الآيات 77-83

وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴿77﴾ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴿78﴾ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴿79﴾ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴿80﴾ قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴿81﴾ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ﴿82﴾ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴿83﴾

القراءة:

في الشواذ قراءة سعيد بن جبير والحسن بخلاف وعيسى الثقفي ومحمد بن مروان هن أطهر لكم بالنصب والقراءة المشهورة ﴿أطهر﴾ بالرفع وقراءة شيبة أو أوي بالنصب والقراءة العامة بالرفع وقرأ أهل الحجاز فأسر بأهلك وأن اسر موصولة الهمزة والباقون فأسر وأن أسر بقطع الهمزة العامة حيث كان وقرأ ابن كثير وأبو عمرو إلا امرأتك بالرفع والباقون بالنصب.

الحجة:

أما قوله هن أطهر لكم فإن سيبويه ضعف هذه القراءة وقال فيها اجتبى ابن مروان في لحنه قال ابن جني وإنما صح ذلك عنده لأنه ذهب إلى أنه جعل هن فصلا وليست بين أحد الجزءين اللذين هما مبتدأ وخبر ونحو ذلك نحو ظننت زيدا هو خيرا منك وكان زيد هو العالم ويجوز أن يكون بناتي هن جملة من مبتدأ وخبر في موضع الخبر لهؤلاء كقولك زيد أخوك هو وأن يكون أطهر حالا من هن أو من بناتي والعامل فيه معنى الإشارة كقولك هذا زيد هو قائما ومن قرأ أو آوي بالنصب فيكون تقديره لو أن لي بكم قوة أو آويا إلى ركن شديد ويكون منتصبا بإضمار أن وعليه بيت الكتاب:

فلو لا رجال من كرام أعزة

وآل سبيع أو أسواك علقما والتقدير أو أن أسؤك فكأنه قال أو إياك مسألتي ومن قرأ فأسر بأهلك بإثبات الهمزة في اللفظ أو بغير الهمزة فإن سرى وأسرى معناهما سار ليلا قال النابغة:

أسرت عليه من الجوزاء سارية

تزجي الشمال عليه جامد البرد ويروى سرت وقال امرؤ القيس:

سريت بهم حتى تكل مطيهم

وحتى الجياد ما يقدن بإرسان

وقال سبحانه ﴿سبحان الذي أسرى بعبده﴾ ومن قرأ إلا امرأتك نصبا فإنه جعل الكلام قبله مستقلا بنفسه فنصب مع النفي كما ينصب مع الإيجاب والوجه الأقيس الرفع على البدل من أحد لأن معنى ما أتاني أحد إلا زيد ما أتاني إلا زيد فكما اتفقوا فيما أتاني إلا زيد على الرفع وكان ما أتاني أحد إلا زيد بمنزلته وبمعناه اختاروا الرفع مع ذكر أحد ومما يقوي ذلك أنهم في الكلام وأكثر الاستعمال يقولون ما جاءني إلا امرأة فيذكرون حملا على المعنى ولا يكادون يؤنثون ذلك إلا في الشعر كما في قول الشاعر:

فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقول ذي الرمة:

وما بقيت إلا النحيرة والألواح والعصب

وزعموا أن في حرف عبد الله أو أبي فأسير بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك وليس فيه ولا يلتفت منكم أحد وهذا يقوي قول من نصب.

اللغة:

أصل سيء بهم سويء بهم من السوء فأسكنت الواو ونقلت كسرتها إلى السين ويقال سؤته فسيء كما يقال شغلته فشغل وسررته فسر والفرق بين السوء والقبيح أن السوء ما يظهر مكروهة لصاحبه والقبيح ما ليس للقادر عليه أن يفعله ويقال ضاق فلان بأمره ذرعا إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصا والعصيب الشديد في الشر خاصة وأصله من الشد يقال عصبت الشيء أي شددته وعصبت فخذ الناقة لتدر وناقة عصوب ويوم عصيب وعصبصب كأنه التف على الناس بالشر أو يكون التف شره بعضه ببعض قال الشاعر:

فإنك إن لم ترض بكر بن وائل

يكن لك يوم بالعراق عصيب وقال عدي بن زيد:

وكنت لزاز خصمك لم أعرد

وقد سلكوك في يوم عصيب وقال الراجز:

يوم عصيب يعصب الأبطالا

عصب القوي السلم الطوالا والإهراع الإسراع في المشي قال مهلهل:

فجاؤوا يهرعون وهم أسارى

تقودهم على رغم الأنوف وقال صاحب العين الإهراع السوق الحثيث قال أبو مسلم والقرآن بالسوق أشبه والركن معتمد البناء بعد الأساس وركنا الجبل جانباه قال الراجز:

