الآيات 99-102

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ﴿99﴾ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ يمُ الْحَكِيمُ ﴿100﴾ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿101﴾ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴿102﴾

الإعراب:

دخول من في قوله ﴿من الملك﴾ و﴿من تأويل الأحاديث﴾ جائز أن يكون للتبعيض فيكون المراد آتيتني بعض الملك وعلمتني بعض تأويل الأحاديث وجائز أن يكون لتبيين هذا الجنس من سائر الأجناس فيكون المعنى آتيتني الملك وعلمتني التأويل عن الزجاج قال وقوله ﴿تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء﴾ يدل على أن من هاهنا لتبيين الجنس ومثله قوله ﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾ أي الرجس الذي هو وثن، ﴿فاطر السماوات والأرض﴾ منصوب على وجهين (أحدهما) أن يكون على الصفة لقوله ﴿رب﴾ لأن المعنى يا ربي فهو نداء مضاف في موضع نصب فيكون ﴿فاطر السماوات﴾ صفة له وجائز أن ينتصب على أنه نداء ثان على تقدير يا فاطر السماوات وذلك في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره ﴿من أنباء الغيب﴾ ويكون ﴿نوحيه إليك﴾ خبرا ثانيا وإن شئت جعلت نوحيه هو الخبر وجعلت ذلك في معنى الذي وقوله ﴿من أنباء الغيب﴾ صلته.

المعنى:

﴿فلما دخلوا على يوسف﴾ هاهنا حذف تقديره فلما خرج يعقوب وأهله من أرضهم وأتوا مصر دخلوا على يوسف وفي حديث ابن محبوب بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) أن يعقوب قال لولده تحملوا إلى يوسف من يومكم هذا بأهلكم أجمعين فساروا إليه ويعقوب معهم وخالة يوسف أم يامين فحثوا السير فرحا وسرورا تسعة أيام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه وقبله وبكى ورفعه ورفع خالته على سرير الملك ثم دخل منزله واكتحل وادهن ولبس ثياب العز والملك فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما له وشكرا لله عند ذلك ولم يكن يوسف في تلك العشرين سنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيب حتى جمع الله بينه وبين أبيه وإخوته وقيل أن يوسف بعث مع البشير مائتي راحلة مع ما يحتاج إليه في السفر وسألهم أن يأتوه بأهلهم أجمعين فلما دنا يعقوب من مصر تلقاه يوسف في الجند وأهل مصر فقال يعقوب يا يهوذا هذا فرعون مصر قال لا هذا ابنك ثم تلاقيا قال الكلبي على يوم من مصر فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه بدأ يعقوب بالسلام فقال السلام عليك يا مذهب الأحزان وفي كتاب النبوة بالإسناد عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لما أقبل يعقوب إلى مصر خرج يوسف ليستقبله فلما رآه يوسف هم بأن يترجل له ثم نظر إلى ما هو فيه من الملك فلم يفعل فلما سلم على يعقوب نزل عليه جبرائيل فقال له يا يوسف إن الله جل جلاله يقول منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ما أنت فيه ابسط يدك فبسطها فخرج من بين أصابعه نور فقال ما هذا يا جبرائيل قال هذا أنه لا يخرج من صلبك نبي أبدا عقوبة بما صنعت بيعقوب إذ لم تنزل إليه وقوله ﴿آوى إليه أبويه﴾ أي ضمهما إليه وأنزلهما عنده وقال أكثر المفسرين أنه يعني بأبويه أباه وخالته فسمي الخالة أما كما سمي العم أبا في قوله ﴿وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق﴾ وذلك أن أمه كانت قد ماتت في نفاسها بابن يامين فتزوجها أبوه وقيل يريد أباه وأمه وكانا حيين عن ابن إسحاق والجبائي وقيل أن راحيل أمه نشرت من قبرها حتى سجدت له تحقيقا للرؤيا عن الحسن ﴿وقال﴾ لهم قبل دخولهم مصر ﴿ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين﴾ والاستثناء يعود إلى الأمن وإنما قال آمنين لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوازهم قال وهب أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وسبعون إنسانا وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وخمس مائة وبضع وسبعون رجلا ﴿ورفع أبويه على العرش﴾ أي رفعهما على سرير ملكه إعظاما لهما والعرش السرير الرفيع عن ابن عباس والحسن وقتادة ﴿وخروا له سجدا﴾ أي انحطوا على وجوههم وكانت تحية الناس بعضهم لبعض يومئذ السجود والانحناء والتكفير عن قتادة ولم يكونوا نهوا عن السجود لغير الله في شريعتهم فأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام وهي تحية أهل الجنة عجلها لهم قال أعشى بن ثعلبة:

فلما أتانا بعيد الكرى

سجدنا له ورفعنا العمارا.

