الآيات 16-20
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴿16﴾ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴿17﴾ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴿18﴾ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ ﴿19﴾ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴿20﴾
المعنى:
لما تقدم ظهور الحجة وانقطاع المحاجة عقبه بذكر من يحاج بالباطل فقال سبحانه ﴿والذين يحاجون في الله﴾ أي يخاصمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين في دين الله وتوحيده وهم اليهود والنصارى قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالحق عن مجاهد وقتادة وإنما قصدوا بما قالوا ليدفعوا ما أتى به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿من بعد ما استجيب له﴾ أي من بعد ما دخل الناس في الإسلام وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ﴿حجتهم داحضة عند ربهم﴾ أي خصومتهم باطلة حيث زعموا أن دينهم أفضل من الإسلام ولأن ما ذكروه لا يمنع من صحة نبوة نبينا بأن ينسخ الله كتابهم وشريعة نبيهم وقيل معناه والذين يجادلون في الله بنصرة مذهبهم من بعد ما استجيب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاؤه في كفار بدر حتى قتلهم الله بأيدي المؤمنين واستجيب دعاؤه على أهل مكة وعلى مضر حتى قحطوا ودعاؤه للمستضعفين حتى خلصهم الله من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده عن الجبائي وقيل من بعد ما استجيب لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاؤه في إظهار المعجزات وإقامتها وقيل من بعد ما استجيب له بأن أقروا به قبل مبعثه فلما بعث جحدوه كما قال وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا وإنما سمى سبحانه شبهتهم حجة على اعتقادهم ولشبهها بالحجة أجري عليها اسمها من غير إطلاق الصفة بها ﴿وعليهم غضب﴾ أي غضب الله عليهم لأجل كفرهم ﴿ولهم عذاب شديد﴾ دائم يوم القيامة ﴿الله الذي أنزل الكتاب﴾ أي القرآن ﴿بالحق﴾ أي بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل وقيل بالحق أي بالأمر والنهي والفرائض والأحكام وكله حق من الله ﴿والميزان﴾ أي وأنزل الله العدل والميزان عبارة عن العدل كنى به عنه عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ومقاتل وإنما سمي العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق وقيل أراد به الميزان المعروف وأنزله الله من السماء وعرفهم كيف يعملون به بالحق وكيف يزنون به عن الجبائي وقيل الميزان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يقضي بينهم بالكتاب عن علقمة ويكون على التوسع والتشبيه ولما ذكر العدل أتبعه بذكر الساعة فقال ﴿وما يدريك لعل الساعة قريب﴾ أي وما يدريك يا محمد ولا غيرك لعل مجيء الساعة قريب وإنما أخفى الله الساعة ووقت مجيئها على العباد ليكونوا على خوف وليبادروا إلى التوبة ولو عرفهم مجيئها لكانوا مغرين بالقبائح قبل ذلك تعويلا على التلافي بالتوبة ﴿يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها﴾ لجهلهم بأحوالها وأهوالها فلا يخافون ما فيها إذ لم يؤمنوا بها فهم يطلبون قيامها إبعادا لكونها ﴿والذين آمنوا مشفقون منها﴾ أي خائفون من مجيئها وهم غير متأهبين لها ﴿ويعلمون أنها الحق﴾ أي أن مجيئها الحق الذي لا خلف فيه ﴿ألا إن الذين يمارون﴾ أي تدخلهم المرية والشك ﴿في الساعة﴾ فيخاصمون في مجيئها على وجه الإنكار لها ﴿لفي ضلال﴾ عن الصواب ﴿بعيد﴾ حين لم يذكروا فيعلموا أن الذي خلقهم أولا قادر على بعثهم ثم قال: ﴿الله لطيف بعباده﴾ أي حفي بار بهم رفيق عن ابن عباس وعكرمة والسدي وقيل اللطيف العالم بخفيات الأمور والغيوب والمراد به هنا الموصل المنافع إلى العباد من وجه يدق إدراكه وذلك في الأرزاق التي قسمها الله لعباده وصرف الآفات عنهم وإيصال السرور والملاذ إليهم وتمكينهم بالقدر والآلات إلى غير ذلك من ألطافه التي لا يوقف على كنهها لغموضها ثم قال سبحانه ﴿يرزق من يشاء﴾ أي يوسع الرزق على من يشاء يقال فلان مرزوق إذا وصف بسعة الرزق وقيل معناه يرزق من يشاء في خفض ودعة ومن يشاء في كد ومشقة ومتعبة وكل من رزقه الله من ذي روح فهو ممن شاء الله أن يرزقه ﴿وهو القوي﴾ القادر الذي لا يعجز ﴿العزيز﴾ الغالب الذي لا يغالب ﴿من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه﴾ معنى الحرث في اللغة الكسب وفلان يحرث لعياله ويحترث أي يكتسب أي من كان يريد بعمله نفع الآخرة ويعمل لها نجازه بعمله ونضاعف له ثواب عمله فنعطيه على الواحد عشرة ونزيد على ذلك ما نشاء ﴿ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب﴾ أي ومن كان يريد بعمله نفع الدنيا نعطه نصيبا من الدنيا لا جميع ما يريده بل على حسب ما تقتضيه الحكمة كما قال سبحانه عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ﴿وما له في الآخرة من نصيب﴾ وقيل معناه من قصد بالجهاد وجه الله فله سهم الغانمين والثواب في الآخرة ومن قصد به الغنيمة لم يحرم ذلك وحصل له سهمه من الغنيمة ولكن لا نصيب له من الثواب في الآخرة وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال من كانت نيته الدنيا فرق الله عليه أمره وجعل الفقر بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت نيته الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة وقيل من كان يعمل للآخرة نال الدنيا والآخرة ومن عمل للدنيا فلا حظ له في ثواب الآخرة لأن الأعلى لا يجعل تبعا للأدون عن الحسن.