الآيات 17-28
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴿17﴾ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿18﴾ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿19﴾ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴿20﴾ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴿21﴾ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴿22﴾ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ﴿23﴾ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴿24﴾ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ﴿25﴾ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴿26﴾ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ﴿27﴾ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴿28﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو وأتبعناهم بالنون والألف وقطع الهمزة ذرياتهم بالألف وكسر التاء ألحقنا بهم ذرياتهم كذلك وقرأ أهل المدينة ﴿واتبعتهم﴾ بالتاء ووصل الهمزة ﴿ذريتهم﴾ بالرفع ألحقنا بهم ذرياتهم على الجمع وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة ﴿واتبعتهم ذريتهم﴾ ﴿ألحقنا بهم ذريتهم﴾ كذلك وقرأ ابن عامر ويعقوب وسهل اتبعتهم ذرياتهم جمع ألحقنا بهم ذرياتهم أيضا وقرأ ابن كثير وما ألتناهم بكسر اللام والباقون ﴿ألتناهم﴾ بفتح اللام وقرأ أهل المدينة والكسائي أنه هو البر الرحيم بالفتح والباقون ﴿إنه﴾ بالكسر وفي الشواذ قراءة عبد الله وإبراهيم وزوجناهم بعيس عين وقراءة الأعرج وما آلتناهم على أفعلناهم.
الحجة:
قال أبو علي الذرية تقع على الصغير والكبير فالأول نحو قوله ﴿ذرية طيبة﴾ والثاني نحو قوله ﴿ومن ذريته داود وسليمان﴾ فإن حملت الذرية في الآية على الصغار كان قوله ﴿بإيمان﴾ في موضع نصب على الحال من المفعولين أي اتبعتهم بإيمان من الآباء ذريتهم ألحقنا الذرية بهم في أحكام الإسلام فجعلناهم في حكمهم في أنهم يرثون ويورثون ويدفنون في مقابر المسلمين وحكمهم حكم الآباء في أحكامهم إلا فيما كان موضوعا عن الصغير لصغره وإن جعلت الذرية للكبار كان قوله ﴿بإيمان﴾ حالا من الفاعلين الذين هم ذريتهم أي ألحقنا بهم ذريتهم في أحكام الدنيا والثواب في الآخرة ﴿وما ألتناهم من عملهم﴾ أي من جزاء عملهم من شيء كما قال فلا تظلم نفس شيئا وكما قال ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ومن قرأ ﴿ذريتهم﴾ فأفرد فلان الذرية تقع على الكثرة فاستغنى بذلك عن جمعه وكذا القول في ﴿بهم ذريتهم﴾ في أنه أفرد ذريتهم وألحق التاء في اتبعتهم لتأنيث الاسم ومن جمعه فلأن المجموع قد يجمع نحو أقوام وطرقات وفي الحديث إنكن صواحبات يوسف ومن قرأ ألتناهم بكسر اللام فيشبه أن يكون فعلنا لغة كما قالوا نقم ينقم ونقم ينقم ومن قرأ ندعوه أنه بالفتح فالمعنى لأنه هو البر الرحيم ومن كسر قطع الكلام عما قبله واستأنف قال ابن جني المرأة العيساء البيضاء ومثله جمل أعيس وناقة عيساء قال كأنها البكرة العيساء ويقال ألته يألته ألتا وآلته يولته إيلاتا ولاته يليته ليتا وولته يلته ولتا أي نقصه قال الحطيئة:
أبلغ لديك بني سعد مغلغلة
جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
المعنى:
لما تقدم وعيد الكفار عقبه سبحانه بالوعد للمؤمنين فقال ﴿إن المتقين﴾ الذين يجتنبون معاصي الله خوفا من عقابه ﴿في جنات﴾ أي في بساتين تجنها الأشجار ﴿ونعيم﴾ أي وفي نعيم ﴿فاكهين بما آتاهم ربهم﴾ أي متنعمين بما أعطاهم ربهم من أنواع النعيم وقيل فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم عن الزجاج والفراء ﴿ووقاهم﴾ أي وصرف عنهم ﴿ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا﴾ أي يقال لهم كلوا واشربوا ﴿هنيئا بما كنتم تعملون﴾ أكلا وشربا هنيئا مأمون العاقبة من التخمة والسقم ثم ذكر حالهم في الأكل والشرب فقال ﴿متكئين على سرر مصفوفة﴾ والسرر جمع سرير والمصفوفة المصطفة الموصول بعضها ببعض وقيل إن في الكلام حذفا تقديره متكئين على نمارق موضوعة على سرر لكنه حذف لأن اللفظ يدل عليه من حيث إن الاتكاء جلسة راحة ودعة ولا يكون ذلك إلا على الوسائد والنمارق ﴿وزوجناهم بحور عين﴾ فالحور البيض النقيات في حسن وكمال والعين الواسعات الأعين في صفاء وبهاء ومعناه قرنا هؤلاء المتقين بحور عين على وجه التمتيع لهم والتنعيم وعن زيد بن أرقم قال جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون فقال والذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل على الأكل والشرب والجماع قال فإن الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة فقال عرق يفيض مثل ريح المسك فإذا كان ذلك ضمر بطنه ﴿والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم﴾ يعني بالذرية أولادهم الصغار والكبار لأن الكبار يتبعون الآباء بإيمان منهم والصغار يتبعون الآباء بإيمان من الآباء فالولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده واتبع بمعنى تبع ومن قرأ وأتبعناهم فهو منقول من تبع ويتعدى إلى المفعولين وقيل الاتباع إلحاق الثاني بالأول في معنى يكون الأول عليه لأنه لو ألحق به من غير أن يكون في معنى هو عليه لم يكن اتباعا وكان إلحاقا والمعنى أنا نلحق الأولاد بالآباء في الجنة والدرجة من أجل إيمان الآباء لتقر أعين الآباء باجتماعهم معهم في الجنة كما كانت تقر بهم في الدنيا عن ابن عباس والضحاك وابن زيد وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنهم البالغون ألحقوا بدرجات آبائهم وإن قصرت أعمالهم تكرمة لآبائهم فإن قيل كيف يلحقون بهم في الثواب ولم يستحقوه فالجواب أنهم يلحقون بهم في الجمع لا في الثواب والمرتبة وروى زاذان عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ثم قرأ هذه الآية وروي عن الصادق قال أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة ﴿وما ألتناهم من عملهم من شيء﴾ أي لم ننقص الآباء من الثواب حين ألحقنا بهم ذرياتهم عن ابن عباس ومجاهد وتم الكلام ثم ذكر سبحانه أهل النار فقال ﴿كل امرىء بما كسب رهين﴾ أي كل امرىء كافر مرتهن في النار بما كسب أي عمل من الشرك عن مقاتل والمؤمن من لا يكون مرتهنا لقوله كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين فاستثنى المؤمنين وقيل معناه كل إنسان يعامل بما يستحقه ويجازى بحسب ما عمله إن عمل طاعة أثيب وإن عمل معصية عوقب ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره ثم ذكر سبحانه ما يزيدهم من الخير والنعمة فقال ﴿وأمددناهم بفاكهة﴾ أي أعطيناهم حالا بعد حال فإن الأمداد هو الإتيان بالشيء بعد الشيء والفاكهة جنس الثمار ﴿ولحم مما يشتهون﴾ أي وأعطيناهم وأمددناهم بلحم من الجنس الذي يشتهونه ﴿يتنازعون فيها كأسا﴾ أي يتعاطون كأس الخمر ثم وصف الكأس فقال ﴿لا لغو فيها ولا تأثيم﴾ أي لا يجري بينهم باطل لأن اللغو ما يلغى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا بين شرب الخمر والتأثيم تفعيل من الإثم يقال ثمة إذا جعله ذا إثم يعني إن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين وقيل معناه لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضا عن مجاهد ﴿ويطوف عليهم﴾ للخدمة ﴿غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون﴾ في الحسن والصباحة والصفاء والبياض والمكنون المصون المخزون وقيل إنه ليس على الغلمان مشقة في خدمة أهل الجنة بل لهم في ذلك اللذة والسرور إذ ليست تلك الدار دار محنة وذكر عن الحسن أنه قال قيل يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم فقال والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ﴿وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون﴾ أي يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا عن ابن عباس وهو قوله ﴿قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين﴾ أي خائفين في دار الدنيا من العذاب ﴿فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم﴾ أي عذاب جهنم والسموم من أسماء جهنم عن الحسن وقيل أن المعنى يسأل بعضهم بعضا عما فعلوه في الدنيا فاستحقوا به المصير إلى الثواب والكون في الجنان فيقولون إنا كنا في دار التكليف مشفقين أي خائفين رقيقي القلب فإن الإشفاق رقة القلب عما يكون من الخوف على الشيء والشفقة نقيض الغلظة وأصله الضعف من قولهم ثوب شفق أي ضعيف النسج ومنه الشفق للحمرة عند غروب الشمس لأنها حمرة ضعيفة وقوله ﴿في أهلنا مشفقين﴾ يريد فيمن يختص به ممن هو أولى بنا والأهل هو المختص بغيره من جهة ما هو أولى به والسموم الحر الذي يدخل في مسام البدن يتألم به وأصله من السم الذي هو مخرج النفس فكل خرق سم أو من السم الذي يقتل قال الزجاج يريد عذاب سموم جهنم وهو ما يوجد من لفحها وحرها ﴿إنا كنا من قبل﴾ أي في الدنيا ﴿ندعوه﴾ أي ندعو الله تعالى ونوحده ونعبده ﴿إنه هو البر﴾ أي اللطيف وأصله اللطف مع عظم الشأن ومنه البرة للطفها مع عظم النفع بها وقيل البر الصادق فيما وعده ﴿الرحيم﴾ بعباده.