الآيات 51-53
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴿51﴾ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿52﴾ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴿53﴾
القراءة:
قرأ نافع أو يرسل بالرفع فيوحي بسكون الياء والباقون ﴿أو يرسل﴾ ﴿فيوحي﴾ بالنصب.
الحجة:
قال أبو علي من نصب ﴿أو يرسل﴾ فلا يخلو من أن يكون محمولا على أن في قوله ﴿أن يكلمه الله﴾ أو على غيره فلا يجوز أن يكون محمولا عليه لأنه يصير تقديره ما كان لبشر أن يكلمه الله أو أن يرسل رسولا إليه ولم يخل قوله ﴿أو يرسل رسولا﴾ من أن يكون المراد أو يرسله رسولا أو يكون أو يرسل إليه رسولا والتقديران جميعا فاسدان ألا ترى أن كثيرا من البشر قد أرسل رسولا وكثيرا منهم قد أرسل إليه الرسل فإذا لم يخل من هذين التقديرين ولم يصح واحد منهما علمت أن المعنى ليس عليه والتقدير على غيره فالذي عليه المعنى والتقدير الصحيح ما ذهب إليه الخليل من أن يحمل يرسل على أن يوحي الذي يدل عليه وحيا فصار التقدير ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي وحيا أو يرسل رسولا فيوحي ويجوز في قوله ﴿إلا وحيا﴾ أمران (أحدهما) أن يكون استثناء منقطعا (والآخر) أن يكون حالا فإن قدرته استثناء منقطعا لم يكن في الكلام شيء يوصل بمن لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعده لأن حرف الاستثناء في معنى حرف النفي أ لا ترى أنك إذا قلت قام القوم إلا زيدا فالمعنى قام القوم لا زيد فكما لا يعمل ما قبل حرف النفي فيما بعده كذلك لا يعمل ما قبل الاستثناء إذا كان كلاما تاما فيما بعده إذ كان بمعنى النفي وكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد إلا فيما قبلها نحو ما أنا الخبز إلا آكل كما لم يعمل ما بعد حرف ماضي فيما قبله فإذا كان كذلك لم يتصل الجار بما قبل إلا ويمتنع أن يتصل به الجار من وجه آخر وهو أن قوله ﴿أو من وراء حجاب﴾ في صلة وحي الذي هو بمعنى أن يوحي فإذا كان كذلك لم يجز أن يحمل الجار الذي هو من قوله ﴿أو من وراء حجاب﴾ علي ﴿أو يرسل﴾ لأنك تفصل بين الصلة والموصول بما ليس منهما أ لا ترى أن المعطوف على الصلة في الصلة فإذا حملت على العطف على ما ليس في الصلة فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبي الذي ليس منهما فإذا لم يجز حمله على يكلمه من قوله ﴿ما كان لبشر أن يكلمه الله﴾ ولم يكن بد من أن يعلق الجار بشيء ولم يكن في اللفظ شيء تحمله عليه أضمرت يكلم وجعلت الجار في قوله ﴿أو من وراء حجاب﴾ متعلقا بفعل مراد في الصلة محذوف منها للدلالة عليه وقد يحذف من الصلة أشياء للدلالة عليها ويكون في المعنى معطوفا على الفعل المقدر صلة لأن الموصولة وهي يوحي فيكون التقدير ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يكلمه من وراء حجاب فحذف يكلم من الصلة لأن ذكره قد جرى وإن كان خارجا من الصلة فحسن ذلك حذفه من الصلة وسوغه ألا ترى أن ما قبل حرف الاستفهام مثل ما قبل الصلة في أنه لا يعمل في الصلة كما لا يعمل ما قبل الاستفهام فيما كان من حيز الاستفهام وقد جاء الآن وقد عصيت قبل والمعنى الآن آمنت وقد عصيت قبل فلما كان ذكر الفعل قد جرى في الكلام أضمر ولا يجوز أن يقدر عطف ﴿أو من وراء حجاب﴾ على الفعل الخارج من الصلة فيفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي منهما كما فصل في قوله ﴿إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس﴾ ثم قال ﴿أو فسقا أهل لغير الله به﴾ فعطف بأو على ما في الصلة بعد ما فصل بين الصلة والموصول بقوله ﴿فإنه رجس﴾ لأن قوله فإنه رجس من الاعتراض الذي يسدد ما في الصلة ويوضحه فصار بذلك بمنزلة الصفة لما في الصفة من التبيين والتخصيص ومثل هذا في الفصل في الصلة قوله تعالى ﴿والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة﴾ وفصل بقوله جزاء بمثلها وعطف عليه قوله ﴿وترهقهم ذلة﴾ على الصلة مع هذا الفصل من حيث قوله ﴿جزاء سيئة بمثلها﴾ يسدد ما الصلة وأما من رفع فقال أو يرسل رسولا فجعل يرسل حالا فإن الجار في قوله ﴿أو من وراء حجاب﴾ متعلق بمحذوف ويكون في الظرف ذكر من ذي الحال فيكون قوله ﴿إلا وحيا﴾ على هذا التقدير مصدرا وقع موقع الحال كقولك جئت ركضا وأتيت عدوا ويكون من في أنه مع ما انجر به في موضع الحال كقوله ﴿ومن الصالحين﴾ بعد قوله ﴿ويكلم الناس في المهد وكهلا﴾ ومعنى ﴿أو من وراء حجاب﴾ فمن قدر الكلام استثناء منقطعا أو حالا، يكلمهم غير مجاهر لهم بكلامه يريد أن كلامه يسمع ويحدث من حيث لا يرى كما يرى سائر المتكلمين وليس أن ثم حجابا يفصل موضعا من موضع فيدل ذلك على تحديد المحجوب ومن رفع يرسل كان في موضع نصب على الحال والمعنى هذا كلامه إياهم كما يقول تحيتك الضرب وعتابك السيف.
المعنى:
ثم ذكر سبحانه أجل النعم وهي النبوة فقال ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله﴾ أي ليس لأحد من البشر أن يكلمه الله ﴿إلا﴾ أن يوحي إليه ﴿وحيا﴾ وهو داود أوحي في صدره فزبر الزبور ﴿أو من وراء حجاب﴾ أي ويكلمه من وراء حجاب وهو موسى (عليه السلام) ﴿أو يرسل رسولا﴾ وهو جبرائيل أرسل إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مجاهد وقيل معناه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بمثل ما يكلم به عباده من الأمر بطاعته والنهي عن معاصيه وتنبيه إياهم على ذلك من جهة الخاطر أو المنام وما أشبه ذلك على سبيل الوحي وسماه وحيا لأن الوحي في اللغة ما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به ﴿أو من وراء حجاب﴾ وهو أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى (عليه السلام) لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى (عليه السلام) وحده وفي المرة الثانية حجبه عن جميع الخلق إلا عن موسى والسبعين الذين كانوا معه وقد يقال أنه حجب عنهم موضع الكلام الذي أقام الكلام فيه فلم يكونوا يدرون من أين يسمعونه لأن الكلام عرض لا يقوم إلا في جسم ولا يجوز أن يكون أراد بقوله أن الله تعالى كان من وراء حجاب يكلم عباده لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة وعنى بقوله ﴿أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ إرساله ملائكته بكتبه وكلامه إلى أنبيائه ليبلغوا ذلك عنه عباده فهذا أيضا ضرب من الكلام الذي يكلم الله به عباده ويأمرهم فيه وينهاهم من غير أن يكلمهم على سبيل ما كلم به موسى وهو خلاف الوحي الذي ذكر في أول الآية لأنه تنبيه خاطر وليس فيه إفصاح عن أبي علي الجبائي وقال الزجاج معناه أن كلام الله للبشر إما أن يكون بإلهام يلهمهم أو بكلام من وراء حجاب كما كلم موسى أو برسالة ملك إليهم فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء الله ﴿إنه علي﴾ عن الإدراك بالأبصار ﴿حكيم﴾ في جميع أفعاله ﴿وكذلك أوحينا إليك﴾ وأي مثل ما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك ﴿روحا من أمرنا﴾ يعني الوحي بأمرنا ومعناه القرآن لأنه يهتدي به ففيه حياة من موت الكفر عن قتادة والجبائي وغيرهما وقيل هو روح القدس عن السدي وقيل هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) قالا ولم يصعد إلى السماء وأنه لفينا ﴿ما كنت تدري﴾ يا محمد قبل الوحي ﴿ما الكتاب ولا الإيمان﴾ أي ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الإيمان وقيل معناه ولا أهل الإيمان أي من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن وهذا من باب حذف المضاف ﴿ولكن جعلناه نورا﴾ أي جعلنا الروح الذي هو القرآن نورا لأن فيه معالم الدين عن السدي وقيل جعلنا الإيمان نورا لأنه طريق النجاة عن ابن عباس ﴿نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ أي نرشده إلى الجنة ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ أي ترشد وتدعو إلى طريق مفض إلى الحق وهو الإيمان ثم فسر ذلك الصراط بقوله ﴿صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض﴾ ملكا وخلقا ﴿ألا إلى الله تصير الأمور﴾ أي إليه ترجع الأمور والتدبير يوم القيامة فلا يملك ذلك غيره.