الآيات 3-4

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿3﴾ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴿4﴾

القراءة:

قد ذكرنا الاختلاف في قوله ﴿يغشي الليل النهار﴾ في سورة الأعراف وقرأ ابن كثير وأبو عمر ويعقوب وحفص ﴿وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان﴾ جميعها بالرفع والباقون بالجر في الجميع وقرأ حفص صنوان بضم الصاد وكذلك رواية الحلواني عن القواس وقرأ الباقون بكسر الصاد وفي الشواذ قراءة الحسن وقتادة صنوان وقرأ ﴿يسقي﴾ بالياء ابن عامر وزيد ورويس عن يعقوب وقرأ الباقون تسقى بالتاء وقرأ أهل الكوفة غير عاصم وروح عن يعقوب ويفضل بالياء والباقون بالنون.

الحجة:

قال أبو علي من رفع قوله ﴿وزرع﴾ فتقديره وفي الأرض زرع ونخيل صنوان فجعله محمولا على قوله وفي الأرض قطع ولم يجعله محمولا على ما في الجنات من الأعناب والجنة على هذا تقع على الأرض التي فيها الأعناب دون غيرها كما تقع على الأرض التي فيها الأعناب والنخيل دون غيرهما ويقوي ذلك قول زهير:

كان عيني في غربي مقتلة

من النواضح تسقي جنة سحقا

فالمعنى تسقي نخيل جنة فأما من قرأ بالجر فإنه حمل النخيل والزرع على الأعناب فكأنه قال جنات من أعناب من زرع ونخيل والدليل على أن الأرض إذا كان فيها النخل والكرم والزرع سميت جنة قوله ﴿جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا﴾ فكما سميت الأرض ذات العنب والنخل والزرع جنة كذلك يكون النخيل والزرع محمولين على الأعناب فتكون الجنة من هذه الأشياء ويقوي ذلك قوله:

أقبل سيل جاء من أمر الله

يحرد حرد الجنة المغلة والغلة إنما هي ما يكال بالقفيز في أكثر الأمر قال والصنوان فيما يذهب إليه أبو عبيدة صفة للنخيل والمعنى أن يكون من أصل واحد ثم يتشعب من الرؤوس فيصير نخلا ونخلين قال وقال ﴿يسقى بماء واحد﴾ لأنها تشرب من أصل واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل وهي التمر وأجاز غيره أن يكون الصنوان من صفة الجنات وكأنه يكون يراد به في المعنى ما في الجنات وإن جرى على لفظ الجنات وعلى هذا يجوز أن ترفع وإن جررت النخيل لأن الجنات مرفوعة ولم يحك هذا في قراءة السبعة وأما الكسرة التي في صنوان فليست التي كانت في صنو كما أن الكسرة التي في قنو ليست في قنوان لأن تلك قد حذفت في التكسير وعاقبتها الكسرة التي يجتلبها التكسير وكذلك الكسرة التي في هجان وأنت تريد الجمع ليست الكسرة التي كانت في الواحد ولكنه مثل الكسرة التي في ظراف إذا جمعت عليه ظريفا وأما من ضم الصاد من صنوان فإنه جعله مثل ذئب وذؤبان وربما تعاقب فعلان وفعلان على البناء الواحد نحو حش وحشان وحشان وأما صنوان بفتح الصاد فليست من أمثلة الجمع المكسر فإن صح ذلك فإنه يكون اسما للجمع لا مثالا له من أمثلة التكسير فيكون بمنزلة الجامل والسامر ومثله قولهم السعدان والضمران في الجمع ومن قرأ تسقى بالتاء فالمراد تسقى هذه الأشياء ومن قرأ بالياء حمله على الزرع وحده.

