتمعين والثبور الهلاك وثبر الرجل فهو مثبور أهلك قال ابن الزبعري:

إذ أجاري الشيطان في سنن الغي

ومن مال ميلة مثبور

ويقال ما خبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك عنه فكان المثبور ممنوع من كل خير حتى هلك والبور الهلكى وهو جمع الباير وقيل هو مصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث قال ابن الزبعري:

يا رسول المليك إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور

وأصل الباب من بارت السلعة تبور إذا كسدت فلا تشترى فكأنها بقيت وفسدت.

الإعراب:

﴿مكانا﴾ ظرف لألقى.

﴿مقرنين﴾ نصب على الحال.

﴿ثبورا﴾ مصدر فعل محذوف تقديره ثبر ثبورا.

و﴿دعوا﴾ هنا بمعنى قالوا و﴿هنالك﴾ يحتمل أن يكون ظرف زمان وأن يكون ظرف مكان أي دعوا في ذلك اليوم أو في ذلك المكان.

﴿كانت لهم جزاء ومصيرا﴾ في موضع نصب على الحال من وعد وقد مضمرة وذو الحال الضمير المحذوف العائد من الصلة إلى الموصول.

﴿لهم فيها ما يشاءون﴾ جملة أخرى في موضع الحال من قوله ﴿المتقون﴾ ﴿وما أرسلنا قبلك من المرسلين﴾ مفعول أرسلنا محذوف تقديره وما أرسلنا قبلك رسلا ويدل عليه قوله ﴿من المرسلين﴾ ﴿إلا أنهم ليأكلون الطعام﴾ إن مع اسمه وخبره مستثنى عن الرسل المحذوفة تقديره وما أرسلنا قبلك رسلا إلا هم يأكلون الطعام وهذا كما يقال ما قدم علينا أمير إلا أنه مكرم لي وليست كسرة أن لأجل اللام فإن دخولها وخروجها واحد في هذا الموضع وقيل ما في الآية كقول الشاعر:

ما أعطياني ولا سألتهما

إلا وإني لحاجز كرمي

المعنى:

ثم بين سبحانه سوء اعتقادهم وما أعده لهم على قبيح فعالهم ومقالهم فقال ﴿بل كذبوا بالساعة﴾ أي ما كذبوك لأنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق بل لأنهم لم

