الآيات 15-19

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴿15﴾ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴿16﴾ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴿17﴾ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴿18﴾ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿19﴾

القراءة:

قرأ ﴿مسكنهم﴾ على التوحيد بفتح الكاف حمزة وحفص وبكسر الكاف الكسائي وخلف والباقون مساكنهم على الجمع وقرأ أكل خمط مضاف غير منون أهل البصرة وقرأ الباقون غير مضاف بالتنوين وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر ويعقوب ﴿وهل نجازي﴾ بالنون وكسر الزاي ﴿إلا الكفور﴾ بالنصب وأدغم الكسائي اللام من هل في النون وغيره لم يدغم والباقون يجازي بالياء وفتح الزاي والكفور بالرفع وقرأ أبو عمرو وابن كثير وهشام باعد بين أسفارنا بالتشديد على لفظ الأمر وقرأ يعقوب وسهل ربنا بالضم باعد بالألف وفتح الباء والعين والدال مخففة وهو قراءة محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) وابن عباس وقرأ الباقون ﴿ربنا﴾ بالنصب ﴿باعد﴾ بالألف على الدعاء وفي الشواذ قراءة ابن يعمر ومحمد بن السميقع ﴿ربنا﴾ بالنصب بعد بفتح الباء والدال وضم العين بين أسفارنا بالرفع.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ مساكنهم أتى باللفظ وفقا للمعنى لأن لكل ساكن مسكنا ومن قرأ ﴿مسكنهم﴾ فيشبه أن يكون جعل المسكن مصدرا وحذف المضاف والتقدير في مواضع سكناهم فلما جعل المسكن كالسكنى والسكون أفرد كما يفرد المصدر وهذا أشبه من أن تحمله على نحو:

كلوا في بعض بطنكم

وعلى هذا قوله تعالى في مقعد صدق أي في موضع قعود أ لا ترى أن لكل واحد من المتقين موضع قعود والأشبه في الكاف الفتح لأن اسم المكان والمصدر من باب يفعل على المفعل وقد يشذ على القياس نحو هذا كما جاء المسجد وسيبويه يحمله على اسم البيت وكذلك المطلع إلا أن أبا الحسن يقول إن المسكن إذا كسرته لغة كثيرة وهي لغة الناس اليوم والفتح لغة أهل الحجاز فأما الإضافة في ﴿أكل خمط﴾ فإن أبا عبيدة قال الخمط كل شجرة مرة ذات شوكة والأكل الجنى فعلى هذا التفسير تحسن الإضافة وذلك أن الأكل إذا كان الجنى فإن جنى كل شجرة منه وغير الإضافة ليس في حسن الإضافة لأن الخمط إنما هو اسم شجرة وليس بوصف فإذا لم يكن وصفا لم يجر على ما قبله كما يجري الوصف على الموصوف والبدل ليس بالسهل أيضا لأنه ليس هو هو ولا بعضه لأن الجنى من الشجر وليس الشجر من الجنى فيكون إجراؤه عليه على وجه العطف البيان كأنه بين أن الجنى لهذا الشجر ومنه قال أبو الحسن الأحسن في كلام العرب أن يضيفوا ما كان من نحو هذا مثل دار آجر وثوب خز قال فأكل خمط قراءة كثيرة وليست بجيدة في العربية وحجة من قرأ ﴿وهل نجازي﴾ بالنون قوله ﴿جزيناهم﴾ ومن قرأ يجازى على بناء الفعل للمفعول فإن المجازي أيضا هو الله تعالى وإنما خص الكفور بالجزاء لأن المؤمن قد يكفر عن سيئاته قال سبحانه ونتجاوز عن سيئاتهم وقال إن الحسنات يذهبن السيئات وليس كذلك الكافر فإنه يجازى بكل سوء يعمله وأما إدغام الكسائي اللام في النون فجائز حكاه سيبويه والبيان أحسن وأما قوله ﴿ربنا باعد بين أسفارنا﴾ فذكر سيبويه أن فاعل وفعل يجيئان بمعنى كقولهم ضاعف وضعف وقارب وقرب واللفظان جميعا على معنى الطلب والدعاء قال ابن جني بين منصوب نصب المفعول به أي بعد وباعد مسافة أسفارنا وليس نصبه على الظرف يدلك على ذلك قراءة من قرأ بعد بين أسفارنا كما تقول بعد مدى أسفارنا فرفعه دليل كونه اسما وعليه قوله:

كان رماحهم أشطان بئر

بعيد بين جاليها جرور

أي بعيد مدى جاليها أو مسافة جاليها.

