الآيات 83-100

وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴿83﴾ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿84﴾ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ﴿85﴾ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴿86﴾ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿87﴾ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ﴿88﴾ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ﴿89﴾ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ﴿90﴾ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ﴿91﴾ مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ ﴿92﴾ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴿93﴾ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴿94﴾ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴿95﴾ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴿96﴾ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴿97﴾ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ﴿98﴾ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿99﴾ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿100﴾

القراءة:

قرأ حمزة وحده يزفون بضم الياء والباقون بفتحها وفي الشواذ قراءة الحسن فراغ عليهم سفقا وقراءة عبد الله بن زيد يزفون خفيفة الفاء.

الحجة:

زفت الإبل تزف إذا أسرعت وقراءة حمزة يزفون أي يحملون غيرهم على الزفيف قال الأصمعي أزففت الإبل حملتها على أن تزف وهو سرعة المشي ومقاربة الخطو والمفعول محذوف على قراءته وقيل أيضا أن أزف لغة في زف ولما يزفون بالتخفيف فذهب قطرب إلى أنها تخفيف يزفون كقوله وقرن في بيوتكن أي اقررن قال الهذلي:

وزفت الشول من برد العشي كما

زف النعام إلى حفانه الروح

والظاهر أن يزفون من وزف يزف مثل وعد يعد وأما قوله سفقا فهو من قولهم سفقت الباب وصفقته والصاد أعرف وروي عن الحسن بالصاد أيضا.

اللغة:

الشيعة الجماعة التابعة لرئيس لهم وصار بالعرف عبارة عن شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذين كانوا معه على أعدائه وبعده مع من قام مقامه من أبنائه وروى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال ليهنكم الاسم قلت وما هو قال الشيعة قلت إن الناس يعيروننا بذلك قال أما تسمع قول الله سبحانه ﴿وإن من شيعته لإبراهيم﴾ وقوله فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه والروغ الميل من جهة إلى جهة يقال راغ يروغ روغا وروغانا أي حاد والرواغ الحياد قال عدي بن زيد:

حين لا ينفع الرواغ ولا

ينفع إلا المصادق النحرير

الإعراب:

آلهة بدل من قوله ﴿إفكا﴾ وإفكا مفعول تريدون.

﴿فما ظنكم﴾ ما مبتدأ وظنكم خبره وقوله ﴿ضربا﴾ مصدر فعل محذوف والتقدير يضربهم ضربا والباء في قوله ﴿باليمين﴾ متعلق بذلك المحذوف و﴿يزفون﴾ حال من أقبلوا ﴿والله خلقكم﴾ في موضع نصب على الحال من تعبدون والتقدير أ تعبدون ما تنحتون مخلوقين.

﴿هب لي﴾ مفعوله محذوف أي ولدا.

المعنى:

ثم أتبعه سبحانه وتعالى بقصة إبراهيم (عليه السلام) فقال ﴿وإن من شيعته لإبراهيم﴾ أي وإن من شيعة نوح إبراهيم يعني أنه على منهاجه وسنته في التوحيد والعدل واتباع الحق عن مجاهد وقيل إن معناه وإن من شيعة محمد إبراهيم كما قال أنا حملنا ذريتهم أي ذرية من هو أب لهم فجعلهم ذرية لهم وقد سبقوهم عن الفراء ﴿إذ جاء ربه بقلب سليم﴾ أي حين صدق الله وآمن به بقلب سليم خالص من الشرك بريء من المعاصي والغل والغش، على ذلك عاش وعليه مات وقيل بقلب سليم من كل ما سوى الله تعالى لم يتعلق بشيء غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) ﴿إذ قال لأبيه وقومه﴾ حين رآهم يعبدون الأصنام من دون الله على وجه التهجين لفعالهم والتقريع لهم ﴿ماذا تعبدون﴾ أي: أي شيء تعبدون ﴿أإفكا آلهة﴾ الإفك هو أشنع الكذب وأفظعه وأصله قلب الشيء عن جهته التي هي له فلذلك كان الكذب إفكا وإنما قال آلهة على اعتقاد المشركين وتوهمهم الفاسد في إلهية الأصنام لما اعتقدوا أنها تستحق العبادة ثم أكد التقريع بقوله ﴿دون الله تريدون﴾ أي تريدون عبادة آلهة دون عبادة الرحمن فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه لأن الإرادة لا يصح تعلقها إلا بما يصح حدوثه والأجسام مما لا يصح أن تراد ﴿فما ظنكم برب العالمين﴾ أن يصنع بكم مع عبادتكم غيره وقيل معناه كيف تظنون برب تأكلون رزقه وتعبدون غيره وقيل معناه ما تظنون بربكم إنه على أي صفة ومن أي جنس من أجناس الأشياء حين شبهتم به هذه الأصنام وفيه إشارة إلى أنه لا يشبه شيئا ﴿فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم﴾ اختلف في معناه على أقوال (أحدها) أنه (عليه السلام) نظر في النجوم فاستدل بها على وقت حمى كانت تعتاده فقال ﴿إني سقيم﴾ أراد أنه قد حضر وقت علته وزمان نوبتها فكأنه قال إني سأسقم لا محالة وحان الوقت الذي تعتريني فيه الحمى وقد يسمى المشارف للشيء باسم الداخل فيه قال الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون ولم يكن نظره في النجوم على حسب ما ينظره المنجمون طلبا للأحكام ومثله قول الشاعر:

