الآيات 6-10

وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿6﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿7﴾ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿8﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴿9﴾ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾

الإعراب:

حسنا مفعول فعل محذوف تقديره ووصينا الإنسان بأن يفعل بوالديه حسنا أي ما يحسن ﴿ما ليس لك به علم﴾ موصول وصلة في موضع نصب بأنه مفعول تشرك.

النزول:

قال الكلبي نزلت الآية الأخيرة في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلفت أمه أسماء بنت مخزمة بن أبي جندل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل كنا حتى يرجع إليها فلما رأى ابناها أبو جهل والحرث ابنا هشام وهما أخوا عياش لأمه جزعها ركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه وذكرا له القصة فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه وتبعهما وقد كانت أمه صبرت ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت فلما خرجوا من المدينة أخذاه وأوثقاه كثافا وجلده كل واحد منهما مائة جلدة حتى برىء من دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغي فنزلت الآية وكان الحرث أشدهما عليه فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربن عنقه فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون إلى المدينة وهاجر عياش وحسن إسلامه وأسلم الحرث بن هشام وهاجر إلى المدينة وبايع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام ولم يحضر عياش فلقيه عياش يوما بظهر قبا ولم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له إن الرجل قد أسلم فاسترجع عياش وبكى ثم أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك فنزل ﴿وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ﴾ الآية وقيل نزلت الآية في ناس من المنافقين يقولون آمنا فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك عن الضحاك وقيل نزلت في قوم ردهم المشركون إلى مكة عن قتادة.

المعنى:

لما رغب سبحانه في تحقيق الرجاء والخوف بفعل الطاعة عقبه بالترغيب في المجاهدة فقال ﴿ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه﴾ أي ومن جاهد الشيطان بدفع وسوسته وإغوائه وجاهد أعداء الدين لإحيائه وجاهد نفسه التي هي أعدى أعدائه فإنما يجاهد لنفسه لأن ثواب ذلك عائد عليه وواصل إليه دون الله تعالى ﴿إن الله لغني عن العالمين﴾ غير محتاج إلى طاعتهم فلا يأمرهم ولا ينهاهم لمنفعة ترجع إليه بل لمنفعتهم ﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم﴾ التي اقترفوها قبل ذلك أي لنطلبنها حتى تصير كأنهم لم يعملوها ﴿ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون﴾ أي يجزيهم بأحسن أعمالهم وهو ما أمروا به من العبادات والطاعات والمعنى لنكفرن سيئاتهم السابقة منهم في حال الكفر ولنجزينهم بحسناتهم التي عملوها في الإسلام ولما أمر سبحانه بمجاهدة الكفار ومباينتهم بين حال الوالدين في ذلك فقال ﴿ووصينا الإنسان بوالديه﴾ أي أمرناه أن يفعل بوالديه ﴿حسنا﴾ وألزمناه ذلك ثم خاطب سبحانه كل واحد من الناس فقال ﴿وإن جاهداك﴾ أي وإن جاهداك أبواك أيها الإنسان وألزماك واستفرغا مجهودهما في دعائك ﴿لتشرك بي﴾ في العبادة ﴿ما ليس لك به علم﴾ أي وليس لأحد به علم ﴿فلا تطعهما﴾ في ذلك فأمر سبحانه إطاعة الوالدين في الواجبات حتما وفي المباحات ندبا ونهى عن طاعتهما في المحظورات ونفي العلم به كأنه كناية عن تعريه من الأدلة لأنه إذا لم يكن عليه حجة ودليل لم يحصل العلم به فلا يحسن اعتقاده ﴿إلي مرجعكم﴾ أي إلى حكمي مصيركم ﴿فأنبئكم بما كنتم تعملون﴾ أي أخبركم بأعمالكم فأجازيكم عليها وروي عن سعد بن أبي وقاص قال كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت يا سعد ما هذا الدين الذي أحدثت لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه فقلت لا تفعلي يا أمه إني لا أدع ديني هذا لشيء قال فمكثت يوما لا تأكل وليلة ثم مكثت يوما آخر وليلة فما رأيت ذلك قلت والله يا أمه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا فكلي واشربي وإن شئت فلا تأكلي ولا تشربي فلما رأت ذلك أكلت فأنزلت هذه الآية ﴿وإن جاهداك﴾ وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس وروي عن بهر بن أبي حكيم عن أبيه عن جده قال قلت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يا رسول الله من أبر قال أمك قلت ثم من قال ثم أمك قلت ثم من قال ثم أمك قلت ثم من قال ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب وعن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الجنة تحت أقدام الأمهات ثم قال سبحانه ﴿والذين آمنوا﴾ أي صدقوا بوحدانية الله تعالى وإخلاص العبادة له ﴿وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين﴾ أي في زمرتهم وجملتهم في الجنة ولما ذكر سبحانه خيار المؤمنين عقبه بذكر ضعفائهم وقيل بل عقبه بذكر المنافقين فقال ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله﴾ بلسانه ﴿فإذا أوذي في الله﴾ أي في دين الله أو في ذات الله ﴿جعل فتنة الناس كعذاب الله﴾ والمعنى فإذا أوذي بسبب دين الله رجع عن الدين مخافة عذاب الناس كما ينبغي للكافر أن يترك دينه مخافة عذاب الله فيسوي بين عذاب فإن منقطع وبين عذاب دائم غير منقطع أبدا لقلة تمييزه وسمي أذية الناس فتنة لما في احتمالها من المشقة ﴿ولئن جاء نصر من ربك﴾ يا محمد أي ولئن جاء نصر من الله للمؤمنين ودولة لأولياء الله على الكافرين ﴿ليقولن إنا كنا معكم﴾ أي ليقولن هؤلاء المنافقون للمؤمنين إنا كنا معكم على عدوكم طمعا في الغنيمة ثم كذبهم الله فقال ﴿أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين﴾ من الإيمان والنفاق فلا يخفى عليه كذبهم فيما قالوا.