يأوي إلى ركن من الأركان

في عدد طيس ومجديان والشدة تجمع يصعب معه التفكك وقد تكون الشدة تقبضا يعسر معه التحلل والقطع القطعة العظيمة تمضي من الليل وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين والالتفات افتعال من اللفت وهو اللي يقال لفت فلانا عن رأيه أي صرفته وامرأة لفوت لها ولد من غير زوجها وكأنها تلفت إلى ولدها ومنه الحديث في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه كان إذا التفت التفت معا أي كان لا يلوي عنقه يمنة ويسرة والسجيل فارسي معرب أي سنك وكل حجارة وطين وقال أبو عبيدة هو الحجارة الشديدة وأنشد لابن مقبل:

ورجلة يضربون البيض ضاحية

ضربا تواصي به الأبطال سجينا

وسجين وسجيل بمعنى واحد والعرب تعاقب بين النون واللام فقلبت النون هاهنا لاما وقيل إنه مشتق من أسجلته أي أعطيته فتقديره أنها من مثل العطية في الإدرار وقيل إنه من السجل وهو الدلو العظيمة فتقديره أنها من مثل السجل في الإرسال وقيل إنه من أسجلته إذا أرسلته وكأنها مرسلة عليهم وقيل إنه من السجل وهو الكتاب فكأنها سجلت لهم والمراد كتب الله عليهم إن عليهم أن يعذبهم بها والمنضود من نضدت الشيء بعضه على بعض والمسومة من السيماء وهي العلامة ومنه السائمة وهي المرسلة في المرعى وذلك أن الإبل السائمة تختلط في المرعى فيجعل عليها السيماء لتمييزها.

الإعراب:

