الآيات 20-25

وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿20﴾ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴿21﴾ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴿22﴾ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ يُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿24﴾ قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿25﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة ﴿صدق﴾ بتشديد الدال والباقون بتخفيفها وقرأ يعقوب وسهل ﴿صدق﴾ بالتشديد إبليس بالنصب ظنه بالرفع وقرأ أبو عمرو وأهل الكوفة غير عاصم إلا الأعشى والبرجمي أذن بضم الهمزة والباقون بفتحها وقرأ ابن عامر ويعقوب فزع بفتح الفاء والزاي والباقون بضم الفاء وكسر الزاي وفي الشواذ قراءة الحسن بخلاف وقتادة فزع بفتح الفاء والزاي والعين والتشديد وعن الحسن أيضا ﴿فزع﴾ بضم الفاء وكسر الزاي والتشديد وعنه عن قتادة فزع بضم الفاء وكسر الزاي والتخفيف.

الحجة:

قال أبو علي معنى التخفيف في صدق أنه صدق ظنه بهم من متابعتهم إياه إذا أغواهم وذلك نحو قوله فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ولأغوينهم أجمعين فهذا ظنه لأنه لم يقل ذلك عن يقين فظنه على هذا ينتصب انتصاب المفعول به ويجوز أن ينتصب انتصاب الظرف أي في ظنه وقد يقال أصاب الظن وأخطأ الظن وقال الشاعر:

إن يك ظني صادقا وهو صادق

بشملة يحبسهم بها محبسا وعرا

فعداه إلى المفعول به ومن قرأ بالتشديد نصب الظن على أنه مفعول به ومن قرأ صدق عليهم إبليس بالنصب ظنه بالرفع فالمعنى أن إبليس كان سولت له نفسه شيئا فصدقه ظنه ومن قرأ ﴿إلا لمن أذن له﴾ فالمعنى لمن أذن الله له أن يشفع ومن قرأ أذن له فبنى الفعل للمفعول به فهو يريد هذا المعنى أيضا كما أن قوله ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم﴾ وفزع وهل نجازي إلا الكفور وهل يجازي إلا الكفور واحد في المعنى وإن اختلفت الألفاظ.

اللغة:

يقال صدقت زيدا وصدقته وكذبته وكذبته وينشد الأعشى:

وصدقته وكذبته والمرء ينفعه كذا

أبو عبيدة فزع عن قلوبهم نفس عنه يقال فزع وفزع إذا أزيل الفزع عنها.

الإعراب:

﴿لنعلم﴾ قال الزجاج معناه ما امتحناهم في إبليس إلا لنعلم ذلك علم وقوعه منهم وهو الذي يجازون عليه.

﴿لا يملكون﴾ الأجود أن يكون جملة مستأنفة ويجوز أن يكون حالا وقوله ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾ تقديره وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.

المعنى:

