الآيات 66-75

بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ﴿66﴾ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ ﴿67﴾ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿68﴾ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴿69﴾ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴿70﴾ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿71﴾ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ﴿72﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿73﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿74﴾ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿75﴾

القراءة:

قرأ أهل البصرة وأبو جعفر وابن كثير بل أدرك بقطع الألف وسكون اللام والدال وقرأ الشموني عن أبي بكر بل ادرك موصولة الألف مشددة الدال بلا ألف بعدها والباقون ﴿بل ادارك﴾ وفي الشواذ قراءة سليمان بن يسار وعطاء بن يسار بل درك بفتح اللام ولا همزة ولا ألف وقراءة الحسن وأبي رجاء وابن محيصن وقتادة بل آدرك وقراءة ابن عباس بلي بياء أدرك وقراءة أبي بل تدارك وقرأ أهل المدينة إذا كنا ترابا بكسر الألف آنا لمخرجون بالاستفهام بهمزة واحدة ممدودة عن أبي جعفر وقالون وغيره ممدودة عن ورش وإسماعيل وقرأ ابن عامر والكسائي ﴿أإذا﴾ بهمزتين إننا بنونين وقرأ ابن كثير ويعقوب أذا أنا بالاستفهام فيهما جميعا بهمزة واحدة غير ممدودة وقرأ أبو عمرو آذا آنا بالاستفهام فيهما جميعا بهمزة واحدة ممدودة وقرأ عاصم وحمزة وخلف ﴿أإذا أإنا﴾ بالاستفهام فيهما جميعا بهمزتين همزتين وقرأ ابن كثير في ضيق بكسر الضاد والباقون بفتحها.

الحجة:

قال أبو علي إن علم قد يصل بالجار كقوله تعالى ألم يعلم بأن الله يرى وقولهم علمي بزيد يوم الجمعة ومعنى أدرك بلغ ولحق يقال فلان أدرك الحسن أي لحق أيامه وهذا ما أدركه علمي أي بلغة فالمعنى أنهم لم يدركوا علم الآخرة أي لم يعلموا حدوثها وكونها ودل على ذلك قوله ﴿بل هم في شك منها بل هم منها عمون﴾ أي بل هم من علمها عمون وإذا كان كذلك كان معنى قوله ﴿في الآخرة﴾ معنى الباء أي لم يدركوا علمها ولم ينظروا في حقيقتها فيدركوا ولهذا قرأ من قرأ أدرك كأنه أراد لم يدركوه كما تقول أجئتني أمس أي لم تجئني والمعنى لم يدرك علمهم بحدوث الآخرة بل هم في شك منها بل هم من علمها عمون والعمى عن علم الشيء أبعد منه من الشاك فيه لأن الشك قد يعرض عن ضرب من النظر والعمى عن الشيء الذي لم يدرك منه شيئا وأما من قال ﴿ادارك﴾ فإنه أراد تدارك فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها وكونها من حيزها فلما سكتت التاء للإدغام اجتلبت لها همزة الوصل كما اجتلبتها في نحو ادارأتم وفي التنزيل حتى إذا اداركوا فيها كان معناها تلاحقوا قال تداركتم الأحلاف قد ثل عرشها وما روي عن أبي بكر بل ادرك معناه افتعل من ادركت وافتعل وتفاعل يجيئان بمعنى ومن ثم صح قولهم ازدوجوا وإن كان الحرف على صورة يجب فيها الانقلاب ولكنه صح لما كان بمعنى تفاعلوا وتفاعلوا يلزم فيه تصحيح حروف العلة لسكون الحرف الذي قبل حرف العلة فصار تصحيح هذا كتصحيح عور وحول لما كان بمعنى أعور وأحول ومن قرأ بل درك فإنه خفف الهمزة بحذفها وإلقاء حركتها على اللام الساكنة قبلها نحو قد فلح في قد أفلح وأما قوله بل ادرك فإن بل استئناف وما بعدها استفهام كما تقول أزيد عندك بل أعمرو عندك تركا للأول إلى غيره وأما بلى فكأنه جواب وذلك لأنه لما قال قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله فكان قائلا قال ما الأمر كذلك فقيل له بلى ثم استؤنف فقيل أدرك علمهم في الآخرة وقد سبق ذكر الاستفهامين فيما تقدم وكذلك ذكر الضيق والضيق والأولى أن يحمل على أنهما لغتان.

اللغة:

قال ابن الأعرابي ردفت وأردفت ولحقت وألحقت بمعنى وترادفوا تلاحقوا قال المبرد اللام في ﴿ردف لكم﴾ وقيل إنه إنما أتي باللام لأن معنى ردف دنا فكأنه قال دنا لكم كما قال الشاعر:

فقلت لها الحاجات يطرحن بالفتى

وهم تعناني معنى ركائبه

قال يطرحن بالفتى لما كان معنى يطرحن يرمين وكننت الشيء في نفسي وأكننته إذا سترته في نفسك فهو مكن ومكنون قال الرماني الأكنان جعل الشيء بحيث الشيء لا يلحقه أذى بمانع يصده عنه.

الإعراب:

العامل في إذا معنى قوله ﴿مخرجون﴾ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبل أن فالتقدير أإذا كنا ترابا أخرجنا وهذا في محل نصب لأنه مفعول ثان لوعد ﴿عسى أن يكون

ردف لكم﴾ يكون اسمه ضمير الأمر والشأن وما بعده خبره وأن يكون وما يتعلق به في محل رفع بأنه فاعل عسى.

المعنى:

لما أخبر سبحانه عن الكفار أنهم لا يشعرون متى يبعثون وأنهم شاكون عقبه بأنهم يعلمون حقيقة ذلك يوم القيامة فقال ﴿بل ادارك علمهم في الآخرة﴾ أي تتابع منهم العلم وتلاحق حتى كمل علمهم في الآخرة بما أخبروا به في الدنيا فهو على لفظ الماضي والمراد به الاستقبال أي يتدارك ومن قرأ أدرك فمعناه سيدرك علمهم هذه الأشياء في الآخرة حين لا ينفعهم اليقين ﴿بل هم في شك منها﴾ في الدنيا عن ابن عباس والمعنى أن ما جهلوه في الدنيا وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة وقيل معناه اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا عن السدي وقال مقاتل يقول بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شكوا وعموا عنه في الدنيا وقيل أن هذا على وجه الاستفهام فحذف الألف والمراد به النفي بمعنى أنه لم يدرك علمهم بالآخرة ولم يبلغها علمهم وقيل معناه أدرك هذا العلم جميع العقلاء لو تفكروا ونظروا لأن العقل يقتضي أن الإهمال قبيح فلا بد من تكليف والتكليف يقتضي الجزاء وإذا لم يكن ذلك في الدنيا فلا بد من دار للجزاء وقيل إن الآية إخبار عن ثلاث طوائف طائفة أقرت بالبعث وطائفة شكت فيه وطائفة نفته كما قال بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج وقوله ﴿بل هم منها عمون﴾ أي عن معرفتها وهو جمع عمي وهو الأعمى القلب لتركه التدبر والنظر ﴿وقال الذين كفروا﴾ بإنكارهم البعث ﴿أإذا كنا ترابا وآباؤنا أ إنا لمخرجون﴾ من القبور مبعوثون يقولون ذلك على طريق الاستبعاد والاستنكار ﴿لقد وعدنا هذا﴾ البعث ﴿نحن﴾ فيما مضى ﴿وآباؤنا من قبل﴾ أي ووعد آباؤنا ذلك من قبلنا فلم يكن مما قالوه شيء ﴿إن هذا إلا أساطير الأولين﴾ أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ﴿قل﴾ يا محمد ﴿سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين﴾ الذين كفروا بالله وعصوه أي كيف أهلكهم الله وخرب ديارهم ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي على تكذيبهم وتركهم الإيمان ﴿ولا تكن في ضيق﴾ وهو ما يضيق به الصدر ﴿مما يمكرون﴾ أي يدبرون في أمرك فإن الله تعالى يحفظك وينصرك عليهم ﴿ويقولون متى هذا الوعد﴾ الذي تعدنا يا محمد من العذاب ﴿إن كنتم صادقين﴾ بأنه يكون ﴿قل﴾ يا محمد ﴿عسى أن يكون ردف لكم﴾ أي قرب لكم عن ابن عباس وقيل أقرب لكم عن السدي وقيل أردف لكم عن قتادة ﴿بعض الذي تستعجلون﴾ من العذاب وعسى من الله واجب فمعناه أنه قرب منكم وسيأتيكم وهذا البعض الذي دنا لهم القتل والأسر يوم بدر وسائر العذاب لهم فيما بعد الموت وقيل هو الإنذار عند الموت وشدته وعذاب القبر عن الجبائي ﴿وإن ربك لذو فضل على الناس﴾ بضروب النعم الدينية والدنيوية وقيل بإمهالهم ليتوبوا والفضل هو الزيادة من الله تعالى للعبد على ما يستحقه بشكره والعدل حق للعبد والفضل فيه واقع من الله تعالى إلا أنه على ما يصح وتقتضيه الحكمة ﴿ولكن أكثرهم لا يشكرون﴾ نعمه ﴿وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم﴾ أي تخفيه وتستره ﴿وما يعلنون﴾ أي ويعلم ما يظهرونه أيضا ﴿وما من غائبة﴾ أي من خصلة غائبة ﴿في السماء والأرض﴾ يعني جميع ما أخفاه عن خلقه وغيبه عنهم ﴿إلا في كتاب مبين﴾ أي إلا وهو مبين في اللوح المحفوظ وقيل أراد أن جميع أفعالهم محفوظة عنده غير منسية كما يقول القائل أفعالك عندي مكتوبة أي محفوظة عن أبي مسلم والجبائي.