المعنى:

لما ذكر سبحانه وتعالى في الآية من نعمائه وآلائه على عباده في رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر ودل بذلك على وحدانيته عقبه بذكر الأرض وما فيها من الآيات فقال ﴿وهو الذي مد الأرض﴾ أي بسطها طولا وعرضا ليتمكن الحيوانات من الثبات فيها والاستقرار عليها ﴿وجعل فيها رواسي﴾ أي جبالا ثوابت لتمسك الأرض ولو أراد أن يمسكها من غير جبال لفعل إلا أنه أمسكها بالرواسي لأن ذلك أقرب إلى أفهام الناس وأدعى لهم إلى الاستدلال والنظر ﴿وأنهارا﴾ أي وشق فيها أنهارا تجري فيها المياه ولو لا الأنهار لضاع أكثر المياه ولما أمكن الشرب والسقي ﴿ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين﴾ أي وجعل في الأرض من كل الثمرات لمأكولهم ومطعومهم صنفين أسود وأبيض وحلوا وحامضا وصيفيا وشتويا ورطبا ويابسا عن ابن عباس وقيل الزوج قد يكون واحدا وقد يكون اثنين يقال زوج نعل وزوج نعلين عن أبي عبيدة وإنما قال اثنين للتأكيد والزوج في الحيوانات عبارة عن الذكر والأنثى وفي الثمار عبارة عن لونين وقال الماوردي : واحد الزوجين ذكر وأنثى كفحول النخل وإناثها وكذلك كل جنس من النبات وإن خفي الزوج الآخر حلو وحامض أو عذب ومالح أو أبيض وأسود أو أحمر وأصفر فإن كل جنس من النبات ذو نوعين فصارت كل ثمرة زوجين هما أربعة أنواع ﴿يغشي الليل النهار﴾ أي يلبس ظلمة الليل ضياء النهار عن الحسن وقيل يدخل الليل في النهار والنهار في الليل عن ابن عباس وقيل معناه يأتي بالليل ليذهب بضياء النهار ويستره ليسكن الحيوانات فيه ويأتي بضياء النهار ليمحو ظلام الليل وينصرف الناس فيه لمعايشهم ﴿إن في ذلك﴾ أي فيما سبق ذكره ﴿لآيات﴾ أي لدلالات واضحات على وحدانية الله تعالى ﴿لقوم يتفكرون﴾ فيها فيستدلون منها على أن لهم صانعا ﴿وفي الأرض قطع متجاورات﴾ أي أبعاض متقاربات مختلفات في التفاضل منها جبل صلب ولا ينبت شيئا ومنها سهل حر ينبته ومنها سبخة لا تنبت عن ابن عباس ومجاهد والضحاك بين الله سبحانه باختلاف هذه الأرضين مع تجاورها وتقارب بعضها من بعض في الهيأة والمنظر أنه قادر على كل شيء من الأصناف المختلفة والمؤتلفة وقيل إنها متجاورات بعضها عامر وبعضها غير عامر عن الزجاج ﴿وجنات﴾ أي بساتين ﴿من أعناب وزرع ونخيل صنوان﴾ أي نخلات من أصل واحد ﴿وغير صنوان﴾ أي نخلات من أصول شتى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والصنو الأصل يقال هذا صنوه أي أصله عن ابن الأنباري وقيل إن الصنوان النخلة تكون حولها النخلات وغير صنوان النخل المتفرق عن البراء بن عازب وسعيد بن جبير وقيل الصنو المثل والصنوان الأمثال ومنها قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عم الرجل صنو أبيه عن الجبائي ﴿يسقي بماء واحد﴾ أي يسقي ما ذكرناه من القطع المتجاورة والجنات والنخيل المختلفة بماء الأنهار أو بماء السماء ﴿ويفضل بعضها على بعض في الأكل﴾ أي ويفضل الله ومن قرأ بالنون فالمعنى نفضل نحن بعضها على بعض في الطعم واللون والطبع مع أن البئر واحدة والشرب واحد والجنس واحد حتى يكون بعضها حامضا وبعضها حلوا وبعضها مرا فلو كانت بالطبع لما اختلف ألوانها وطعومها مع كون الأرض والماء والهواء واحدا وفي هذا أوضح دلالة على أن لهذه الأشياء صانعا قادرا أحدثها وأبدعها ودبرها على ما تقتضيه حكمته والأكل الثمر الذي يؤكل ﴿إن في ذلك﴾ أي في اختلاف ألوانها وطعومها عن ابن عباس وقيل إن فيما تقدم ذكره ﴿لآيات﴾ أي حججا ودلالات ﴿لقوم يعقلون﴾ دلائل الله تعالى ويتفكرون فيها ويستدلون بها وروي عن جابر قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول لعلي (عليه السلام) الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ثم قرأ ﴿وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب﴾ الآية.