﴿يهرعون إليه﴾ في موضع نصب على الحال من قبل ومن بعد مبنيان على الضم فإذا أضيفا أعربا ﴿لو أن لي بكم قوة﴾ جواب لو محذوف بدل الكلام عليه وتقديره لحلت بينهم وبينكم ﴿إنه مصيبها ما أصابهم﴾ الهاء في أنه ضمير الشأن والحديث ومصيبها مبتدأ وما أصابهم موصول وصلة في موضع الرفع بكونه فاعل مصيبها وقد سد مسد خبر المبتدأ ﴿من سجيل﴾ في موضع نصب بكونه صفة لحجارة أي كائنة من سجيل مسومة صفة أخرى لحجارة ويجوز أن يكون نصبا على الحال من الضمير المستكن في منضود.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن إتيان الملائكة لوطا بعد خروجهم من عند إبراهيم (عليه السلام) وما جرى بينهم وبين قوم لوط فقال ﴿ولما جاءت رسلنا لوطا﴾ أي لما جاءوه في صفة الآدميين ﴿سيء بهم﴾ أي ساءه مجيئهم لأنه خاف عليهم من قومه ﴿وضاق بهم ذرعا﴾ أي ضاق بمجيئهم ذرعة أي قلبه لما رأى لهم من جمال الصورة وحسن الشارة وقد دعوه إلى الضيافة وقومه كانوا يسارعون إلى أمثالهم بالفاحشة وقيل معناه ضاق بحفظهم من قومه ذرعه حيث لم يجد سبيلا إلى حفظهم وكان قد علم عادة قومه من الميل إلى الذكور وقد أتوه في صورة الغلمان المرد وأصله أن الشيء إذا ضاق ذرعه لم يتسع له ما اتسع فاستعار ضيق الذرع عند تعذر الإمكان كما استعار الاتساع ﴿وقال هذا يوم عصيب﴾ أي هائل شديد كثير الشر التف الشر فيه بالشر وإنما قال ذلك لأنه لم يعلم أنهم رسل الله وخاف عليهم من قومه أن يفضحوهم وقال الصادق (عليه السلام) جاءت الملائكة لوطا وهي في زراعة قرب القرية فسلموا عليه ورأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض وعمائم بيض فقال لهم المنزل فتقدمهم ومشوا خلفه فقال في نفسه أي شيء صنعت آتي بهم قومي وأنا أعرفهم فالتفت إليهم فقال إنكم لتأتون شرارا من خلق الله وكان قد قال الله لجبرائيل لا تهلكهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات فقال جبرائيل (عليه السلام) هذه اثنتان ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال إنكم لتأتون شرارا من خلق الله فقال جبرائيل هذه الثالثة ثم دخل ودخلوا معه حتى منزله فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا يهرعون فذلك قوله ﴿وجاءه قومه يهرعون إليه﴾ أي يسرعون في المشي لطلب الفاحشة عن قتادة ومجاهد والسدي وقيل معناه يساقون وليس هناك سائق غيرهم فكان بعضهم يسوق بعضا عن أبي مسلم والهاء في إليه كناية عن لوط ﴿ومن قبل﴾ أي ومن قبل إتيان الملائكة وقيل ومن قبل مجيء قوم لوط إلى ضيفانه وقيل من قبل مجيئهم إلى داره عن الجبائي وقيل إنه من قبل بعثة لوط إليهم ﴿كانوا يعملون السيئات﴾ أي يعملون الفواحش مع الذكور ﴿قال﴾ لوط ﴿يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم﴾ معناه أن لوط لما هموا بأضيافه وجاهروا بذلك فألقوا جلباب الحياء فيه عرض عليهم نكاح بناته وقال هن أحل لكم من الرجال فدعاهم إلى الحلال واختلف في ذلك فقيل أراد بناته لصلبه عن قتادة وقيل أراد النساء من أمته لأنهن كالبنات له فإن كل نبي أبو أمته وأزواجه أمهاتهم عن مجاهد وسعيد بن جبير واختلف أيضا في كيفية عرضهن فقيل بالتزويج وكان يجوز في شرعه تزويج المؤمنة من الكافر وكذا كان يجوز أيضا في مبتدأ الإسلام وقد زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بنته من أبي العاص بن الربيع قبل أن يسلم ثم نسخ ذلك وقيل أراد التزويج بشرط الإيمان عن الزجاج وكانوا يخطبون بناته فلا يزوجهن منهم لكفرهم وقيل إنهم كان لهم سيدان مطاعان فيهم فأراد أن يزوجهما بنتيه زعوراء ورتياء ﴿فاتقوا الله﴾ أي فاتقوا عقاب الله في مواقعة الذكور ﴿ولا تخزون في ضيفي﴾ أي لا تلزموني عارا ولا تلحقوا بي فضيحة ولا تخجلوني بالهجوم على أضيافي فإن الضيف إذا نزل به معرة لحق عارها للمضيف ﴿أليس منكم رجل رشيد﴾ أي أليس في جملتكم رجل قد أصاب الرشد فيعمل بالمعروف وينهى عن المنكر ويزجر هؤلاء عن قبيح فعلهم ويجوز أن يكون رشيد بمعنى مرشد أي يرشدكم إلى الحق ﴿قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق﴾ هذا جواب قوم لوط حين عرض عليهم بناته ودعاهم إلى النكاح المباح أي ما لنا في بناتك من حاجة لأن ما لا يكون للإنسان فيه حاجة فإنه يرغب عنه كما يرغب عما لا حق له فيه فلذلك قالوا من حق وقيل معناه ما لنا فيهن من حق لأنا لا نتزوجهن وكانوا يقرون بأن من لم يتزوج بامرأة فإنه لا حق له فيها عن الجبائي وابن إسحاق فالقول الأول محمول على المعنى والقول الثاني على ظاهر اللفظ ﴿وإنك لتعلم ما نريد﴾ أي تعلم ميلنا إلى الغلمان دون النساء فلما لم يقبلوا الموعظة تأسف لوط على فقد تمكنه من دفاعهم بأن ﴿قال لو أن لي بكم قوة﴾ أي منعة وقدرة وجماعة أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي ﴿أو آوي إلى ركن شديد﴾ أو أنضم إلى عشيرة منيعة تنصرني وشيعة تمنعني لدفعتكم ولكن لا يمكنني أن أفعل ذلك قال الصادق (عليه السلام) فقال جبرائيل لو يعلم أي قوة له قال فكابروه حتى دخلوا البيت فصاح به جبرائيل أن يا لوط دعهم يدخلوا فلما دخلوا أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قوله فطمسنا أعينهم قال قتادة ذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبيا بعد لوط إلا في عز من عشيرته ومنعة من قومه وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد وهو معونة الله تعالى ولما رأت الملائكة ما لقيه لوط من قومه ﴿قالوا يا لوط إنا رسل ربك﴾ أرسلنا لهلاكهم فلا تغتم ﴿لن يصلوا إليك﴾ أي لا ينالونك بسوء أبدا ﴿فأسر بأهلك﴾ أي سر بأهلك ليلا وقال السدي لم يؤمن بلوط إلا ابنتاه ﴿بقطع من الليل﴾ أي في ظلمة الليل عن ابن عباس وقيل بعد طائفة من الليل عن قتادة وقيل في نصف من الليل عن الجبائي ﴿ولا يلتفت منكم أحد﴾ قيل في معناه وجوه (أحدها) لا ينظر أحد منكم وراءه عن مجاهد كأنهم تعبدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة (والثاني) لا يلتفت أحد منكم إلى ماله ولا متاعه بالمدينة وليس معنى يلتفت من الرؤية عن الجبائي كأنه أراد في أن النظر إليهم عبرة فلم ينهوا عنها (والثالث) أن معناه ولا يتخلف منكم أحد عن ابن عباس (والرابع) أنه أمرهم أن لا يلتفتوا إذا سمعوا الوجبة والهدة ﴿إلا امرأتك﴾ وقيل إنها التفتت حين سمعت الوجبة فقالت يا قوماه فأصابها حجر فقتلها وقيل إلا امرأتك معناه لا تسر بها ﴿إنه مصيبها ما أصابهم﴾ أي يصيبها من العذاب ما أصابهم أمروه أن يخلفها في المدينة ﴿إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب﴾ لما أخبر الملائكة لوطا بأنهم يهلكون قوم لوط قال لهم أهلكوهم الساعة لضيق صدورهم بهم وشدة غيظه عليهم فقالوا إن موعد إهلاكهم الصبح لم يجعل الصبح ظرفا وجعله خبر إن لأن الموعد هو الصبح وإنما قالوا له ﴿أليس الصبح بقريب﴾ تسلية له وقيل إنه إنما قال لهم أهلكوهم.

