الآيات 11-15
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴿11﴾ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿12﴾ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴿13﴾ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ مُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ﴿14﴾ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴿15﴾
اللغة:
الذرأ إظهار الخلق بإيجاده يقال ذرأ الله الخلق يذرؤهم ومنه ملح ذرآني لظهور بياضه ويقال أنمى الله ذراك وذروك أي ذريتك عن الأزهري وشرع الله الدين أي بين وأظهر ومنه المشرعة والشريعة لأنهما في مكان معلوم ظاهر من الأنهار فالشريعة والشرعة الظاهر المستقيم من المذاهب التي شرعها الله.
الإعراب:
﴿أن أقيموا الدين﴾ يجوز أن يكون موضعه رفعا ونصبا وجرا فالرفع على معنى هو أن أقيموا الدين والنصب على معنى شرع لكم أن أقيموا الدين والجر على البدل من الهاء في به وجائز أيضا أن يكون أن أقيموا الدين تفسيرا لما وصى به نوحا ولقوله ﴿والذي أوحينا إليك﴾ ولقوله ﴿وما وصينا به إبراهيم﴾ فيكون المعنى شرع لكم ولمن قبلكم إقامة الدين وترك الفرقة فيه.
المعنى:
ثم وصف سبحانه نفسه بما يوجب أن لا يعبد غيره فقال: ﴿فاطر السماوات والأرض﴾ أي خالقهما ومبدعهما ابتداء ﴿جعل لكم من أنفسكم أزواجا﴾ أي أشكالا مع كل ذكر أنثى يسكن إليها ويألفها ﴿ومن الأنعام أزواجا﴾ أي ذكورا وإناثا لتكمل منافعكم بها كما قال ثمانية أزواج من الضأن اثنين إلى آخره ﴿يذرؤكم فيه﴾ أي يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعل الأزواج فالهاء في فيه يعود إلى الجعل المراد بقوله ﴿جعل لكم﴾ وقيل معناه يذرؤكم في التزاوج لتكثروا به لدلالة الكلام عليه وهو ذكر الأزواج ومثله قول ذي الرمة:
ومية أحسن الثقلين جيدا
وسالفة وأحسنه قذالا
أي وأحسن من ذكر يعني الثقلين وقال الزجاج والفراء معناه يذرؤكم به أي يكثركم بأن جعل من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا وأنشد الأزهري في ذلك:
وأرغب فيها عن لقيط وأهله
ولكنني عن سنبس لست أرغب
أي أرغب بها عن لقيط ﴿ليس كمثله شيء﴾ أي ليس مثله شيء والكاف زائدة مؤكدة لمعنى النفي قال أوس بن حجر:
وقتلي كمثل جذوع النخيل
يغشاهم سبل منهمر
وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم
ما إن كمثلهم في الناس من أحد
وقيل معناه إنه لو قدر الله تعالى مثل لم يكن لذلك المثل مثل لما تقرر في العقول أن الله تعالى متفرد بصفات لا يشاركه فيها غيره فلو كان له مثل لتفرد بصفات لا يشاركه فيها غيره فكان هو الله وقد دل الدليل على أنه ليس مع الله إله آخر وقيل: فيه حذف مضاف ومثل بمعنى الصفة تقديره ليس كصاحب صفته شيء وصاحب صفته هو أي ليس كهو شيء والوجه هو الأول ﴿وهو السميع البصير﴾ لما نفي أن يكون له نظير وشبيه على وجه من الوجوه بين أنه مع ذلك سميع بصير فإنما المدحة في أنه لا مثل له مع كونه سميعا بصيرا لجميع المسموعات والمبصرات ﴿له مقاليد السماوات والأرض﴾ أي مفاتيح أرزاق السماوات والأرض وأسبابها فتمطر السماء بأمره وتنبت الأرض بإذنه عن مجاهد وقيل معناه خزائن السماوات والأرض عن السدي ﴿يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ أي يوسع الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء على ما يعلمه من المصالح للعباد ﴿إنه بكل شيء عليم﴾ فيفعل ذلك بحسب المصالح ثم خاطب سبحانه خلقه فقال ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا﴾ أي بين لكم ونهج وأوضح من الدين والتوحيد والبراءة من الشرك ما وصى به نوحا ﴿والذي أوحينا إليك﴾ أي وهو الذي أوحينا إليك يا محمد ﴿و﴾ وهو ﴿ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى﴾ ثم بين ذلك بقوله ﴿أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾ وإقامة الدين التمسك به والعمل بموجبه والدوام عليه والدعاء إليه ولا تتفرقوا أي ولا تختلفوا فيه وائتلفوا فيه واتفقوا وكونوا عباد الله إخوانا ﴿كبر على المشركين ما تدعوهم إليه﴾ من توحيد الله والإخلاص له ورفض الأوثان وترك دين الآباء لأنهم قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا ومعناه ثقل عليهم وعظم اختيارنا لك بما