ثم قال سبحانه ﴿ولقد صدق عليهم إبليس ظنه﴾ الضمير في عليهم يعود إلى أهل سبإ وقيل إلى الناس كلهم إلا من أطاع الله عن مجاهد والمعنى أن إبليس كان قال لأغوينهم ولأضلنهم وما كان ذلك عن علم وتحقيق وإنما قاله ظنا فلما تابعه أهل الزيغ والشرك صدق ظنه وحققه ﴿فاتبعوه﴾ فيما دعاهم إليه ﴿إلا فريقا من المؤمنين﴾ من هنا للتبيين يعني المؤمنين كلهم عن ابن عباس أي علموا قبح متابعته فلم يتبعوه واتبعوا أمر الله تعالى ﴿وما كان له عليهم من سلطان﴾ أي ولم يكن لإبليس عليهم من سلطنة ولا ولاية يتمكن بها من إجبارهم على الغي والضلال وإنما كان يمكنه الوسوسة فقط كما قال وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي﴾ ﴿إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك﴾ المعنى أنا لم نمكنه من إغوائهم ووسوستهم إلا لنميز بين من يقبل منه ومن يمتنع ويأبى متابعته فنعذب من تابعه ونثيب من خالفه فعبر عن التمييز بين الفريقين بالعلم وهذا التمييز متجدد لأنه لا يكون إلا بعد وقوع ما يستحقون به ذلك وأما العلم فبخلاف ذلك فإنه سبحانه كان عالما بأحوالهم وبما يكون منهم فيما لم يزل وقيل معناه لتعلم طاعاتهم موجودة أو معاصيهم إن عصوا فنجازيهم بحسبها لأنه سبحانه لا يجازي أحدا على ما يعلم من حاله إلا بعد أن يقع ذلك منه وقيل معناه لنعامله معاملة من كأنه لا يعلم وإنما يعمل ليعلم من يصدق بالآخرة ويعترف بها ممن يرتاب فيها أو يشك ﴿وربك﴾ يا محمد ﴿على كل شيء حفيظ﴾ أي عالم لا يفوته علم شيء من أحوالهم ثم قال سبحانه ﴿قل﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ادعوا الذين زعمتم من دون الله﴾ أنهم آلهة وأنهم شركاء لله تعالى وأنهم شفعاؤكم وأنها تستحق الإلهية هل يستجيبون لكم إلى ما تسألونهم وهذا نوع توبيخ لا أمر ليعلموا أن أوثانهم لا تنفعهم ولا تضرهم ﴿لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض﴾ أي لا يملكون زنة ذرة من خير وشر ونفع وضر فيهما ﴿وما لهم فيهما﴾ أي وليس لهم في خلق السماوات والأرض ﴿من شرك﴾ ونصيب ﴿وما له منهم من ظهير﴾ أي ليس لله سبحانه منهم معاون على خلق السماوات والأرض ولا على شيء من الأشياء ﴿ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له﴾ المعنى أنه لا تنفع الشفاعة عند الله تعالى إلا لمن رضيه الله وارتضاه وأذن له في الشفاعة مثل الملائكة والأنبياء والأولياء ويجوز أن يكن المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له فيكون مثل قوله ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وإنما قال سبحانه ذلك لأن الكفار كانوا يقولون نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى وهؤلاء شفعاؤنا عند الله فحكم الله تعالى ببطلان اعتقاداتهم ﴿حتى إذا فزع عن قلوبهم﴾ أي كشف الفزع عن قلوبهم وفزع كشف الله الفزع عن قلوبهم واختلف في الضمير في قوله ﴿قلوبهم﴾ فقيل يعود إلى المشركين الذين تقدم ذكرهم فيكون المعنى حتى إذا أخرج عن قلوبهم الفزع وقت الفزع ليسمعوا كلام الملائكة ﴿قالوا﴾ أي قالت الملائكة لهم ﴿ماذا قال ربكم قالوا﴾ أي قال هؤلاء المشركون مجيبين لهم ﴿الحق﴾ أي قال الحق فيعترفون أن ما جاء به الرسل كان حقا عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وقيل إن الضمير يعود إلى الملائكة ثم اختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن الملائكة إذا صعدوا بأعمال العباد ولهم زجل وصوت عظيم فتحسب الملائكة أنها الساعة فيخرون سجدا ويفزعون فإذا علموا أنه ليس ذلك قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق (وثانيها) أن الفترة لما كانت بين عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزل الله سبحانه جبرائيل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل بشيء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبرائيل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع فرفعوا رءوسهم وقال بعضهم لبعض ما ذا قال ربكم قالوا الحق يعني الوحي عن مقاتل والكلبي (وثالثها) أن الله تعالى إذا أوحى إلى بعض ملائكته لحق الملائكة غشي عند سماع الوحي ويصعقون ويخرون سجدا للآية العظيمة فإذا فزع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الذي أوحي إليه ما ذا قال ربك أو يسأل بعضهم بعضا فيعلمون أن الأمر في غيرهم عن ابن مسعود واختاره الجبائي ﴿وهو العلي﴾ أي السيد القادر المطاع وقيل العلي في صفاته ﴿الكبير﴾ في قدرته ﴿قل من يرزقكم من السماوات والأرض﴾ فإنهم لا يمكنهم أن يقولوا ترزقنا آلهتنا التي نعبدها ثم عند ذلك ﴿قل الله﴾ الذي يرزقكم ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾ إنما قال ذلك على وجه الإنصاف في الحجاج دون الشك كما يقول القائل لغيره أحدنا كاذب وإن كان هو عالما بالكاذب وعلى هذا يقول أبو الأسود الدئلي يمدح أهل البيت (عليهم السلام):

يقول الأرذلون بنو قشير

طوال الدهر لا تنسى عليا

بنو عم النبي وأقربوه

أحب الناس كلهم إليا

فإن يك حبهم رشدا أصبه

ولست بمخطىء إن كان غيا

لم يقل هذا لكونه شاكا في محبتهم وقد أيقن أن محبتهم رشد وهدى وقيل إنه جمع بين الخبرين وفوض التمييز إلى العقول فكأنه قال أنا على هدى وأنتم على ضلال كقول امرىء القيس:

كان قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العناب والحشف البالي

فجمع بين القلوب الرطبة واليابسة وجمع بين العناب والحشف البالي وقيل إنما قاله على وجه الاستعطاف والمداراة ليسمع الكلام وهذا من أحسن ما ينسب به المحق نفسه إلى الهدى وخصمه إلى الضلال لأنه كلام من لا يكاشف خصمه بالتضليل بل ينسبه إليه على أحسن وجه ويحثه على النظر ولا يجب النظر إلا بعد التردد ﴿قل﴾ يا محمد إذا لم ينقادوا للحجة ﴿لا تسئلون﴾ أيها الكفار ﴿عما أجرمنا﴾ أي اقترفنا من المعاصي ﴿ولا نسأل﴾ نحن ﴿عما تعملون﴾ أي تعملونه أنتم بل كل إنسان يسأل عما يعمله ويجازى على فعله دون فعل غيره وفي هذا دلالة على أن أحدا لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيره.