الآيات 6-10

ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿6﴾ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴿7﴾ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ﴿8﴾ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ﴿9﴾ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴿10﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة ونافع وسهل ﴿خلقه﴾ بفتح اللام والباقون خلقه بسكون اللام وفي الشواذ قراءة الزهري وبدا خلق الإنسان بغير همز وقرأ علي وابن عباس وأبان بن سعيد بن العاص والحسن بخلاف أ إذا ضللنا بالضاد مكسورة اللام وقرأ الحسن صللنا بالصاد أيضا مفتوحة اللام.

الحجة:

قال أبو علي خلقه منتصب على أنه مصدر دل عليه ما تقدم من قوله ﴿أحسن كل شيء﴾ فأما الضمير الذي أضيف خلق إليه فلا يخلو من أن يكون ضمير اسم الله تعالى أو يكون كناية عن المفعول فالذي يدل عليه نظائره أن الضمير لاسم الله تعالى لأنه مصدر لم يسند الفعل المنتصب عنه إلى فاعل ظاهر وما كان من هذا النحو أضيف المصدر فيه إلى الفاعل نحو صنع الله ووعد الله وكتاب الله عليكم فكما أضيف هذه المصادر إلى الفاعل فكذلك يكون خلقه مضافا إلى ضمير الفاعل لأن قوله ﴿أحسن كل شيء خلقه﴾ يدل على خلق كل شيء.

فإن قلت كيف يدل قوله ﴿أحسن كل شيء﴾ على خلق كل شيء وقد نجد أشياء حسنة مما لم يخلقها قيل هذا كما قال خالق كل شيء فأطلق اللفظ عاما وروي أن عكرمة سئل عن قوله تعالى ﴿أحسن كل شيء خلقه﴾ فقال إن است القرد ليست بحسنة ولكنه أبرم خلقها أي أتقن وما قلناه من أن انتصاب خلقه من المصدر الذي دل عليه فعل متقدم مذهب سيبويه ويجوز أن يكون خلقه بدل من قوله ﴿كل شيء﴾ فيصير التقدير الذي أحسن خلق كل شيء ومن قال ﴿أحسن كل شيء خلقه﴾ كان خلقه وصفا للنكرة المتقدمة وموضع الجملة يحتمل وجهين النصب على أن يكون صفة لكل والجر على أن يكون صفة لشيء وترك الهمزة في بدأ محمول على البدل لا على التخفيف القياسي ومثله بيت الكتاب:

راحت بمسلمة البغال عشية

فارعي فزارة لا هناك المرتع

وتقول على البدل أبديت إذا أخبرت عن نفسك وتقول على التخفيف بدأت بالألف بلا همزة وقد مر القول في اختلافهم في قوله ﴿أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد﴾ وموضع إذا نصب بما دل عليه قوله ﴿أإنا لفي خلق جديد﴾ لأن هذا الكلام يدل على نعاد والتقدير نعاد إذا ضللنا في الأرض قال أبو عبيدة معناه همدنا في الأرض وقال غيره صرنا ترابا فلم يتبين شيء من خلقنا وقوله صللنا بالصاد من قولهم صل اللحم إذا نتن يصل ويصل والمعنى إذا دفنا في الأرض وصلت أجسامنا وقيل أن معناه من الصلة وهي الأرض اليابسة ومنه الصلصال.

المعنى:

ثم أكد سبحانه ما تقدم من دلائل وحدانيته وأعلام ربوبيته فقال ﴿ذلك عالم الغيب والشهادة﴾ أي الذي يفعل ذلك ويقدر عليه هو العالم بما يشاهد وما لا يشاهد وبما غاب عن الخلق وما حضر ﴿العزيز﴾ المنيع في ملكه ﴿الرحيم﴾ بأهل طاعته ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾ أي أحكم كل شيء خلقه وأتقنه عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه علم كيف يخلق كل شيء قبل أن خلقه من غير أن يعلمه أحد عن مقاتل والسدي من قولهم فلان يحسن كذا أي يعلمه وقيل الذي جعل كل شيء في خلقه حسنا حتى جعل الكلب في خلقه حسنا عن ابن عباس والمعنى أنه أحسن خلقه من جهة الحكمة فكل شيء خلقه وأوجده فيه وجه من وجوه الحكمة تحسنه وفي هذا دلالة على أن الكفر والقبائح لا يجوز أن يكون من خلقه ﴿وبدأ خلق الإنسان من طين﴾ أي ابتدأ خلق آدم الذي هو أول البشر من طين كان ترابا ثم صار طينا ثم صلصالا ثم حيوانا ﴿ثم جعل نسله﴾ أي نسل الإنسان الذي هو آدم يعني ولده ﴿من سلالة﴾ وهي الصفوة التي تنسل من غيرها ويسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه ﴿من ماء مهين﴾ أي ضعيف عن قتادة وقيل حقير مهان أشار إلى أنه من شيء حقير لا قيمة له وإنما يصير ذا قيمة بالعلم والعمل ﴿ثم سوية﴾ أي جعله بشرا سويا وعدله ورتب جوارحه ﴿ونفخ فيه﴾ أي في ذلك المخلوق ﴿من روحه﴾ أضاف الروح إلى نفسه إضافة اختصاص وملك على وجه التشريف ثم قال سبحانه مخاطبا لذريته ﴿وجعل لكم﴾ أيها الخلق ﴿السمع والأبصار﴾ لتسمعوا المسموعات وتبصروا المبصرات ﴿والأفئدة﴾ أي وجعل لكم القلوب لتعقلوا بها ﴿قليلا ما تشكرون﴾ أي تشكرون نعم الله قليلا من كثير وما مزيدة ويجوز أن يكون ما مصدرية فيكون تقديره قليلا شكركم لهذه النعم ﴿وقالوا﴾ يعني منكري البعث ﴿أإذا ضللنا في الأرض﴾ أي غبنا في الأرض وصرنا ترابا وكل شيء غلب عليه غيره حتى يغيب فيه فقد ضل قال الأخطل:

فكنت القذا في موج أكدر مزبد

قذف الآتي به فضل ضلالا

وقيل إن معنى ضللنا هلكنا عن قتادة ومجاهد ﴿أإنا لفي خلق جديد﴾ أي نبعث ونحيي فهو استفهام معناه الإنكار والمعنى كيف نخلق جديدا ونعاد بعد أن هلكنا وتفرقت أجسامنا ثم قال سبحانه ﴿بل هم﴾ أي هؤلاء الكفار ﴿بلقاء ربهم﴾ أي ما وعد ربهم به من الثواب والعقاب ﴿كافرون﴾ أي جاحدون فلهذا قالوا هذا القول.