يقروا بالبعث والنشور والثواب والعقاب ﴿وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا﴾ أي نارا تتلظى ثم وصف ذلك السعير فقال ﴿إذا رأتهم من مكان بعيد﴾ أي من مسيرة مائة عام عن السدي والكلبي وقال أبو عبد الله (عليه السلام) من مسيرة سنة ونسب الرؤية إلى النار وإنما يرونها هم لأن ذلك أبلغ كأنها تراهم رؤية الغضبان الذي يزفر غيظا وذلك قوله ﴿سمعوا لها تغيظا وزفيرا﴾ وتغيظها تقطعها عند شدة اضطرابها وزفيرها صوتها عند شدة التهابها كالتهاب الرجل المغتاظ والتغيظ لا يسمع وإنما يعلم بدلالة الحال عليه وقيل معناه سمعوا لها صوت تغيظ وغليان قال عبيد بن عمير أن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خر لوجهه وقيل التغيظ للنار والزفير لأهلها كأنه يقول رأوا للنار تغيظا وسمعوا لأهلها زفيرا ﴿وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا﴾ معناه وإذا ألقوا من النار في مكان ضيق يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح عن أكثر المفسرين وفي الحديث قال (عليه السلام) في هذه الآية والذي نفسي بيده أنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ﴿مقرنين﴾ أي مصفدين قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال وقيل قرنوا مع الشياطين في السلاسل والأغلال عن الجبائي ﴿دعوا هنالك ثبورا﴾ أي دعوا بالويل والهلاك على أنفسهم كما يقول القائل وا ثبورا أي وا هلاكاه وقيل وا انصرافاه عن طاعة الله فتجيبهم الملائكة ﴿لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا﴾ أي لا تدعوا ويلا واحدا وادعوا ويلا كثيرا أي لا ينفعكم هذا وإن كثر منكم قال الزجاج معناه هلاككم أكبر من أن تدعوا مرة واحدة ﴿قل﴾ يا محمد ﴿أ ذلك﴾ يعني ما ذكره من السعير ﴿خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت﴾ تلك الجنة ﴿لهم جزاء﴾ على أعمالهم ﴿ومصيرا﴾ أي مرجعا ومستقرا ﴿لهم فيها ما يشاءون﴾ ويشتهون من المنافع واللذات ﴿خالدين﴾ مؤبدين لا يفنون فيها ﴿كان على ربك وعدا مسئولا﴾ قال ابن عباس معناه أن الله سبحانه وعد لهم الجزاء فسألوه الوفاء فوفى وقيل معناه أن الملائكة سألوا الله تعالى ذلك لهم فأجيبوا إلى مسألتهم وذلك قولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم عن محمد بن كعب وقيل أنهم سألوا الله تعالى في الدنيا الجنة بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأتاهم ما طلبوا ﴿ويوم يحشرهم﴾ أي يجمعهم ﴿وما يعبدون من دون الله﴾ يعني عيسى وعزير والملائكة عن مجاهد وقيل يعني الأصنام عن عكرمة والضحاك ﴿فيقول﴾ الله تعالى لهؤلاء المعبودين ﴿أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل﴾ أي طريق الجنة والنجاة ﴿قالوا﴾ يعني المعبودين من الملائكة والإنس أو الأصنام إذا أحياهم الله وأنطقهم ﴿سبحانك﴾ تنزيها لك عن الشريك وعن أن يكون معبود سواك ﴿ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء﴾ أي ليس لنا أن نوالي أعداءك بل أنت ولينا من دونهم وقيل معناه ما كان يجوز لنا وللعابدين وما كان يحق لنا أن نأمر أحدا بأن يعبدنا ولا يعبدك فإنا لو أمرناهم بذلك لكنا واليناهم ونحن لا نوالي من يكفر بك ومن قرأ نتخذ فمعناه ما كان يحق لنا أن نعبد ﴿ولكن متعتهم وآبائهم حتى نسوا الذكر﴾ معناه ولكن طولت أعمارهم وأعمار آبائهم ومتعتهم بالأموال والأولاد بعد موت الرسل حتى نسوا الذكر المنزل على الأنبياء وتركوه ﴿وكانوا قوما بورا﴾ أي هلكى فاسدين هذا تمام الحكاية عن قول المعبودين من دون الله فيقول الله سبحانه عند تبرء المعبودين من عبدتهم ﴿فقد كذبوكم﴾ أي كذبكم المعبودون أيها المشركون ﴿بما تقولون﴾ أي بقولكم أنهم آلهة شركاء لله ومن قرأ بالياء فالمعنى فقد كذبوكم بقولهم ﴿سبحانك ما كان ينبغي لنا﴾ الآية فما يستطيعون صرفا أي فما يستطيع المعبودون صرف العذاب عنكم ﴿ولا نصرا﴾ لكم بدفع العذاب عنكم ومن قرأ بالتاء فالمعنى فما تستطيعون أيها المتخذون الشركاء صرف العذاب عن أنفسكم ولا أن تنصروا أنفسكم بمنعها من العذاب ﴿ومن يظلم منكم﴾ نفسه بالشرك وارتكاب المعاصي ﴿نذقه﴾ في الآخرة ﴿عذابا كبيرا﴾ أي شديدا عظيما ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿وما أرسلنا قبلك﴾ يا محمد ﴿من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق﴾ قال الزجاج وهذا احتجاج عليهم في قوله ﴿مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ أي فقل لهم كذلك كان من خلا من الرسل فكيف يكون محمد بدعا منهم ﴿وجعلنا بعضكم لبعض فتنة﴾ أي امتحانا وابتلاء وهو افتتان الفقير بالغني يقول لو شاء الله لجعلني مثله غنيا والأعمى بالبصير يقول لو شاء الله لجعلني مثله بصيرا وكذلك السقيم بالصحيح عن الحسن وقيل هو ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا ورذالنا فقال الله لهؤلاء الفقراء ﴿أتصبرون﴾ أيها الفقراء على الأذى والاستهزاء ﴿وكان ربك بصيرا﴾ إن صبرتم فاصبروا فأنزل الله فيهم إني جزيتهم اليوم بما صبروا عن مقاتل وقيل معناه أ تصبرون أيها الفقراء على فقركم ولا تفعلون ما يؤدي إلى مخالفتنا أ تصبرون أيها الأغنياء فتشكرون ولا تفعلون ما يؤدي إلى مخالفتنا ﴿وكان ربك بصيرا﴾ أي عليما فيغني من أوجبت الحكمة إغناءه ويفقر من أوجبت الحكمة إفقاره وقيل بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع عن ابن جريج.