اسهري ما سهرت أم حكيم

واقعدي مرة لذاك وقومي

وافتحي الباب وانظري في النجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم

(وثانيها) أنه نظر في النجوم كنظرهم لأنهم كانوا يتعاطون علم النجوم فأوهمهم أنه يقول بمثل قولهم فقال عند ذلك ﴿إني سقيم﴾ فتركوه ظنا منهم أن نجمة يدل على سقمه ويجوز أن يكون الله تعالى أعلمه بالوحي أنه سيسقمه في وقت مستقبل وجعل العلامة على ذلك إما طلوع نجم على وجه مخصوص أو اتصاله بآخر على وجه مخصوص فلما رأى إبراهيم تلك الأمارة قال ﴿إني سقيم﴾ تصديقا بما أخبره الله تعالى (وثالثها) أن معناه نظر في النجوم نظر تفكر فاستدل بها كما قصة الله تعالى في سورة الأنعام على كونها محدثة غير قديمة ولا آلهة وأشار بقوله ﴿إني سقيم﴾ على أنه في حال مهلة النظر وليس على يقين من الأمر ولا شفاء من العلم وقد يسمى الشك بأنه سقم كما يسمى العلم بأنه شفاء وإنما زال عنه هذا السقم عند زوال الشك وكمال المعرفة عن أبي مسلم وهذا الوجه ضعيف لأن سياق الآية يمنع منه فإن قوله ﴿إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ما ذا تعبدون﴾ إلى هذا الموضع من قصته يبين أنه (عليه السلام) لم يكن في زمان مهلة النظر وأنه كان كامل المعرفة خالص اليقين والبصيرة (ورابعها) أن معنى قوله ﴿إني سقيم﴾ إني سقيم القلب أو الرأي حزنا من إصرار القوم على عبادة الأصنام وهي لا تسمع ولا تبصر ويكون على هذا معنى نظره في النجوم فكرته في أنها محدثة مخلوقة مدبرة وتعجبه كيف ذهب على العقلاء ذلك من حالها حتى عبدوها وما رواه العياشي بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا والله ما كان سقيما وما كذب فيمكن أن يحمل على أحد الوجوه التي ذكرناها ويمكن أن يكون على وجه التعريض بمعنى أن كل من كتب عليه الموت فهو سقيم وإن لم يكن به سقم في الحال وما روي أن إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث كذبات قوله ﴿إني سقيم﴾ وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة أنها أختي فيمكن أن يحمل أيضا على المعاريض أي سأسقم وفعله كبيرهم على ما ذكرناه في موضعه وسارة أخته في الدين وقد ورد في الخبر إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب والمعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم عنه غير ما يقصده ولا يكون ذلك كذبا فإن الكذب قبيح بعينه ولا يجوز ذلك على الأنبياء لأنه يرفع الثقة بقولهم جل أمناء الله تعالى وأصفياؤه عن ذلك وقوله ﴿فتولوا عنه مدبرين﴾ إخبار عن قومه أنهم لما سمعوا قوله ﴿إني سقيم﴾ تركوه وأعرضوا عنه وخرجوا إلى عيدهم ﴿فراغ إلى آلهتهم﴾ معناه فمال إلى أصنامهم التي كانوا يدعونها آلهة ﴿فقال ألا تأكلون﴾ خاطبها وإن كانت جمادا على وجه التهجين لعابديها وتنبيههم على أن من لا يتكلم ولا يقدر على الجواب كيف تصح عبادتها وكانوا صنعوا للأصنام طعاما تقربا إليها وتبركا بها فلما لم تجيبوه قال ﴿ما لكم لا تنطقون﴾ زيادة في تهجين عابديها كأنهم حاضرون لها أي ما لكم لا تجيبون وفي هذا تنبيه على أنها جماد لا تأكل ولا تنطق فهي أخس الأشياء وأقلها ﴿فراغ عليهم ضربا باليمين﴾ أي فمال على الأصنام يضربها ويكسرها باليد اليمني لأنها أقوى على العمل عن الربيع بن أنس وقيل المراد باليمين القوة كما في قوله:

