الآيات 47-60

وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴿47﴾ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴿48﴾ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿49﴾ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿50﴾ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿51﴾ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴿52﴾ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴿53﴾ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴿54﴾ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴿55﴾ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴿58﴾ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ﴿59﴾ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴿60﴾

القراءة:

في الشواذ قراءة يحيى والأعمش ذو القوة المتين بالخفض.

الحجة:

قال ابن جني هذا يحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون وصفا للقوة وذكره على معنى الحبل يريد قوي الحبل كقوله فقد استمسك بالعروة الوثقي (والآخر) أن يكون المراد الرفع وصفا للرزاق إلا أنه جاء على لفظ القوة لجوارها إياه على قولهم:

هذا جحر ضب خرب فهذا ضعيف.

اللغة:

الأيد القوة يقال آد الرجل بأيد أيدا إذا اشتد وقوي والمؤيد الأمر العظيم والإيساع الإكثار من إذهاب الشيء في الجهات والماهد هو الموطىء للشيء وهو المهيىء لما يصلح الاستقرار عليه يقال مهد يمهد مهدا ومهد تمهيدا مثل وطىء توطئة والتواصي أن يوصي القوم بعضهم إلى بعض والوصية التقدمة في الأمر بالأشياء المهمة مع النهي عن المخالفة وأصل الذنوب الدلو الممتلىء ماء يؤنث ويذكر قال:

لنا ذنوب ولكم ذنوب

فإن أبيتم فلنا القليب

وقال علقمة:

وفي كل حي قد خبطت بنعمة

فحق لشاس من نداك ذنوب

المعنى:

﴿والسماء بنيناها بأيد﴾ تقديره وبنينا السماء بنيناها بقوة عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة أي خلقناها ورفعناها على حسن نظامها ﴿وإنا لموسعون﴾ أي قادرون على خلق ما هو أعظم منها عن ابن عباس وقيل معناه وإنا لموسعون الرزق على الخلق بالمطر عن الحسن وقيل معناه وإنا لذو سعة لخلقنا أي قادرون على رزقهم لا نعجز عنه فالموسع ذو الوسع والسعة أي الغني والجدة ﴿والأرض فرشناها﴾ أي وفرشنا الأرض فرشناها أي بسطناها ﴿فنعم الماهدون﴾ نحن إذ فعلنا ذلك للمنافع ومصالح العباد لا لجر نفع ولا لدفع ضرر ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين﴾ أي وخلقنا من كل شيء صنفين مثل الليل والنهار والأرض والسماء والشمس والقمر والجن والإنس والبر والبحر والنور والظلمة عن الحسن ومجاهد وقيل الزوجين الذكر والأنثى عن ابن زيد ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي لكي تعلموا أن خالق الأزواج واحد فرد لا يشبهه شيء ﴿ففروا إلى الله﴾ أي فاهربوا من عقاب الله إلى رحمته وثوابه بإخلاص العبادة له وقيل ففروا إلى الله بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته ويقطعكم عما أمركم به وقيل معناه حجوا عن الصادق (عليه السلام) ﴿إني لكم منه﴾ أي من الله ﴿نذير﴾ مخوف من عقابه ﴿مبين﴾ لكم ما أرسلت به ﴿ولا تجعلوا مع الله إلها آخر﴾ أي لا تعبدوا معه معبودا آخر من الأصنام والأوثان﴿إني لكم منه نذير مبين﴾ والوجه في تكريره أن الثاني منعقد بغير ما انعقد به الأول إذ تقديره إني لكم منه نذير في الامتناع من جعل إله آخر معه وتقدير الأول إني لكم منه نذير في ترك القرار إليه بطاعته فهو كقولك أنذرك أن تكفر بالله أنذرك أن تتعرض لسخط الله والنذير المخبر بما يحذر منه وهو يقتضي المبالغة والمنذر صفة جارية على الفعل والمبين الذي يأتي ببيان الحق من الباطل ثم قال ﴿كذلك﴾ أي الأمر كذلك وهو أنه ﴿ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون﴾ أي لم يأت الذين من قبلهم يعني كفار مكة من الأمم رسول إلا قالوا ساحر محتال بالحيل اللطيفة أو مجنون به جنون فهو مغطى على عقله بما لا يتوجه للإدراك به ثم قال سبحانه ﴿أتواصوا به﴾ أي أوصى أولهم آخرهم بالتكذيب والاستفهام للتوبيخ ﴿بل هم قوم طاغون﴾ معناه لم يتواصوا بذلك لكنهم طاغون طغوا في معصية الله وحملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيب أنبيائي ثم قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿فتول عنهم﴾ أي فأعرض عنهم يا محمد فقد بلغت وأنذرت وهو قوله ﴿فما أنت بملوم﴾ أي في كفرهم وجحودهم بل اللائمة والذم عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه قال المفسرون لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون وظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حل حتى نزلت الآية الثانية وروي بالإسناد عن مجاهد قال خرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) مغتما مشتملا في قميصه فقال لما نزلت ﴿فتول عنهم فما أنت بملوم﴾ لم يبق أحد منا إلا أيقن بالهلكة حين قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿فتول عنهم﴾ فلما نزل ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ طابت نفوسنا ومعناه عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكر تنفعهم عن الكلبي ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ أي لم أخلق الجن والإنس إلا لعبادتي والمعنى لعبادتهم إياي عن الربيع فإذا عبدوني استحقوا الثواب وقيل إلا لآمرهم وأنهاهم وأطلب منهم العبادة عن مجاهد واللام لام الغرض والمراد أن الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات فصار كأنه سبحانه خلقهم للعبادة أنه إذا لم يعبده قوم لم يبطل الغرض ويكون كمن هيأ طعاما لقوم ودعاهم ليأكلوه فحضروا ولم يأكله بعضهم فإنه لا ينسب إلى السفه ويصح غرضه فإن الأكل موقوف على اختيار الغير وكذلك المسألة فإن الله إذا أزاح علل المكلفين من القدرة والآلة والألطاف وأمرهم بعبادته فمن خالف فقد أتي من قبل نفسه لا من قبله سبحانه وقيل معناه إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها عن ابن عباس ﴿ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون﴾ هذا نفي الإيهام عن خلقهم لعبادته أن يكون ذلك لعائدة نفع يعود عليه تعالى فبين أنه لعائدة النفع على الخلق دونه تعالى لاستحالة النفع عليه لأنه غني لنفسه فلا يحتاج إلى غيره وكل الخلق يحتاج إليه وقيل معناه ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم وما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه ﴿إن الله هو الرزاق﴾ لعباده وللخلائق كلهم فلا يحتاج إلى معين ﴿ذو القوة﴾ أي ذو القدرة ﴿المتين﴾ أي القوي الذي يستحيل عليه العجز والضعف إذ هو القادر لنفسه يقال متن متانة فهو متين إذا قوي ﴿فإن للذين ظلموا﴾ أنفسهم بالكفر والمعاصي ﴿ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم﴾ أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا نحو قوم نوح وعاد وثمود ﴿فلا يستعجلون﴾ بإنزال العذاب عليهم فإنهم لا يفوتون ﴿فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون﴾ هذا يدل على أنهم أخروا إلى يوم القيامة والويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في الهلكة.

النظم:

وجه اتصال قوله ﴿والسماء بنيناها بأيد﴾ بما قبله هو أنه في قوم نوح آية وفي السماء أيضا آية فهو متصل به في المعنى.