الآيات 8-11

اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴿8﴾ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴿9﴾ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴿10﴾ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ﴿11﴾

القراءة:

في الشواذ قراءة أبي البرهسم له معاقيب من بين يديه ورقباء من خلفه يحفظونه بأمر الله وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله وروي عن علي (عليه السلام) وابن عباس وعكرمة وزيد بن علي يحفظونه بأمر الله.

الحجة:

يجب أن يكون معاقيب تكسير معقبة غير أنه لما حذف أحد القافين عوض منها الياء وقوله يحفظونه بأمر الله فمعناه يحفظونه مما يحاذره بأمر الله والمفعول هنا محذوف قال ابن جني وأما قراءة الجماعة ﴿يحفظونه من أمر الله﴾ فتقديره له معقبات من أمر الله يحفظونه مما يخافه فمن على هذا مرفوعة الموضع لأنها صفة للمرفوع الذي هو معقبات وليس هذا على معنى يحفظونه من أمر الله أن ينزل به لأنه لو كان كذلك لكانت منصوبة الموضع كقولك حفظت زيدا من الأسد والذي ذكرته رأي أبي الحسن فإن قلت فهلا كان تقديره على يحفظونه من أمر الله بأمر الله ويستدل على إرادة الباء هنا بقراءة علي (عليه السلام) يحفظونه بأمر الله وجاز أن يكون يحفظونه بأمر الله لأن هذه المصائب كلها في علم الله وبإقداره فاعليها عليها فيكون هذا كقولك هربت من قضاء الله بقضاء الله قيل تأويل أبي الحسن اذهب في الاعتداد عليهم وذلك لأنه سبحانه وكل بهم من يحفظهم من حوادث الدهر ومخاوفه التي لا يعتد عليهم بتسليطها عليهم فهذا أسهل طريقا وأرسخ في الاعتداد بالنعمة عليهم عرفا.

اللغة:

الغيض ذهاب المائع في جهة العمق وغاضت المياه نقصت وغيضته نقصته قال:

غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا المتعالي والعالي واحد وتعالى أي جل عن كل ثناء وقيل المتعالي المقتدر على وجه يستحيل أن يساويه غيره والسارب الساري الجاري بسرعة والسرب بفتح السين والراء الماء السائل من المزادة قال ذو الرمة:

ما بال عينك منها الماء ينسكب

كأنه من كلي مفرية سرب وقيل السارب الذاهب في الأرض ومنه قول قيس بن الحطيم:

إني سربت وكنت غير سروب

ويقال خل سربه أي طريقه والمعقبات المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ويكون بدلا منه وأصل التعقيب أن يكون الشيء عقيب آخر والمعقب الطالب دينه مرة بعد مرة قال الشاعر:

حتى تهجر في الرواح وهاجها

طلب المعقب حقه المظلوم

ومنه العقاب لأنه يستحق عقيب الجرم والعقاب لأنها تعقب الصيد تطلبه مرة بعد مرة وقيل إن واحد المعقبات معقب والجمع معقبة ومعقبات جمع الجمع كما قالوا رجالات عن الفراء.

الإعراب:

ما في قوله ﴿ما تحمل﴾ و﴿ما تغيض﴾ و﴿ما تزداد﴾ استفهامية وموضعها نصب بالفعل الذي بعدها معناه أي شيء تحمل والجملة معلقة بيعلم قال الزجاج ﴿سواء منكم من أسر القول ومن جهر به﴾ موضع من رفع بسواء وكذلك من الثانية يرتفعان جميعا بسواء لأن سواء يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو في معنى ذو سواء لأن سواء مصدر فلا يجوز أن يرتفع ما بعده إلا على الحذف تقول عدل زيد وعمرو والمعنى ذو عدل زيد وعمرو لأن المصادر ليست بأسماء الفاعلين وإنما ترفع الأسماء أوصافها فإذا رفعتها المصادر فهي على الحذف كما قالت الخنساء.

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار أي ذات إقبال وإدبار وكذلك زيد إقبال وإدبار وهذا مما كثر استعماله أعني سواء فجرى مجرى أسماء الفاعلين ويجوز أن يرتفع على أن يكون في موضع مستوى إلا أن سيبويه يستقبح ذلك لا يجيز مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين عنده إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها لضعفها عن الفعل فلا يبتدأ بها ويجريها مجرى الفعل.

المعنى:

﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى﴾ أي يعلم ما في بطن كل حامل من ذكر أو أنثى تام أو غير تام ويعلم لونه وصفاته ﴿وما تغيض الأرحام﴾ أي يعلم الوقت الذي تنقصه الأرحام من المدة التي هي تسعة أشهر ﴿وما تزداد﴾ على ذلك عن أكثر المفسرين وقال الضحاك الغيض النقصان من الأجل والزيادة ما يزداد على الأجل وذلك أن النساء لا يلدن لأجل واحد وقيل يعني بقوله ﴿ما تغيض الأرحام﴾ الولد الذي تأتي به المرأة لأقل من ستة أشهر وما تزداد الولد الذي تأتي به المرأة لأقصى مدة الحمل عن الحسن وقيل معناه ما تنقص الأرحام من دم الحيض وهو انقطاع الحيض وما تزداد بدم النفاس بعد الوضع عن ابن عباس بخلاف وابن زيد ﴿وكل شيء﴾ أي وكل شيء من الرزق أو الأجل أو ما سبق ذكره من الحمل ﴿عنده بمقدار﴾ أي بقدر واحد لا يجاوزه ولا يقصر عنه على ما توجبه الحكمة ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ أي عالم بما غاب عن حس العباد وبما يشاهده العباد لا يغيب عنه شيء وقيل عالم بالمعدوم والموجود والغيب هو المعدوم وقيل عالم السر والعلانية عن الحسن والأولى أن يحمل على العموم ويدخل في هاتين الكلمتين كل معلوم نبه سبحانه بذلك على أنه عالم بجميع المعلومات الموجودات منها والمعدومات منها ﴿الكبير﴾ وهو السيد الملك القادر على جميع الأشياء وقيل هو الذي كل شيء دونه لكمال صفاته ولكونه عالما لذاته قادرا لذاته حيا لذاته وقيل هو الذي كبر عن شبه المخلوقين ﴿المتعال﴾ وهو الذي علا كل شيء بقدرته فلا يساويه قادر وقيل هو المنزة عما لا يجوز عليه في ذاته وفعله وعما يقوله المشركون ﴿سواء منكم من أسر القول ومن جهر به﴾ معناه سواء عند الله وفي علمه من أسر القول في نفسه وأخفاه ومن أعلنه وأبداه ولم يضمره في نفسه ﴿ومن هو مستخف بالليل وسارت بالنهار﴾ أي ومن هو مستتر متوار بالليل ومن هو سالك في سربه أي في مذهبه ماض في حوائجه بالنهار معناه أنه يرى ما أخفته ظلمة الليل كما يرى ما أظهره ضوء النهار بخلاف المخلوقين الذين يخفي عليهم الليل أحوال أهله وقال الحسن معناه ومن هو مستتر بالليل ومن هو مستتر بالنهار وصحح الزجاج هذا القول لأن العرب تقول انسرب الوحش إذا دخل في كناسة ﴿له معقبات﴾ اختلف في الضمير الذي في له على وجوه (أحدها) أنه يعود إلى من في قوله ﴿من أسر القول ومن جهر به﴾ (والآخر) أنه يعود إلى اسم الله تعالى وهو عالم الغيب والشهادة (وثالثها) أنه يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله ﴿إنما أنت منذر﴾ عن ابن زيد واختلف في المعقبات على أقوال ( أحدها ) أنها الملائكة يتعاقبون تعقب ملائكة الليل ملائكة النهار وملائكة النهار ملائكة الليل وهم الحفظة يحفظون على العبد عمله عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والجبائي وقال الحسن هم أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر وهو معنى قوله إن قرآن الفجر كان مشهودا وقد روي ذلك عن أئمتنا (عليهم السلام) أيضا (والثاني) أنهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به إلى المقادير فيحيلون بينه وبين المقادير عن علي (عليه السلام) وابن عباس وقيل هم عشرة أملاك على كل آدمي يحفظونه (والثالث) أنهم الأمراء والملوك في الدنيا الذين يمنعون الناس عن المظالم وتكون لهم الأحراس والشرط والمواكب يحفظونه عن عكرمة والضحاك وروي أيضا عن ابن عباس وتقديره ومن هو سارب بالنهار له إحراس وأعوان قدر أنهم يحرسونه ولم يتجه إحراسه من الله ﴿من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله﴾ أي يطوفون به كما يطوف الموكل بالحفظة وقيل يحفظون ما تقدم من عمله وما تأخر إلى أن يموت فيكتبونه عن الحسن وقيل يحفظونه من وجوه المهالك والمعاطب ومن الجن والإنس والهوام وقال ابن عباس يحفظونه مما لم يقدر نزوله فإذا جاء المقدر بطل الحفظ وقيل من أمر الله أي بأمر الله عن الحسن ومجاهد والجبائي وروي ذلك عن ابن عباس وهذا كما يقال هذا الأمر بتدبير فلان ومن تدبير فلان وقيل معناه يحفظونه عن خلق الله فتكون من بمعنى عن كما في قوله وآمنهم من خوف أي عن خوف قال كعب: لو لا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفنكم الجن ﴿إن الله لا يغير ما بقوم﴾ من النعمة والحال الجميلة ﴿حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ من الطاعة فيعصون ربهم ويظلم بعضهم بعضا قال ابن عباس إذا أنعم الله على قوم فشكروها زادهم وإذا كفروها سلبهم إياها وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله إذا أقبلت عليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر ﴿وإذا أراد الله بقوم سوء﴾ أي عذابا وإنما سماه سوءا لأنه يسوء ﴿فلا مرد له﴾ أي لا مدفع له وقيل معناه إذا أراد الله بقوم بلاء من مرض وسقم فلا مرد لبلائه ﴿وما لهم من دونه من وال﴾ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم.

النظم:

اتصلت الآية الأولى بقوله ﴿وإن تعجب﴾ الآية فإنه احتجاج للبعث والمعنى أن من كان بهذه الصفة في القدرة والعلم فإنه يقدر على البعث وقيل إنها اتصلت بقوله ﴿ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة﴾ وقوله ﴿لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ يعني أن من يعلم غوامض الأمور فهو أعلم بالمصالح ولو علم الصلاح في إنزال العذاب أو الآية لفعل عن البلخي وأبي مسلم وقوله ﴿له معقبات﴾ يتصل بقوله ﴿وسارب بالنهار﴾ عن الجبائي وقيل يتصل بقوله ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ و﴿يعلم ما تحمل كل أنثى﴾ أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم وقيل يتصل بقوله ﴿إنما أنت منذر﴾ يعني أنه (عليه السلام) محفوظ بالملائكة واتصل قوله ﴿إن الله لا يغير ما بقوم﴾ إلى آخره بقوله ﴿ويستعجلونك بالعذاب﴾ يعني أنه لا ينزل العذاب إلا بمن يعلم من جهتهم التغير حتى لو علم أن فيهم من يؤمن في المستقبل أو يعقب مؤمنا لا ينزل العذاب وقيل بل اتصلت بالسارب بمعنى أنه إذا أتى بالمعصية بطل به حفظه وحاق به عقابه وقيل بل هو على الإطلاق والعموم.