الآيات 87-89

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿87﴾ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴿88﴾ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿89﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر ولا تتبعان خفيفة النون والباقون بالتشديد.

الحجة:

من قرأ بالنون الشديدة كسرها لوقوعها بعد ألف التثنية فأشبهت نون الاثنين في رجلان ولم يعتد بالنون الساكنة قبلها لسكونها وخفتها فصارت المكسورة كأنها وليت الألف ومن قرأ بالتخفيف فإنه يمكن أن يكون خفف الثقيلة للتضعيف كما خففوا رب وإن ونحوهما إلا أنه حذف الأولى من المثلين كما أبدلوا الأولى من المثلين في نحو قيراط ودينار ولزم ذلك في هذا الموضع لأن الحذف لو لحق الثانية للزم التقاء الساكنين على هذا الحد غير مأخوذ به عند العامة وإن شئت كان على لفظ الخبر والمعنى الأمر كقوله ﴿يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ ﴿ولا تضار والدة بولدها﴾ أي لا ينبغي ذلك وإن شئت جعلته حالا من استقيما والتقدير استقيما غير متبعين ويدل على ذلك قول الشاعر:

فلا أسقي ولا يسقي شريبي

ويرويه إذا أوردت مائي وكقول الفرزدق:

بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

ولم تكثر القتلى بها حين سلت

اللغة:

﴿تبوءا﴾ أي اتخذا يقال تبوأ لنفسه بيتا أي اتخذه وبوأت له بيتا أي اتخدته له ويقال أن تبوء وبوء بمعنى أي اتخذ بيتا مثل بدل وتبدل وخلص وتخلص قال أبو علي تبوء فعل يتعدى إلى مفعولين واللام في قوله ﴿لقومكما﴾ كالتي في قوله ﴿ردف لكم﴾ ويقوي ذلك قوله ﴿وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت﴾ فدخلت اللام على غير المطاوع كما دخلت على المطاوع في قوله ﴿تبوءا لقومكما﴾ والطمس محو الأثر يقال طمست عينه أطمسها طمسا وطموسا وطمست الريح آثار الديار والطمس تغير إلى الدثور والدروس قال كعب بن زهير:

من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت

عرضتها طامس الأعلام مجهول

الإعراب:

مصر غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفت لخفتها كما تصرف هند لكان جائزا وترك الصرف أقيس وقوله ﴿بيوتا﴾ مفعول به وليس بظرف مكان لاختصاصه والبيوت هنا كالغرف في قوله تعالى لنبوئنهم من الجنة غرفا ﴿فلا يؤمنوا﴾ يحتمل وجهين من الإعراب النصب والجزم فأما النصب ففيه وجهان (أحدهما) أن يكون على جواب صيغة الأمر بالفاء (والآخر) أن يكون عطفا على ليضلوا أي ليضلوا فلا يؤمنوا وهذا قول المبرد وعلى هذا فيكون قوله ﴿ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم﴾ اعتراضا وأما الجزم فيكون على وجه الدعاء عليهم وتقديره فلا آمنوا ومثله قول الأعشى:

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى

ولا تلقني إلا وأنفك راغم

المعنى:

﴿وأوحينا إلى موسى وأخيه﴾ أي أمرناهما ﴿أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا﴾ أي اتخذا لمن آمن بكما بمصر يعني البلدة المعروفة بيوتا تسكنونها وتأوون إليها ﴿واجعلوا بيوتكم قبلة﴾ اختلف في ذلك فقيل لما دخل موسى مصر بعد ما أهلك الله فرعون أمروا باتخاذ مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى وأن يجعلوا مساجدهم نحو القبلة أي الكعبة وكانت قبلتهم إلى الكعبة عن الحسن ونظيره في بيوت أذن الله أن ترفع الآية وقيل أن فرعون أمر بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم يصلون فيها خوفا من فرعون وذلك قوله ﴿واجعلوا بيوتكم قبلة﴾ أي صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف عن ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم وقيل معناه اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا عن سعيد بن جبير ﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي أديموها وواظبوا على فعلها ﴿وبشر المؤمنين﴾ بالجنة وما وعد الله تعالى من الثواب وأنواع النعيم والخطاب لموسى (عليه السلام) عن أبي مسلم وقيل الخطاب لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه﴾ أي أعطيت فرعون وقومه ﴿زينة﴾ يتزينون بها من الحلي والثياب وقيل الزينة الجمال وصحة البدن وطول القامة وحسن الصورة ﴿وأموالا﴾ يتعظمون بها ﴿في الحياة الدنيا﴾ وإنما أعطاهم الله تعالى ذلك للإنعام عليهم مع تعريه من وجود الاستفساد ﴿ربنا ليضلوا عن سبيلك﴾ اللام للعاقبة والمعنى وعاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك ولا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ولا يريد أيضا منهم الضلال وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا وقيل معناه لئلا يضلوا عن سبيلك فحذفت لا كقوله شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أي لئلا تقولوا وحذف ذلك لدلالة العقل عليه وقيل أنه لام الدعاء والمعنى ابتلهم بالبقاء على ما هم عليه من الضلال وإنما قال ذلك لعلمه بأنهم لا يؤمنون من طريق الوحي وفائدته إظهار التبرؤ منهم كما يلعن إبليس ويدل عليه أنه أعاد قوله ﴿ربنا اطمس على أموالهم﴾ فدل ذلك على أنه أراد به الدعاء عليهم والمراد بالطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها قال مجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير صارت جميع أموالهم حجارة حتى السكر والفانيذ ﴿واشدد على قلوبهم﴾ معناه ثبتهم على المقام ببلدهم بعد إهلاك أموالهم فيكون ذلك أشد عليهم وقيل معناه أمتهم بعد سلب أموالهم وأهلكهم وقيل أنه عبارة عن الخذلان والطبع ﴿فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم﴾ قد ذكرنا وجوهه وقيل معناه أنهم لا يؤمنون إيمان إلجاء حتى يروا العذاب وهم مع ذلك لا يؤمنون إيمان اختيار أصلا ثم أخبر سبحانه أنه أجاب لهما الدعوة فقال ﴿قال﴾ أي قال الله تعالى لموسى وهارون ﴿قد أجيبت دعوتكما﴾ والداعي كان موسى (عليه السلام) لأنه كان يدعو وكان هارون يؤمن على دعائه فسماهما داعيين عن عكرمة والربيع وأبي العالية وأكثر المفسرين ولأن معنى التأمين اللهم استجب هذا الدعاء ﴿فاستقيما﴾ أي فاثبتا على ما أمرتما من دعاء الناس إلى الإيمان بالله تعالى والإنذار والوعظ قال ابن جريج مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) ﴿ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون﴾ نهاهما سبحانه عن أن يتبعا طريقة من لا يؤمن بالله ولا يعرفه ولا يعرف أنبياءه (عليهم السلام).