اللغة:

العرم المسناة التي تحبس الماء واحدها عرمة أخذ من عرامة الماء وهي ذهابه كل مذهب قال الأعشى:

ففي ذاك للمؤتسي أسوة

ومأرب قفى عليه العرم

رخام بنته له حمير

إذا جاء ماؤهم لم يرم

وقيل العرم اسم واد كان يجتمع فيه سيول من أودية شتى وقيل العرم هنا اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم وهو الذي يقال له الخلد وقيل العرم المطر الشديد.

الإعراب:

﴿آية﴾ اسم كان.

﴿جنتان﴾ رفع على أنه بدل من آية ويجوز أن يكون خبرا لمبتدء محذوف كأنه قيل ما الآية فقال الآية جنتان و﴿عن يمين وشمال﴾ صفة لجنتان وعلى هذا تقف على قوله ﴿آية﴾ وتبتدىء بقوله ﴿جنتان﴾.

﴿كلوا من رزق ربكم﴾ أي يقال كلوا من رزق ربكم منهما فحذف العائد من الصفة إلى الموصوف كما حذف القول.

﴿بلدة طيبة﴾ تقديره هذه بلدة طيبة والله رب غفور.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن قصة سبإ بما دل على حسن عاقبة الشكور وسوء عاقبة الكفور فقال ﴿لقد كان لسبإ﴾ وهو أبو عرب اليمن كلها وقد تسمى به القبيلة وفي الحديث عن فروة بن مسيك أنه قال سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبإ أ رجل هو أم امرأة فقال هو رجل من العرب ولد له عشرة تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار وحمير فقال رجل من القوم ما أنمار قال الذين منهم خثعم وبجيلة وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان فالمراد بسبأ هاهنا القبيلة الذين هم أولاد سبإ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان ﴿في مسكنهم﴾ أي في بلدهم ﴿آية﴾ أي حجة على وحدانية الله عز اسمه وكمال قدرته وعلامة على سبوغ نعمه ثم فسر سبحانه الآية فقال ﴿جنتان عن يمين وشمال﴾ أي بستانين عن يمين من أتاهما وشماله وقيل عن يمين البلد وشماله وقيل أنه لم يرد جنتين اثنتين والمراد كانت ديارهم على وتيرة واحدة إذا كانت البساتين عن يمينهم وشمالهم متصلة بعضها ببعض وكان من كثرة النعم أن المرأة كانت تمشي والمكتل على رأسها فيمتلىء بالفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا وقيل الآية المذكورة هي أنه لم يكن في قريتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الغريب إذا دخل بلدهم وفي ثيابه قمل ودواب ماتت عن ابن زيد وقيل إن المراد بالآية خروج الأزهار والثمار من الأشجار على اختلاف ألوانها وطعومها وقيل إنما كانت ثلاث عشرة قرية في كل قرية نبي يدعوهم إلى الله سبحانه يقولون لهم ﴿كلوا من رزق ربكم واشكروا له﴾ أي كلوا مما رزقكم الله في هذه الجنان واشكروا له يزيدكم من نعمه واستغفروه يغفر لكم ﴿بلدة طيبة﴾ أي هذه بلدة مخصبة نزهة أرضها عذبة تخرج النبات وليست بسبخة وليس فيها شيء من الهوام المؤذية قيل أراد به صحة هواها وعذوبة مائها وسلامة تربتها وأنه ليس فيها حر يؤذي في القيظ ولا برد يؤذي في الشتاء ﴿ورب غفور﴾ أي كثير المغفرة للذنوب ﴿فأعرضوا﴾ عن الحق ولم يشكروا الله سبحانه ولم يقبلوا من دعاهم إلى الله من أنبيائه ﴿فأرسلنا عليهم سيل العرم﴾ وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبإ من أودية اليمن وكان هناك جبلان يجتمع ماء المطر والسيول بينهما فسدوا ما بين الجبلين فإذا احتاجوا إلى الماء نقبوا السد بقدر الحاجة فكانوا يسقون زروعهم وبساتينهم فلما كذبوا رسلهم وتركوا أمر الله بعث الله جرذا نقبت ذلك الردم وفاض الماء عليهم فأغرقهم عن وهب وقد مر تفسير العرم وقال ابن الأعرابي العرم السيل الذي لا يطاق ﴿وبدلناهم بجنتيهم﴾ اللتين فيهما أنواع الفواكه والخيرات ﴿جنتين﴾ أخراوين سماها جنتين لازدواج الكلام كما قال ومكروا ومكر