ذلك وفي هذا دلالة على أن الله سبحانه إنما يهلك من يهلكه عند انقضاء مدته وإن ضاق صدر الغير به ويجوز أن يكون قد جعل الصبح ميقات إهلاكهم لأن النفوس فيه أودع والناس فيه أجمع ﴿فلما جاء أمرنا﴾ فيه أقوال (أحدها) جاء أمرنا الملائكة بإهلاك قوم لوط (والثاني) جاء العذاب كأنه قيل كن على التعظيم على طريق المجاز كما قال الشاعر:

فقالت له العينان سمعا وطاعة

وحدرنا كالدر لما يثقب

وعلى هذا فالأمر هو نفس العذاب (والثالث) جاء أمرنا بالعذاب ﴿جعلنا عاليها سافلها﴾ أي قلبنا القرية أسفلها أعلاها فإن الله تعالى أمر جبرائيل (عليه السلام) فأدخل جناحه تحت الأرض فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها ثم خسف بهم الأرض فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة فعلى هذا يكون معنى جعلنا جعل بأمرنا وإنما أضافه إلى نفسه لأنه أمره به ﴿وأمطرنا عليها حجارة﴾ أي وأمطرنا على القرية أي على الغائبين منها حجارة عن الجبائي وقيل أمطرت الحجارة على تلك القرية حين رفعها جبرائيل وقيل إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد أن قلبت قريتهم تغليظا للعقوبة وقيل كانت أربع مدائن وهي المؤتفكات سدوم وعاموراء ودوما وصبوايم وأعظمها سدوم وكان لوط يسكنها قال أبو عبيدة يقال مطر في الرحمة وأمطر في العذاب ﴿من سجيل﴾ أي سنك كل عن ابن عباس وسعيد بن جبير بين بذلك صلابتها ومباينتها للبرد وأنها ليست من جنس ما جرت به عادتهم في سقوط البرد من الغيوم وقيل إن السجيل الطين عن قتادة وعكرمة ويؤيده قوله لنرسل عليهم حجارة من طين وروي عن عكرمة أيضا أنه بحر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزلت الحجارة وقال الضحاك هو الآجر وقال الفراء هو طين قد طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء وقال كان أصل الحجارة طينا فشددت عن الحسن وقيل إن السجيل سماء الدنيا عن ابن زيد فكانت تلك الحجارة منزلة من السماء الدنيا ﴿منضود﴾ هو من صفة سجيل أي نضد بعضها على بعض حتى حجرا عن الربيع وقيل مصفوف في تتابع أي كان بعضها في جنب بعض عن قتادة وقيل يتبع بعضها بعضا عن ابن عباس ﴿مسومة﴾ هي من صفة الحجارة أي معلمة جعل فيها علامات تدل على أنها معدة للعذاب وقيل مطوقة بها نضخ من حمرة عن قتادة وعكرمة وقيل كان مكتوبا على كل حجرة منها اسم صاحبها عن الربيع وقيل عليها سيماء لا تشاكل حجارة الأرض عن ابن جريج وقيل مختومة عن الحسن والسدي وقيل مشهورة ﴿عند ربك﴾ أي في علم ربك وقيل في خزائن ربك التي لا يملكها غيره ولا يتصرف فيها أحد إلا بأمره ﴿وما هي من الظالمين ببعيد﴾ أي وما تلك الحجارة من الظالمين من أمتك يا محمد ببعيد أراد بذلك إرهاب قريش وقال قتادة ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط فاتقوا الله وكونوا منه على حذر وقيل يعني بذلك قوم لوط يريد أنها لم تكن تخطئهم وذكر أن حجرا بقي معلقا بين السماء والأرض أربعين يوما يتوقع به رجلا من قوم لوط كان في الحرم حتى خرج منه فأصابه قال قتادة وكانوا أربعة آلاف ألف.