تلقاها عرابة باليمين عن الفراء

وهو قول السدي وقيل معناه بالقسم الذي سبق منه وهو قوله وتالله لأكيدن أصنامكم ﴿فأقبلوا إليه يزفون﴾ أي أقبلوا بعد الفراغ من عيدهم إلى إبراهيم يسرعون عن الحسن وابن زيد وقيل يزفون زفيف النعام وهو حالة بين المشي والعدو عن مجاهد وفي هذا دليل أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بأصنامهم فقصدوه مسرعين وحملوه إلى بيت أصنامهم وقالوا له أنت فعلت هذا بإلهتنا فأجابهم على وجه الحجاج عليهم بأن ﴿قال أتعبدون ما تنتحون﴾ فهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ أي كيف يصح أن يعبد الإنسان ما يعمله بيده فإنهم كانوا ينحتون الأصنام بأيديهم ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ أي وخلق ما علمتم من الأصنام فكيف تدعون عبادته وتعبدون معمولكم وهذا كما يقال فلان يعمل الحصير وهذا الباب من عمل فلان النجار قال الحسن معناه وخلق أصل الحجارة التي تعملون منها الأصنام وهذا يجري مجرى قوله تلقف ما يأفكون وقوله تلقف ما صنعوا في أنه أراد المنحوت من الجسم هنا دون العرض الذي هو النحت كما أراد هناك المأفوك فيه والمصنوع فيه من الحبال والعصي دون العرض الذي هو فعلهم فليس لأهل الجبر تعلق بهذه الآية في الدلالة على أن الله سبحانه خالق لأفعال العباد لأن من المعلوم أن الكفار لم يعبدوا نحتهم الذي هو فعلهم وإنما كانوا يعبدون الأصنام التي هي الأجسام وقوله ﴿ما تنحتون﴾ هو ما يعملون في المعنى على أن مبنى الآية على التقريع للكفار والإزراء عليهم بقبيح فعلهم ولو كان معناه والله خلقكم وخلق عبادتكم لكانت الآية إلى أن تكون عذرا لهم أقرب من أن تكون لوما وتهجينا ولكان لهم أن يقولوا ولم توبخنا على عبادتها والله تعالى هو الفاعل لذلك فتكون الحجة لهم لا عليهم ولأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله ﴿تعملون﴾ فكيف يكون مضافا إلى الله تعالى وهذا تناقض ولما لزمتهم الحجة ﴿قالوا ابنوا له بنيانا﴾ قال ابن عباس بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملاءوه نارا وطرحوه فيها وذلك قوله ﴿فألقوه في الجحيم﴾ قال الزجاج كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم وقيل إن الجحيم النار العظيمة ﴿فأرادوا به كيدا﴾ أي حيلة وتدبيرا في إهلاكه وإحراقه بالنار ﴿فجعلناهم الأسفلين﴾ بأن أهلكناهم ونجينا إبراهيم وسلمناه ورددنا كيدهم عنه وقيل بأن أشرفوا عليه فرأوه سالما وتحققوا أن كيدهم لا ينفذ فيه وعلموا أنهم مغلوبون ﴿وقال﴾ إبراهيم ﴿إني ذاهب إلى ربي﴾ قال ابن عباس معناه مهاجر إلى ربي أي أهجر ديار الكفار وأذهب إلى حيث أمرني الله تعالى بالذهاب إليه وهي الأرض المقدسة وقيل إني ذاهب إلى مرضاة ربي بعملي ونيتي عن قتادة ﴿سيهدين﴾ أي يهديني ربي فيما بعد إلى طريق المكان الذي أمرني بالمصير إليه أو إلى الجنة بطاعتي إياه قال مقاتل وهو أول من هاجر ومعه لوط وسارة إلى الشام وإنما قال ﴿سيهدين﴾ ترغيبا لمن هاجر معه في الهجرة وتوبيخا لقومه فلما قدم الأرض المقدسة سأل إبراهيم ربه الولد فقال ﴿رب هب لي من الصالحين﴾ أي ولدا صالحا من الصالحين كما تقول أكلت من الطعام فحذف لدلالة الكلام عليه.