الله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ﴿ذواتي أكل خمط وأثل﴾ أي صاحبتي أكل وهو اسم لثمر كل شجرة وثمر الخمط البرير قال ابن عباس والخمط هو الأراك وقيل هو شجر الغضا وقيل هو كل شجر له شوك والأثل الطرفاء عن ابن عباس وقيل ضرب من الخشب عن قتادة وقيل هو السمر ﴿و شيء من سدر قليل﴾ يعني أن الأثل والخمط كانا أكثر فيهما من السدر وهو النبق قال قتادة كان شجرهم خير شجر فصيره الله شر شجر بسوء أعمالهم ﴿ذلك﴾ أي ما فعلنا بهم ﴿جزيناهم بما كفروا﴾ أي بكفرهم ﴿وهل نجازي﴾ بهذا الجزاء ﴿إلا الكفور﴾ الذي يكفر نعم الله وقد استدل الخوارج بهذا على أن مرتكب الكبيرة كافر وهذا الاستدلال غير سديد من حيث إنه سبحانه إنما بين بذلك أنه لا يجازي بهذا النوع من العذاب الذي هو الاستئصال إلا الكافر ويجوز أن يعذب الفاسق بغير ذلك العذاب وقيل إن معناه هل نجازي بجميع سيئاته إلا الكافر لأن المؤمن قد يكفر عنه بعض سيئاته وقيل إن المجازاة من التجازي وهو التقاضي أي لا يقتضي ولا يرتجع ما أعطي إلا الكافر وإنهم لما كفروا النعمة اقتضوا ما أعطوا أي ارتجع منهم عن أبي مسلم ﴿وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة﴾ أي وقد كان من قصتهم أنا جعلنا بينهم وبين قرى الشام التي باركنا فيها بالماء والشجر قرى متواصلة وكان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا وكانوا لا يحتاجون إلى زاد من وادي سبإ إلى الشام ومعنى الظاهرة أن الثانية كانت ترى من الأولى لقربها منها ﴿وقدرنا فيها السير﴾ أي جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا واحدا نصف يوم وقلنا لهم ﴿سيروا فيها﴾ أي في تلك القرى ﴿ليالي وأياما﴾ أي ليلا شئتم المسير أو نهارا ﴿آمنين﴾ من الجوع والعطش والتعب ومن السباع وكل المخاوف وفي هذا إشارة إلى تكامل نعمه عليهم في السفر كما أنه كذلك في الحضر ثم أخبر سبحانه أنهم بطروا وبغوا ﴿فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا﴾ أي اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب إليها الرواحل ونقطع المنازل وهذا كما قالت بنو إسرائيل لما ملوا النعمة أخرج إلينا مما تنبت الأرض من بقلها بدلا من المن والسلوى ﴿وظلموا أنفسهم﴾ بارتكاب المعاصي والكفر ﴿فجعلناهم أحاديث﴾ لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ويضربون بهم المثل فيقولون تفرقوا أيادي سبإ إذا تشتتوا أعظم التشتت ﴿ومزقناهم كل ممزق﴾ أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل تفريق ﴿إن في ذلك لآيات﴾ أي دلالات ﴿لكل صبار﴾ على الشدائد ﴿شكور﴾ على النعماء وقيل لكل صبار عن المعاصي شكور للنعم بالطاعات.

القصة:

عن الكلبي عن أبي صالح قال ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له مزيقياء بن ماء السماء وكانت قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة فأقاموا بها وما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم قد أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا قالوا فما ذا تأمرين قالت من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد وكانت أزد عمان ثم قالت من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر وكانت خزاعة ثم قالت من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل وكانت الأوس والخزرج ثم قالت من كان منكم يريد الخمر والخمير والملك والتأمير وملابس التاج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام وكان الذين سكنوها آل جفنة بن غسان ثم قالت من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليلحق بأرض العراق وكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق.