الآيات 118-123

وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴿118﴾ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿119﴾ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿120﴾ وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ﴿121﴾ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ﴿122﴾ وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿123﴾

القراءة:

قرأ ﴿يرجع الأمر﴾ بضم الياء وفتح الجيم وكسرها نافع وحفص والباقون يرجع بفتح الياء وقرأ عما تعملون بالتاء هنا وفي آخر النمل أهل المدينة والشام ويعقوب وحفص والباقون بالياء.

الحجة:

من ضم الياء من ﴿يرجع﴾ فلقوله ﴿ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق﴾ والمعنى رد أمرهم إلى الله ومن فتح الياء فلقوله ﴿والأمر يومئذ لله﴾ والمعنيان متقاربان ومن قرأ بالتاء في ﴿تعملون﴾ جعل الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمته وهو أعم فائدة ومن قرأ بالياء وجهه إلى من تقدم ذكره من الكفار وفيه ضرب من التهديد.

اللغة:

القصص الخبر عن الأمور بما يتلو بعضه بعضا لأنه من قصة يقصه إذا اتبع أثره لأنه يتبع أثر من يخبر عنه والنبأ الخبر بما فيه عظيم الشأن يقولون لهذا الأمر نبأ والتثبيت تمكين إقامة الشيء من الثبوت يقال ثبته بتسكينه وثبته بتمكينه وثبته بالدلالة على ثبوته وثبته بالخبر عن وجوده والفؤاد القلب مأخوذ من المفتاد وهو المشوي قال:

كأنه خارجا من جنب صفحته

سفود شرب نسوة عند مفتاد والمكانة الطريقة التي يتمكن من العمل عليها وله مكانة عند السلطان أي جاه وقدر والانتظار طلب الإدراك لما يأتي من الأمر لأنه من النظر والفرق بين الانتظار والترجي أن الترجي للخير خاصة والانتظار في الخير والشر.

الإعراب:

﴿إلا من رحم ربك﴾ قال الزجاج هو استثناء على معنى لكن وتقديره لكن من رحم ربك فإنه غير مختلف وقوله ﴿لأملأن جهنم﴾ جواب القسم وتقديره يمينا لأملأن كما تقول حلفي لأضربنك وبدا لي لأضربك وكل فعل كان تأويله كتأويل بلغني أو قيل لي أو انتهى إلي فإن اللام وإن يصلحان فيه فتقول بدا لي لأضربنك وبدا لي أن أضربك ولو قيل وتمت كلمة ربك أن يملأ جهنم كان صوابا و﴿كلا نقص عليك﴾ نصب على المصدر وتقديره وكل القصص نقص عليك وقيل أنه نصب على الحال فقدم الحال قبل العامل كما تقول كلا ضربت القوم ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول به وتقديره وكل الذي يحتاج إليه نقص عليك ويكون ﴿ما نثبت به فؤادك﴾ بدلا منه قاله الزجاج وقوله ﴿إنا عاملون﴾ ﴿إنا منتظرون﴾ لو دخلت الفاء فقال فإنا لأفاد أن الثاني لأجل الأول وحيث لم يدخل لم يفد ذلك.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته فقال ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة﴾ أي على ملة واحدة ودين واحد فيكونون مسلمين صالحين عن قتادة وذلك بأن يلجئهم إلى الإسلام بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه لكن ذلك ينافي التكليف ويبطل الغرض بالتكليف لأن الغرض به استحقاق الثواب والإلجاء يمنع من استحقاق الثواب فلذلك لم يشأ الله ذلك ولكنه شاء أن يؤمنوا باختيارهم ليستحقوا الثواب وقيل معناه لو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة في الجنة على سبيل التفضل لكنه اختار لهم أعلى الدرجتين فكلفهم ليستحقوا الثواب عن أبي مسلم وقيل معناه لو شاء لرفع الخلاف فيما بينهم ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ في الأديان بين يهودي ونصراني ومجوسي وغير ذلك عن مجاهد وقتادة وعطا والأعمش والحسن في إحدى الروايتين عنه وفي الرواية الأخرى عنه أنهم مختلفون في الأرزاق والأحوال ولتسخير بعضهم لبعض وقيل معناه يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا من غير نظر فإن قولك خلف بعضهم بعضا وقولك اختلفوا سواء كما أن قولك قتل بعضهم بعضا وقولك اقتتلوا سواء عن أبي مسلم ﴿إلا من رحم ربك﴾ من المؤمنين فإنهم لا يختلفون ويجتمعون على الحق عن ابن عباس والمعنى لا يزالون مختلفين بالباطل إلا من رحمهم الله بفعل اللطف لهم الذي يؤمنون عنده ويستحقون به الثواب فإن من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل ﴿ولذلك خلقهم﴾ اختلف في معناه فقيل يريد وللرحمة خلقهم عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وهذا هو الصحيح واعترض على ذلك بأن قيل لو أراد الله ذلك لقال ولتلك خلقهم لأن الرحمة مؤنثة وهذا باطل لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي فإذا ذكر فعلى معنى التفضل والإنعام وقد قال سبحانه هذا رحمة من ربي وإن رحمة الله قريب ومثله قول امرىء القيس:

برهرهة رودة رخصة

كخزعوبة البانة المنفطر

ولم يقل المنفطرة لأنه ذهب إلى الغصن وقال:

قامت تبكيه على قبره

من لي من بعدك يا عامر

تركتني في الدار غربة

قد ذل من ليس له ناصر ولم يقل ذات غربة لأنه أراد شخصا ذا غربة.

وقالت الخنساء:

فذلك يا هند الرزية فاعلمي

ونيران حرب حين شب وقودها أراد الرزء وفي أمثال ذلك كثرة على أن قوله ﴿إلا من رحم ربك﴾ كما يدل على الرحمة يدل أيضا على أن يرحم فلا يمتنع أن يكون المراد لأن يرحموا خلقهم وقيل إن المعنى ولاختلاف خلقهم واللام للعاقبة يريد أن الله خلقهم وعلم أن عاقبتهم تؤل إلى الاختلاف المذموم كما قال ولقد ذرأنا لجهنم عن الحسن وعطا ومالك ولا يجوز على هذا أن يكون اللام للغرض لأنه تعالى لا يجوز أن يريد منهم الاختلاف المذموم إذ لو أراد ذلك منهم لكانوا مطيعين له في ذلك الاختلاف لأن الطاعة حقيقتها موافقة الإرادة والأمر ولو كانوا كذلك لما استحقوا عقابا وأما إذا حمل معنى الاختلاف على ما قاله أبو مسلم فيجوز أن تكون اللام للغرض وقيل إن ذلك إشارة إلى اجتماعهم على الإيمان وكونهم فيه أمة واحدة ولا محالة أن الله سبحانه لهذا خلقهم ويؤيد هذا قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقال المرتضى قدس الله روحه قد قال قوم أن معنى الآية ولو شاء ربك أن يدخل الناس بأجمعهم الجنة فيكونوا في وصول جميعهم إلى النعيم أمة واحدة لفعل وأجروا هذه الآية مجرى قوله ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها في أنه أراد هديها إلى طريق الجنة فعلى هذا التأويل يمكن أن يكون لفظة ذلك إشارة إلى إدخالهم أجمعين الجنة لأنه تعالى إنما خلقهم للمصير إليها والوصول إلى نعيمها ﴿وتمت كلمة ربك﴾ أي وصل وحيه ووعيده الذي لا خلف فيه بتمامه إلى عباده وقيل تمت كلمة ربك صدقا بأن وقع مخبرها على ما أخبر به عن الجبائي وقيل معناه وجب قول ربك عن ابن عباس وقيل مضى حكم ربك عن الحسن ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ بكفرهم ﴿وكلا﴾ أي وكل القصص ﴿نقص عليك من أنباء الرسل﴾ أي من أخبارهم ﴿ما نثبت به فؤادك﴾ أي ما نقوي به قلبك ونطيب به نفسك ونزيدك به ثباتا على ما أنت عليه من الإنذار والصبر على أذى قومك الكفار ﴿وجاءك في هذه الحق﴾ أي في هذه السورة عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقيل في هذه الدنيا عن قتادة وقيل في هذا الأنباء عن الجبائي والحق الصدق من الأنباء والوعد والوعيد وقيل معناه وجاءك في ذكر هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع الحق في أن الخلق يجازون بانصبائهم في قوله وإنا لموفوهم نصيبهم وإن كلا لما ليوفينهم وقد جاء في القرآن كله الحق ولكنه ذكرها هنا توكيدا وليس إذا قيل قد جاءك في هذا الحق وجب أن يكون لم يأتك الحق إلا فيه ولكن بعض الحق أوكد من بعض عن الزجاج ﴿وموعظة﴾ أي وجاءك موعظة تعظ الجاهلين بالله وتزجر الناس عن المعاصي ﴿وذكرى للمؤمنين﴾ تذكرهم الآخرة ﴿وقل﴾ يا محمد ﴿للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم﴾ هذا مثل قوله اعملوا ما شئتم ﴿إنا عاملون﴾ على ما أمرنا الله تعالى به وقد مر تفسير هذه الآية فيما مضى ﴿وانتظروا﴾ أي توقعوا ما يعدكم ربكم على الكفر من العقاب ﴿إنا منتظرون﴾ ما يعدنا على الإيمان من الثواب وقيل انتظروا ما يعدكم الشيطان من الغرور إنا منتظرون ما يعدنا ربنا من النصر والعلو عن ابن جريج ﴿ولله غيب السماوات والأرض﴾ معناه ولله علم ما غاب في السماوات والأرض لا يخفى عليه شيء منه عن الضحاك وقيل معناه والله مالك ما غاب في السماوات والأرض وقيل معناه ولله خزائن السماوات والأرض عن ابن عباس ووجدت بعض المشايخ ممن يتسم بالعدوان والتشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره فقال هذا يدل على أن الله سبحانه يختص بعلم الغيب خلافا لما تقول الرافضة أن الأئمة يعلمون الغيب ولا شك أنه عنى بذلك من يقول بإمامة الاثني عشر ويدين بأنهم أفضل الأنام بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإن هذا دأبه وديدنه فيهم يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم وينسب الفضائح والقبائح إليهم ولا نعلم أحدا منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق فإنما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد وهذه صفة القديم سبحانه العالم لذاته لا يشركه فيها أحد من المخلوقين ومن اعتقد أن غير الله سبحانه يشركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملة الإسلام فأما ما نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ورواه عنه الخاص والعام من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل قوله يومىء به إلى صاحب الزنج كأني به يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ولا صهيل خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام وقوله يشير إلى مروان أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقى الأمة منه ومن ولده موتا أحمر وما نقل من هذا الفن عن أئمة الهدى (عليهم السلام) من أولاده مثل ما قاله أبو عبد الله (عليه السلام) لعبد الله بن الحسن وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية ليبايعوا ابنه محمدا والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم وأشار إلى العباسية وإن ابنيك لمقتولان ثم نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال له أ رأيت صاحب الرداء الأصفر يعني أبا جعفر المنصور قال نعم فقال إنا والله نجده يقتله فكان كما قال ومثل قول الرضا (عليه السلام) بورك قبر بطوس وقبران ببغداد فقيل له قد عرفنا واحدا فما الآخر فقال ستعرفونه ثم قال قبري وقبر هارون هكذا وضم إصبعيه وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي وقد ناوله قبضة من التمر لو زادك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لزدناك وقوله في حديث علي بن أحمد الوشاء حين قدم مرو من الكوفة معك حلة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك وقالت اشتر لي بثمنها فيروزجا والحديث مشهور إلى غير ذلك مما روي عنهم (عليهم السلام) فإن جميع ذلك متلقى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مما أطلعه الله عليه فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنه يعتقد كونهم عالمين للغيب وهل هذا إلا سبب قبيح وتضليل لهم بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير والله يحكم بينه وبينهم وإليه المصير ﴿وإليه يرجع الأمر كله﴾ أي إلى حكمه يرجع في المعاد كل الأمور لأن في الدنيا قد يملك غيره بعض الأمر والنهي والنفع والضر ﴿فاعبده وتوكل عليه﴾ يريد أن من له ملك السماوات والأرض وإليه يرجع جميع الأمور فحقيق أن يعبد ويتذلل له ويتوكل عليه ويوثق به ﴿وما ربك بغافل﴾ أي بساه ﴿عما تعملون﴾ أي عن أعمال عباده بل هو عالم بها ومجاز كلا منهم عليها ما يستحقه من ثواب وعقاب فلا يحزنك يا محمد إعراضهم عنك وتركهم القبول منك وروي عن كعب الأحبار أنه قال خاتمة التوراة خاتمة هود.