وكان من سنة التعظيم يومئذ أن يسجد للمعظم عن الزجاج وقيل كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعل الأعاجم عن الكلبي وقيل إن السجود كان لله تعالى شكرا له كما يفعله الصالحون عند تجدد النعم والهاء في قوله ﴿له﴾ عائدة إلى الله تعالى أي سجدوا لله تعالى على هذه النعمة وتوجهوا في السجود إليه كما يقال صلى للقبلة ويراد به استقبالها عن ابن عباس وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال علي بن إبراهيم وحدثني محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين أن يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضها على أبي الحسن علي بن محمد (عليهما السلام) فكان إحداها أن قال أخبرني أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء فأجاب أبو الحسن (عليه السلام) أما سجود يعقوب وولده فإنه لم يكن ليوسف وإنما كان ذلك منهم طاعة الله وتحية ليوسف كما أن السجود من الملائكة لآدم كان منهم طاعة لله وتحية لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكرا لله تعالى لاجتماع شملهم ألم تر أنه يقول في شكره في ذلك الوقت ﴿رب قد آتيتني من الملك﴾ الآية الخبر بتمامه ﴿وقال﴾ يوسف ﴿يا أبت هذا تأويل رؤياي﴾ أي هذا تفسير رؤياي وتصديق رؤياي التي رأيتها ﴿من قبل قد جعلها ربي حقا﴾ أي صدقا في اليقظة وقيل كان بين الرؤيا وتأويلها ثمانون سنة عن الحسن وقيل سبعون سنة عن عبد الله بن شوذب وقيل أربعون سنة عن سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد وقيل اثنتان وعشرون سنة عن الكلبي وقيل ثماني عشرة سنة عن ابن إسحاق قال ابن إسحاق وولد ليوسف من امرأة العزيز أفرايم وميشا ورحمة امرأة أيوب وكان بين يوسف وبين موسى أربعمائة سنة ﴿وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن﴾ أي وقد أحسن ربي إلى حيث أخرجني من السجن وأنعم علي به ﴿وجاء بكم من البدو﴾ أي من البادية فإنهم كانوا يسكنون البادية ويرعون أغنامهم فيها فكانت مواشيهم قد هلكت في تلك السنين بالقحط فأغناهم الله تعالى بمصيرهم إلى يوسف وإنما بدأ (عليه السلام) بالسجن في تعداد نعم الله دون إخراجه من الجب كرما لئلا يبدأ بصنيع إخوته به وقيل لأن نعم الله تعالى في إخراجه من السجن كانت أكثر ولأن السجن طالت مدته وكثرت محنته ﴿من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي﴾ أي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي وحرش بيني وبينهم وقال ابن عباس معناه دخل بيننا بالحسد ﴿إن ربي لطيف لما يشاء﴾ أي لطيف في تدبير عباده يدبر أمرهم على ما يشاء ويسهل لهم العسير وبلطفه حصلت هذه النعم علينا من الاجتماع وغيره قال الأزهري اللطيف من أسماء الله سبحانه معناه الرفيق بعباده يقال لطف فلان بفلان لطفا إذا رفق وقال غيره اللطيف الذي يوصل إليك إربك في رفق وقيل اللطيف العالم بدقائق الأمور ﴿إنه هو العليم﴾ بجميع الأشياء ﴿الحكيم﴾ في كل التدابير وفي كتاب النبوة بالإسناد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال يعقوب ليوسف يا بني حدثني كيف صنع بك إخوتك قال يا أبة دعني فقال أقسمت عليك ألا أخبرتني فقال له أخذوني وأقعدوني على رأس الجب ثم قالوا لي انزع قميصك فقلت لهم إني أسألكم بوجه أبي يعقوب أن لا تنزعوا قميصي ولا تبدوا عورتي فرفع فلان السكين علي وقال انزل فصاح يعقوب فسقط مغشيا عليه ثم أفاق فقال له يا بني كيف صنعوا بك فقال يوسف إني أسألك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلا أعفيتني قال فتركه وروي أيضا أن يوسف قال ليعقوب (عليهما السلام) يا أبة لا تسألني عن صنيع إخوتي بي وسل عن صنع الله