الآيات 6-10

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴿6﴾ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴿7﴾ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿8﴾ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿9﴾ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿10﴾

القراءة:

قرأ يعقوب فأصلحوا بين إخوتكم بالتاء على الجمع وهو قراءة ابن سيرين والباقون ﴿بين أخويكم﴾ على التثنية لقوله ﴿طائفتان﴾ وفي الشواذ قراءة زيد بن ثابت والحسن إخوانكم بالألف والنون على الجمع وقد ذكرنا في سورة النساء اختلافهم في قوله فتبينوا والوجه في القراءتين والمروي عن الباقر (عليه السلام) فتثبتوا بالثاء والتاء.

اللغة:

العنت المشقة يقال عنت الدابة تعنت عنتا إذا حدث في قوائمه كسر بعد جبر لا يمكنه معه الجري قال ابن الأنباري أصل العنت التشديد يقال فلان يعنت فلانا أي يشدد عليه ويلزمه ما يصعب عليه ثم نقل إلى معنى الهلاك والقسط العدل ونحوه الأقساط والقسوط والقسط بالفتح الجور والعدول عن الحق فأصل الباب العدول فمن عدل إلى الحق فقد أقسط ومن عدل عن الحق فقد قسط.

الإعراب:

﴿أن فيكم رسول الله﴾ خبر أن في الظرف الذي هو فيكم عند النحويين وفيه نظر لأن من حق الخبر أن يكون الخبر مفيدا فلا يقال النار حارة لعدم الفائدة والوجه عندي أن يكون لو مع ما في حيزه خبر أن والمعنى واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ويجوز على الوجه الأول أن يكون المراد التنبيه لهم على مكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يقول القائل للرجل يريد أن ينبهه على شيء فلان حاضر والمخاطب يعلم حضوره ولو قال أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكم احتمل أن يكون غير رسول الله فيهم ممن هو بمنزلته فإذا قال إن فيكم رسول الله لا يحتمل ذلك على هذا فقوله ﴿لو يطيعكم﴾ لو مع ما في حيزه في محل رفع بأنه خبر أن خبر بعد خبر ﴿فضلا من الله﴾ مفعول له والتقدير فعل الله ذلك لكم فضلا منه ونعمة ويجوز أن يكون العامل فيه الراشدون وما فيه من الفعل أي رشدا وفضلا من الله وقوله ﴿بجهالة﴾ و﴿بالعدل﴾ كلاهما في موضع نصب على الحال والعامل في الأول فتصيبوا وفي الثاني فأصلحوا.

النزول:

قوله ﴿إن جاءكم فاسق﴾ نزل في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحا به وكانت بينهم عداوة في الجاهلية فظن أنهم هموا بقتله فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال إنهم منعوا صدقاتهم وكان الأمر بخلافه فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم أن يغزوهم فنزلت الآية عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل إنها نزلت فيمن قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن مارية أم إبراهيم يأتيها ابن عم لها قبطي فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) وقال يا أخي خذ هذا السيف فإن وجدته عندها فاقتله فقال يا رسول الله أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة أمضي لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب قال علي (عليه السلام) فأقبلت متوشحا بالسيف فوجدته عندها فاخترطت السيف فلما عرف إني أريده أتى نخلة فرقي إليها ثم رمى بنفسه على قفاه وشغر برجليه فإذا أنه أجب أمسح ما له مما للرجال قليل ولا كثير فرجعت فأخبرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الحمد لله الذي يصرف عنا السوء أهل البيت وقوله ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ نزل في الأوس والخزرج وقع بينهما قتال بالسعف والنعال عن سعيد بن جبير وقيل نزل في رهط عبد الله بن أبي سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس وسببه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف على عبد الله بن أبي فراث حمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمسك عبد الله أنفه وقال إليك عني فقال عبد الله بن رواحة لحمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب ريحا منك ومن أبيك فغضب قومه وأعان ابن رواحة قومه وكان بينهما ضرب بالحديد والأيدي والنعال.

المعنى:

ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال ﴿يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ﴾ أي بخبر عظيم الشأن والفاسق الخارج عن طاعة الله إلى معصيته ﴿فتبينوا﴾ صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بخبره ومن قال فتثبتوا فمعناه توقفوا فيه وتأنوا حتى يثبت عندكم حقيقته ﴿أن تصيبوا قوما بجهالة﴾ أي حذرا من أن تصيبوا قوما في أنفسهم وأموالهم بغير علم بحالهم وما هم عليه من الطاعة والإسلام ﴿فتصبحوا على ما فعلتم﴾ من إصابتهم بالخطأ ﴿نادمين﴾ لا يمكنكم تداركه وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل لأن المعنى إن جاءكم من لا تأمنون أن يكون خبره كذبا فتوقفوا فيه وهذا التعليل موجود في خبر من يجوز كونه كاذبا في خبره وقد استدل بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا من حيث أن الله سبحانه أوجب التوقف في خبر الفاسق فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه وهذا لا يصح لأن دليل الخطاب لا يعول عليه عندنا وعند أكثر المحققين ﴿واعلموا أن فيكم رسول الله﴾ أي فاتقوا الله أن تكذبوه أو تقولوا باطلا عنده فإن الله تعالى يخبره بذلك فتفضحوا وقيل معناه واعلموا بما أخبره الله تعالى من كذب الوليد أن فيكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذه إحدى معجزاته ﴿لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم﴾ أي لو فعل ما تريدونه في كثير من الأمر لوقعتم في عنت وهو الإثم والهلاك فسمى موافقته لما يريدونه طاعة لهم مجازا ألا ترى أن الطاعة تراعى فيها الرتبة فلا يكون الإنسان مطيعا لمن دونه وإنما يكون مطيعا لمن فوقه إذا فعل ما أمره به ثم خاطب المؤمنين الذين لا يكذبون فقال ﴿ولكن الله حبب إليكم الإيمان﴾ أي جعله أحب الأديان إليكم بأن أقام الأدلة على صحته وبما وعد من الثواب عليه ﴿وزينه في قلوبكم﴾ بالألطاف الداعية إليه ﴿وكره إليكم الكفر﴾ بما وصف من العقاب عليه بوجوه الألطاف الصارفة عنه ﴿والفسوق﴾ أي الخروج عن الطاعة إلى المعاصي ﴿والعصيان﴾ أي جميع المعاصي وقيل الفسوق الكذب عن ابن عباس وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ثم عاد سبحانه إلى الخبر عنهم فقال ﴿أولئك هم الراشدون﴾ يعني الذين وصفهم بالإيمان وزينه في قلوبهم هم المهتدون إلى محاسن الأمور وقيل هم الذين أصابوا الرشد واهتدوا إلى الجنة ﴿فضلا من الله ونعمة﴾ أي تفضلا مني عليهم ورحمة مني لهم عن ابن عباس ﴿والله عليم﴾ بالأشياء كلها ﴿حكيم﴾ في جميع أفعاله وفي هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر من وجوه (منها) أنه إذا حبب في قلوبهم الإيمان وكره الكفر فمن المعلوم أنه لا يحبب ما لا يحبه ولا يكره ما لا يكرهه (ومنها) أنه إذ ألطف في تحبيب الإيمان بألطافه دل ذلك على ما نقوله في اللطف ثم قال ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا﴾ أي فريقان من المؤمنين قاتل أحدهما صاحبه ﴿فأصلحوا بينهما﴾ حتى يصطلحا ولا دلالة في هذا على أنهما إذا اقتتلا بقيا على الإيمان ويطلق عليهما هذا الاسم ولا يمتنع أن يفسق إحدى الطائفتين أو تفسقا جميعا ﴿فإن بغت إحداهما على الأخرى﴾ بأن تطلب ما لا يجوز لها وتقاتل الأخرى ظالمة لها متعدية عليها ﴿فقاتلوا التي تبغي﴾ لأنها هي الظالمة المتعدية دون الأخرى ﴿حتى تفيىء إلى أمر الله﴾ أي حتى ترجع إلى طاعة الله وتترك قتال الطائفة المؤمنة ﴿فإن فاءت﴾ أي رجعت وتابت وأقلعت وأنابت إلى طاعة الله ﴿فأصلحوا بينهما﴾ أي بينها وبين الطائفة التي هي على الإيمان ﴿بالعدل﴾ أي بالقسط حتى يكونوا سواء لا يكون من إحديهما على الأخرى جور ولا شطط فيما يتعلق بالضمانات من الأروش ﴿وأقسطوا﴾ أي اعدلوا ﴿إن الله يحب المقسطين﴾ العادلين الذين يعدلون فيما يكون قولا وفعلا ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ في الدين يلزم نصرة بعضهم بعضا ﴿فأصلحوا بين أخويكم﴾ أي بين كل رجلين تقاتلا وتخاصما ومعنى الاثنين يأتي على الجمع لأن تأويله بين كل أخوين يعني فأنتم إخوة للمتقاتلين فأصلحوا بين الفريقين أي كفوا الظالم عن المظلوم وأعينوا المظلوم ﴿واتقوا الله﴾ في ترك العدل والإصلاح أو في منع الحقوق ﴿لعلكم ترحمون﴾ أي لكي ترحموا قال الزجاج سمي المؤمنين إذا كانوا متفقين في دينهم إخوة لاتفاقهم في الدين ورجوعهم إلى أصل النسب لأنهم لأم واحدة وهي حواء وروى الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كروب يوم القيامة ومن ستر مسلما يستره الله يوم القيامة أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) سر ميلا عد مريضا سر ميلين شيع جنازة سر ثلاثة أميال أجب دعوة سر أربعة أميال زر أخا في الله سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف سر ستة أميال انصر المظلوم وعليك بالاستغفار.

النظم:

وجه اتصال قوله ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ﴾ بما قبله أنه لما أمر بطاعة الله ورسوله بين عقيبه أن الرسول لا يجوز أن يتبع أهواءهم بل ينبغي أن يعمل بما عنده ووجه اتصال قوله ﴿ولكن الله حبب إليكم الإيمان﴾ لئلا تقعوا في العنت وإنما قلنا ذلك لأن لكن لا بد أن يتقدمه نفي إذا كان ما بعده إثباتا وقوله ﴿لو يطيعكم﴾ ﴿لعنتم﴾ معناه أنه لم يطعكم فما عنتم.