تدعوهم إليه وتخصيصك بالوحي والنبوة دونهم ﴿الله يجتبي إليه من يشاء﴾ أي ليس إليهم الاختيار لأن الله يصطفي لرسالته من يشاء على حسب ما يعلم من قيامه بأعباء الرسالة وتحمله لها فاجتباك الله لها كما اجتبى من قبلك من الأنبياء وقيل معناه الله يصطفي من عباده لدينه من يشاء ﴿ويهدي إليه من ينيب﴾ أي ويرشد إلى دينه من يقبل إلى طاعته وهذا كقوله والذين اهتدوا زادهم هدى وقيل يهدي إلى جنته وثوابه من يرجع إليه بالنية والإخلاص ثم قال ﴿وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم﴾ معناه وإن هؤلاء الكفار لم يختلفوا عليك إلا بعد أن أتاهم طريق العلم بصحة نبوتك فعدلوا عن النظر فيه ﴿بغيا بينهم﴾ أي فعلوا ذلك للظلم والحسد والعداوة والحرص على طلب الدنيا وقيل معناه وما تفرقوا عنه أي عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بعد أن علموا أنه حق ولكنهم تفرقوا عنه حسدا له وخوفا أن تذهب رئاستهم ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم﴾ معناه ولو لا وعد الله تعالى وإخباره بتبقيتهم إلى وقت معلوم وتأخر العذاب عنهم في الحال لفصل بينهم الحكم وأنزل عليهم العذاب الذي استحقوه عاجلا وقيل معناه ولو لا وعد الله بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى لقضي بينهم بإهلاك المبطل وإثابة المحق ﴿وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب﴾ معناه وإن اليهود والنصارى الذين أورثوا الكتاب من بعد قوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومن بعد أحبارهم لفي شك من القرآن أو من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤد إلى الريبة عن السدي بين بذلك أن أحبارهم أنكروا الحق عن معرفته وإن عوامهم كانوا شاكين فيه يدل عليه قوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه وقيل معناه وإن الذين أورثوا الكتاب أي القرآن وهم العرب من بعدهم أي من بعد اليهود والنصارى لفي شك منه بليغ ولو استقصوا في النظر أدى بهم إلى اليقين والرشد ﴿فلذلك فادع﴾ أي فإلى ذلك فادع عن الفراء والزجاج يقال دعوت لفلان وإلى فلان وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد ومعناه فإلى الدين الذي شرعه الله تعالى ووصى به أنبياءه فادع الخلق يا محمد وقيل إن اللام للتعليل أي فلأجل الشك الذي هم فيه فادعهم إلى الحق حتى تزيل شكهم ﴿واستقم كما أمرت﴾ أي فاثبت على أمر الله وتمسك به واعمل بموجبه وقيل واستقم على تبليغ الرسالة ﴿ولا تتبع أهواءهم﴾ يعني أهواء المشركين في ترك التبليغ ﴿وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب﴾ أي آمنت بكتب الله التي أنزلها على الأنبياء قبلي كلها ﴿وأمرت لأعدل بينكم﴾ أي كي أعدل بينكم أي أسوي بينكم في الدين والدعاء إلى الحق ولا أحابي أحدا وقيل معناه أمرت بالعدل بينكم في جميع الأشياء وفي الحديث ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فالمنجيات العدل في الرضاء والغضب والقصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية والمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ﴿الله ربنا وربكم﴾ أي وقل لهم أيضا الله مدبرنا ومدبركم ومصرفنا ومصرفكم والمنعم علينا وعليكم وإنما قال ذلك لأن المشركين قد اعترفوا بأن الله هو الخالق ﴿لنا أعمالنا ولكم أعمالكم﴾ أي لا يضرنا إصراركم على الكفر فإن جزاء أعمالنا لنا وجزاء أعمالكم لكم لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ﴿لا حجة بيننا وبينكم﴾ أي لا خصومة بيننا وبينكم عن مجاهد وابن زيد والمعنى أن الحق قد ظهر فسقط الجدال والخصومة وكنى بالحجة عن الخصومة لاحتجاج أحد الخصمين على الآخر وهذا قبل أن يؤمر بالقتال وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم تكن بينه وبين من لا يجيب خصومة وقيل معناه لا حجة بيننا وبينكم لظهور أمركم في البغي علينا والعداوة لنا والمعاندة لا على طريق الشبهة وليس ذلك تحريما لإقامة الحجة لأنه لا يلزم قبول الدعوة إلا بالحجة التي يظهر بها المحق من المبطل فإذا صار الإنسان إلى البغي والعداوة سقط الحجاج بينه وبين أهل الحق ﴿الله يجمع بيننا﴾ يوم القيامة لفصل القضاء ﴿وإليه المصير﴾ يحكم بيننا بالحق وفي هذا غاية التهديد.