بي قال أبو حمزة بلغنا أن يعقوب عاش مائة وسبعا وأربعين سنة ودخل مصر على يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة وكان عند يوسف بمصر سبع عشرة سنة وقال ابن إسحاق أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة ثم توفي ودفن بالشام وقال سعيد بن جبير نقل يعقوب إلى بيت المقدس في تابوت من ساج ووافق ذلك يوم مات عيصو فدفنا في قبر واحد فمن ثم ينقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة ثم رجع يوسف إلى مصر بعد أن دفن أباه في بيت المقدس عن وصية منه إليه وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة وكان أول رسول في بني إسرائيل ثم مات وأوصى أن يدفن عند قبور آبائه وقيل دفن بمصر ثم أخرج موسى عظامه فحمله حتى دفنه عند أبيه وقيل أفضت النبوة بعده إلى روبيل ثم إلى يهوذا وفي كتاب النبوة بالإسناد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت له كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر قال عاش حولين قلت فمن كان الحجة لله في الأرض يعقوب أم يوسف قال كان يعقوب الحجة وكان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس فكان يوسف بعد يعقوب الحجة قلت وكان يوسف رسولا نبيا قال نعم أما تسمع قوله عز وجل ﴿ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات﴾ وبالإسناد عن أبي خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال دخل يوسف السجن وهو ابن اثنتي عشرة سنة ومكث فيها ثماني عشرة سنة وبقي بعد خروجه ثمانين سنة فذلك مائة سنة وعشر سنين قالوا ولما جمع الله سبحانه ليوسف شمله وأقر له عينه وأتم له رؤياه ووسع عليه في ملك الدنيا ونعيمها علم أن ذلك لا يبقى له ولا يدوم فطلب من الله سبحانه نعيما لا يفنى وتاقت نفسه إلى الجنة فتمنى الموت ودعا به ولم يتمن ذلك نبي قبله ولا بعده تمنى أحد فقال ﴿رب قد آتيتني من الملك﴾ أي أعطيتني ملك النبوة وملك مصر ﴿وعلمتني من تأويل الأحاديث﴾ أي تأويل الرؤيا ﴿فاطر السماوات والأرض﴾ أي خالق السماوات والأرض ومنشئهما لا على مثال سبق ﴿أنت وليي﴾ أي ناصري ومدبري وحافظي ﴿في الدنيا والآخرة﴾ تتولى فيهما إصلاح معاشي ومعادي ﴿توفني مسلما﴾ قال ابن عباس ما تمنى نبي تعجيل الممات إلا يوسف لما انتظمت أسباب مملكته اشتاق إلى ربه وقيل معناه ثبتني على الإيمان إلى وقت الممات وأمتني مسلما ﴿وألحقني بالصالحين﴾ أي بأهل الجنة من الأنبياء والأولياء والصديقين وقيل لما جمع الله سبحانه بينه وبين أبويه وإخوته أحب أن يجتمع مع آبائه في الجنة فدعا بذا الدعاء والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم قيل فتوفاه الله تعالى بمصر وهو نبي فدفن في النيل في صندوق من رخام وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه كل يحب أن يدفن في محلته لما كانوا يرجون من بركته فرأوا أن يدفنوه في النيل فيمر الماء عليه ثم يصل إلى جميع مصر فيكون كلهم فيه شركاء وفي بركته شرعا سواء فكان قبره في النيل إلى أن حمله موسى (عليه السلام) حين خرج من مصر ثم عاد سبحانه بعد تمام القصة إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال ﴿ذلك﴾ أي الذي قصصت عليك من قصة يوسف يا محمد ﴿من أنباء الغيب﴾ أي من جملة أخبار الغيب ﴿نوحيه إليك﴾ على ألسنة الملائكة لتخبر به قومك ويكون دلالة على إثبات نبوتك ومعجزة دالة على صدقك ﴿وما كنت لديهم﴾ أي وما كنت يا محمد عند أولاد يعقوب ﴿إذ أجمعوا أمرهم﴾ إذ عزموا على إلقائه في البئر واجتمعت آراؤهم عليه ﴿وهم يمكرون﴾ أي يحتالون في أمر يوسف حتى ألقوه في الجب عن الجبائي وقيل يمكرون بيوسف عن ابن عباس والحسن وقتادة.