الآيات 19-20

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿19﴾ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴿20﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة ﴿يا بشرى﴾ بألف بغير ياء إلا أن حمزة والكسائي وخلف يميلون الراء وعاصم لا يميل والباقون يا بشراي بإثبات الياء وإثبات الألف وفي الشواذ قراءة الجحدري وابن أبي إسحاق والحسن يا بشرى.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ يا بشراي فأضاف إلى الياء التي للمتكلم كان للألف التي هي حرف الإعراب عنده موضعان من وجهين (أحدهما) أن الألف في موضع نصب من حيث كان نداء مضافا (والآخر) أن يكون في موضع كسر من حيث كان بمنزلة حرف الإعراب الذي في غلامي والدليل على استحقاقها لهذا الموضع قولهم كسرت في فلو لا أن حرف الإعراب الذي ولي ياء الإضافة في موضع كسر ما كسرت الفاء من في فلما كسرت كما كسرت من قولهم بفيك وكما فتحت من قولهم رأيت فاك لما كانت في موضع الفتحة التي في قولك رأيت غلامك وانضمت في قولك هذا فوك لاتباعه الضمة المقدرة فيها كالتي في قولك هذا غلامك كذلك كسرت في قولهم كسرت في وهذا يدلك على أنه ليس يعرب من مكانين أ لا ترى أنها تبعت حركة غير الإعراب في قولك كسرت في يا هذا كما تبعت حركة الإعراب في رأيت فاك ومن قال ﴿يا بشرى﴾ احتمل وجهين (أحدهما) أن يكون في موضع ضم مثل يا رجل لاختصاصه بالنداء (والآخر) أن يكون في موضع نصب وذلك لأنك أشعت النداء ولم تختص به كما فعلت في الوجه الأول فصار كقوله يا حسرة على العباد إلا أن التنوين لم يلحق ﴿بشرى﴾ لأنها لا تنصرف فأما من قرأ يا بشرى فإن تلك لغة هذيل قال أبو ذؤيب:

سبقوا هوي وأعنقوا لسبيلهم

فتخرموا ولكل جنب مهجع وقال آخر:

يطوف بي عكب في معد

ويطعن بالصملة في قفيا

فإن لم تثأرا لي من عكب

فلا رويتما أبدا صديا وأمثاله كثيرة.

اللغة:

الوارد الذي يتقدم الرفقة إلى الماء ليسقي وتقول أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر لتملأها ودلوتها إذا أخرجتها ملأى والبضاعة قطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشيء إذا قطعته ومنه المبضع لأنه يبضع به العرق والشري البيع قال الشاعر:

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامة والثمن بدل الشيء من العين أو الورق ويقال في غيرهما أيضا مجازا والبخس النقص من الحق يقال بخسه في الكيل أو الوزن إذا نقصه من حقه فيهما.

الإعراب:

قال الزجاج معنى النداء في ﴿يا بشرى﴾ وما في معناها مما لا يجب ولا يعقل فإنه على تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت أعجبوا يا أيها العجب هذا من حينك وكذلك إذا قلت يا بشرى فكأنك قلت أبشروا يا أيتها البشرى هذا من إبانك وبضاعة منصوب على الحال وتقديره وأسروه جاعليه بضاعة ودراهم في موضع جر بأنه بدل من ثمن ومعدودة صفة الدراهم و﴿كانوا فيه من الزاهدين﴾ فيه ليست من صلة الزاهدين والمعنى وكانوا من الزاهدين ثم بين في أي شيء زهدوا فقال فيه فكأنه قال زهدوا فيه وهذا في الظروف جائز ولا يجوز ذلك في المفعولات لو قلت كنت زيدا من الضاربين لم يجز لأن زيدا من صلة الضاربين ولا تتقدم الصلة على الموصول.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد إلقائه في الجب فقال ﴿وجاءت سيارة﴾ أي جماعة مارة قالوا وإنما جاءت من قبل مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير الطريق حتى نزلوا قريبا من الجب وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران وإنما هو للرعاة والمجتازة وكان ماؤه ملحا فعذب وقيل كان الجب بظهر الطريق ﴿فأرسلوا واردهم﴾ أي فبعثوا من يطلب لهم الماء يقال بعثوا رجلا يقال له مالك بن زعر ليطلب لهم الماء ﴿فأدلى دلوه﴾ أي أرسل دلوه في البئر ليستقي فتعلق يوسف (عليه السلام) بالحبل فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس وقال كعب الأحبار وكان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساقين والعضدين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم (عليه السلام) يوم خلقه الله عز وجل وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية ويقال أنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن فلما رآه المدلي ﴿قال يا بشرى هذا غلام﴾ عن قتادة والسدي وقيل أنه نظر في البئر لما ثقل عليه الدلو فرأى يوسف (عليه السلام) فقال هذا غلام فأخرجوه عن الجبائي وقيل أن بشرى رجل من أصحابه ناداه عن السدي ﴿وأسروه بضاعة﴾ أي وأسر يوسف الذين وجدوه من رفقائهم من التجار مخافة أن يطلبوا منهم الشركة معهم في يوسف فقالوا هذا بضاعة لأهل الماء دفعوه إلينا لنبيعه لهم عن مجاهد والسدي وقيل معناه وأسر إخوته يكتمون أنه أخوهم فقالوا هو عبد لنا قد أبق واختفى منا في هذا الموضع وقالوا له بالعبرانية لئن قلت أنا أخوهم قتلناك فتابعهم على ذلك لئلا يقتلوه عن ابن عباس ﴿والله عليم بما يعملون﴾ أي بما يعمل إخوة يوسف ﴿وشروه بثمن بخس﴾ أي باعوه بثمن ناقص قليل عن عكرمة والشعبي وقيل حرام لأن ثمن الحر حرام عن الضحاك ومقاتل والسدي وسمي الحرام بخسا لأنه لا بركة فيه فهو منقوص البركة ﴿دراهم معدودة﴾ أي قليلة وذكر العدد عبارة عن القلة وقيل أنهم كانوا لا يزنون من الدراهم ما دون الأوقية وكانوا يزنون الأوقية وهي الأربعون فما زاد عليها وكانت الدراهم عشرين درهما عن ابن عباس وابن مسعود والسدي وهو المروي عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال وكانوا عشرة فاقتسموها درهمين درهمين وقيل كانت اثنين وعشرين درهما عن مجاهد وقيل كانت أربعين درهما عن عكرمة وقيل ثمانية عشر درهما عن أبي عبد الله (عليه السلام) واختلف فيمن باعه فقيل أن إخوة يوسف باعوه وكان يهوذا منتبذا ينظر إلى يوسف فلما أخرجوه من البئر أخبر إخوته فأتوا مالكا وباعوه منه عن ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين وقيل باعه الواجدون بمصر عن قتادة وقيل أن الذين أخرجوه من الجب باعوه من السيارة عن الأصم والأصح الأول وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال فلم يزل مالك بن زغر وأصحابه يتعرفون من الله الخير في سفرهم ذلك حتى فارقوا يوسف ففقدوا ذلك قال وتحرك قلب مالك ليوسف فأتاه فقال أخبرني من أنت فانتبه له يوسف ولم يكن مالك يعرفه فقال أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فألزمه مالك وبكى وكان مالك رجلا عاقرا لا يولد له فقال ليوسف لو دعوت ربك أن يهب لي ولدا فدعا يوسف ربه أن يجعل له ولدا ويجعلهم ذكورا فولد له اثنا عشر بطنا في كل بطن غلامان ﴿وكانوا فيه من الزاهدين﴾ قيل يعني به أن الذين اشتروه كانوا من الزاهدين في شرائه لأنهم وجدوا علامة الأحرار وأخلاق أهل البر والنبل فلم يرغبوا فيه مخافة أن يلحقهم تبعة في استعباده وقيل معناه وكانوا من الزاهدين في نفس يوسف لم يشروه للفجور وإنما اشتروه للربح وقيل المراد به الذين باعوه من إخوته كانوا غير راغبين في يوسف ولا في ثمنه ولكنهم باعوه حتى لا يظهر ما فعلوا به وكان قصدهم تبعيده وقيل كانوا من الزاهدين في يوسف لأنهم لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه ولا تنافي بين هذه الأقوال فيجوز حمل الآية على جميعها وقيل إن الذين باعوه بمصر كانوا من الزاهدين في ثمنه لأنهم علموا أنه لقطة وليست ببضاعة.