الآيات 29-40

فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ﴿29﴾ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴿30﴾ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ﴿31﴾ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴿32﴾ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ﴿33﴾ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴿34﴾ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿35﴾ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ﴿36﴾ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ﴿37﴾ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴿38﴾ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴿39﴾ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴿40﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير المسيطرون بالسين وفي الغاشية بمصيطر بالصاد وقرأ ابن عامر كليهما بالسين وقرأ بإشمام الراء فيهما حمزة إلا العجلي فإنه قرأ بالصاد فيهما وقرأ الباقون بالصاد فيهما.

الحجة:

قال أبو عبيدة المسيطرون الأرباب يقال تسيطرت علي اتخذتني خولا والأصل السين وكل سين بعده طاء يجوز أن تقلب صادا تقول صطر وسطر وقد مر بيانه في سورة الفاتحة.

اللغة:

الكاهن الذي يذكر أنه يخبر عن الحق على طريق العزائم والكهانة صنعة الكاهن والمنون المنية وريبها الحوادث التي تريب عند مجيئها قال:

تربص بها ريب المنون لعلها

سيهلك عنها بعلها أو سيجنح

والتربص الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها والأحلام جمع الحلم وهو الإمهال الذي يدعو إليه العقل والحكمة والمسيطر الملزم غيره أمرا من الأمور قهرا مأخوذ من السطر والمثقل المحمول عليه ما يشق حمله.

المعنى:

ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿فذكر﴾ يا محمد أي فعظ هؤلاء المكلفين ولا تترك دعوتهم وإن أساءوا قولهم فيك ﴿فما أنت بنعمة ربك﴾ أي بأنعام ربك عليك بالنبوة وهذا قسم ﴿بكاهن﴾ وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب بطريق خدمة الجن ﴿ولا مجنون﴾ وهو الموءوف بما يغطي على عقله وقد علم الكفار أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بكاهن ولا مجنون لكن قالوا ذلك على جهة التكذيب عليه ليستريحوا إلى ذلك كما يستريح السفهاء إلى التكذيب على أعدائهم ﴿أم يقولون﴾ أي بل يقولون هو ﴿شاعر نتربص به ريب المنون﴾ أي ننتظر به حدثان الموت وحوادث الدهر فيهلك كما هلك من تقدم من الشعراء والمنون يكون بمعنى الدهر ويكون بمعنى المنية وأم هذه المنقطعة بمعنى الترك والتحول كقول علقمة:

هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

فكأنه قال حبلها مصروم لأن بعده قوله:

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته

إثر الأحبة يوم البين مسكوم

ثم قال سبحانه ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿تربصوا فإني معكم من المتربصين﴾ أي إنكم إن تربصتم في حوادث الدهر فإني منتظر مثل ذلك بكم وتربص الكفار بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين قبيح وتربص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بالكفار وتوقعهم لهلاكهم حسن وقوله ﴿تربصوا﴾ وإن كان بصيغة الأمر فالمراد به التهديد ﴿أم تأمرهم أحلامهم بهذا﴾ أي بل أ تأمرهم عقولهم بما يقولونه لك ويتربصونه بك قال المفسرون كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول فأزرى الله سبحانه بعقولهم حيث لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل ثم أخبر سبحانه عن طغيانهم فقال ﴿أم هم قوم طاغون﴾ وقرأ مجاهد بل هم قوم طاغون وبل في المعنى قريبة من أم هنا إلا أن ما بعد بل متيقن وما بعد أم مشكوك فيه والمعنى أن عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك ﴿أم يقولون تقوله﴾ أي افتعل القرآن وتكذبه من تلقاء نفسه والتقول تكلف القول ولا يقال ذلك إلا في الكذب ﴿بل لا يؤمنون﴾ أي ليس الأمر كما زعموا بل ثبت أنه من عند الله ولكنهم لا يصدقون بذلك عنادا وحسدا واستكبارا ثم ألزمهم سبحانه الحجة تحداهم فقال ﴿فليأتوا بحديث مثله﴾ أي مثل القرآن وما يقاربه في نظمه وفصاحته وحسن بيانه وبراعته ﴿إن كانوا صادقين﴾ في أنه تقوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا لم يقدروا على الإتيان بمثله فليعلموا أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتقوله من تلقاء نفسه بل هو من عند الله تعالى ثم احتج عليهم بابتداء الخلق فقال ﴿أم خلقوا من غير شيء﴾ أي أم خلقوا لغير شيء أي أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون ولا ينهون ونحو هذا عن الزجاج وقيل معناه أم خلقوا عبثا وتركوا سدى عن ابن كيسان وهذا في المعنى مثل الأول وقيل معناه أخلقوا من غير خالق ومدبر دبرهم ﴿أم هم الخالقون﴾ أنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر عن ابن عباس ﴿أم خلقوا السماوات والأرض﴾ واخترعوهما فلذلك لا يقرون بالله وبأنه خالقهم ﴿بل لا يوقنون﴾ بأن لهم إلها يستحق العبادة وحده وإنك نبي من جهة الله ﴿أم عندهم خزائن ربك﴾ أي بأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاءوا عن مقاتل وعكرمة وقيل أراد خزائن المطر والرزق عن الكلبي وابن عباس وقيل خزائنه مقدوراته فلا يأتيهم إلا ما يحبون عن الجبائي ﴿أم هم المصيطرون﴾ أي الأرباب المسلطون على الناس فليس عليهم مسيطر ولا لهم ملزم ومقوم وقيل معناه أم هم المالكون الناس القاهرون لهم عن الجبائي ﴿أم لهم سلم﴾ أي مرقى ومصعد إلى السماء ﴿يستمعون فيه﴾ الوحي من السماء فقد وثقوا بما هم عليه وردوا ما سواه ﴿فليأت مستمعهم بسلطان مبين﴾ أي بحجة ظاهرة واضحة أن ادعي ذلك والتقدير يستمعون عليه فهو كقوله ﴿ولأصلبنكم في جذوع النخل﴾ وإنما قيل لهم ذلك لأن كل من يدعي ما لا يعلم ببداية العقول فعليه إقامة البينة والحجة ﴿أم له البنات ولكم البنون﴾ وهذا تسفيه لأحلامهم إذ أضافوا إلى الله سبحانه ما أنفوا منه وهذا غاية في جهلهم إذ جوزوا عليه سبحانه الولد ثم ادعوا أنه اختار الأدون على الأعلى ﴿أم تسئلهم أجرا﴾ أي ثوابا على أداء الرسالة وعلى ما جئتهم به من الدين والشريعة ﴿فهم من مغرم مثقلون﴾ أثقلهم ذلك الغرم الذي تسألهم فمنعهم ذلك عن الإيمان بك.