الآيات 69-76

وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴿69﴾ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴿70﴾ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ﴿71﴾ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ﴿72﴾ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ﴿73﴾ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴿74﴾ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ﴿75﴾ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ﴿76﴾

القراءة:

قرأ حمزة والكسائي قال سلم بكسر السين وسكون اللام هنا وفي الذاريات وقرأ الباقون ﴿قال سلام﴾ وقرأ ﴿يعقوب﴾ بالنصب ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وقرأ الباقون يعقوب بالرفع وفي الشواذ قراءة الأعمش وهذا بعلي شيخ بالرفع.

الحجة:

قال أبو علي أخبر أبو إسحاق عن محمد بن يزيد قال السلام أربعة أشياء منها مصدر سلمت والسلام شجر قال الإسلام وحرمل والسلام جمع سلامة والسلام اسم من أسماء الله تعالى وقوله دار السلام يحتمل أن يكون مضافة إلى الله تعظيما لها ويحتمل أن يكون دار السلامة من العقاب فمن حصل فيها كان على خلاف من وصف بقوله ويأتيه الموت من كل مكان وأما انتصاب قوله ﴿سلاما﴾ فلأنه لم يحك شيئا تكلموا به فيحكي كما يحكي الجمل ولكن هو معنى ما تكلمت به الرسل كما أن القائل إذا قال لا إله إلا الله فقلت حقا أو قلت إخلاصا أعملت القول في المصدرين لأنك ذكرت معنى ما قال ولم تحك نفس الكلام الذي هو جملة تحكي فكذلك نصب سلاما في قوله ﴿قالوا سلاما﴾ لما كان معنى ما قيل ولم يكن نفس المقول بعينه فأما قوله وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال سيبويه زعم أبو الخطاب أن مثله يريد قولك سبحان الله الذي تفسيره براءة الله من السوء وقولك للرجل سلاما تريد مسلما منك لا أبتلي بشيء من أمرك فعلى هذا المعنى وجه ما في الآية قال وزعم أن قول أمية:

سلامك ربنا في كل فجر

بريئا ما يعيبك الذموم على قوله براءتك ربنا من كل سوء وأما قوله ﴿قال سلام﴾ فسلام مرفوع لأنه من جملة الجملة المحكية والتقدير فيه سلام عليكم فحذف الخبر كما حذف من قوله فصبر جميل أي صبر جميل أمثل أو يكون المعنى أمري سلام وشأني سلام كما أن قوله فصبر جميل يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ ومثل ذلك قوله فاصفح عنهم وقل سلام على حذف المبتدأ الذي سلام خبره وأكثر ما يستعمل سلام بغير ألف ولام وذلك لأنه في معنى الدعاء فهو مثل قولهم خير بين يديك ولما كان في معنى المنصوب أستجير فيه الابتداء بالنكرة فمن ذلك قوله قال سلام عليك سأستغفر لك ربي وقال والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم وقال سلام على نوح في العالمين سلام على إبراهيم وسلام على عباده الذين اصطفى وقد جاء بالألف واللام قال سبحانه والسلام على من اتبع الهدى والسلام علي يوم ولدت وزعم أبو الحسن أن في العرب من يقول سلام عليكم ومنهم من يقول السلام عليكم فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود والذين لم يلحقوه حملوه على غير المعهود وزعم أن منهم من يقول سلام عليكم فلا ينون وحمل ذلك على وجهين (أحدهما) أنه حذف الزيادة من الكلمة كما يحذف الأصل من نحو قولك لم يك ولا أدر ويوم يأت (والآخر) أنه لما كثر استعمال هذه الكلمة وفيه الألف واللام حذفا منه لكثرة الاستعمال كما حذفا من اللهم فقالوا:

لا هم إن عامر الفجور

قد حبس الخيل على يعمور وأما من قال سلم فإن سلما يحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون بمعنى سلام فيكون المعنى أمرنا سلم أو سلم عليكم ويكون سلم في الآية بمعنى سلام كقولهم حل وحلال وحرم وحرام فيكون على هذا قراءة من قرأ ﴿سلام﴾ وسلم بمعنى واحد وإن اختلف اللفظان (والآخر) أن يكون سلم خلاف العدو والحرب لأنهم لما كفوا عن تناول ما قدمه إليهم فنكرهم وأوجس الخيفة منهم قال أنا سلم ولست بحرب ولا عدو فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو ومن قرأ ومن وراء إسحاق يعقوب بالرفع كان رفعه بالابتداء أو بالظرف في قول من رفع به ومن فتح فقال يعقوب احتمل ثلاثة أضرب (أحدها) أن يكون يعقوب في موضع جر أي فبشرناها بإسحاق ويعقوب قال أبو الحسن وهذا أقوى لأنها بشرت بهما قال وفي أعمالها ضعف لأنك فصلت بين الجار والمجرور بالظرف (والآخر) أن تحمله على موضع الجار والمجرور كقوله:

إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا وكقراءة من قرأ وحورا عينا بعد يطاف عليهم بكذا ومثله:

ولسنا بالجبال ولا الحديدا

(والثالث) أن يحمل على فعل مضمر كأنه قال فبشرناها بإسحاق ووهبنا له يعقوب فأما الأول فقد نص على سيبويه على فتح مثله نحو مررت بزيد أول من أمس وأمس عمرو وكذلك قال أبو الحسن لو قلت مررت بزيد اليوم وأمس عمرو لم يحسن وأما الحمل على الموضع على حد مررت بزيد وعمرو فالفعل فيه أيضا قبيح كما قبح الحمل على الجر وذلك أن الفعل يصل بحرف العطف وحرف العطف هو الذي يشرك في الفعل وبه يصل الفعل إلى المفعول به كما يصل بحرف الجر ولو قال مررت بزيد قائما بجعل الحال من المجرور لم يجز التقديم عند سيبويه لأن الجار هو الموصل للفعل فكما قبح التقديم عنده لضعف الجار العامل كذلك الحرف العاطف مثل الجار في أنه يشرك في الفعل كما يوصل الجار الفعل وليس نفس الفعل العامل في الموضعين جميعا وإذا كان كذلك قبح الفصل بالظرف في العطف على الموضع وقبح أيضا الفصل في الرفع والنصب كما قبح في الجر لأن العاطف فيهما مثله في الجار وليس العامل في نفس الرافع والناصب كما أن العامل فيما بعد حرف العطف ليس الجار إنما يشركه فيه العاطف وقد جاء ذلك في الشعر قال الأعشى:

يوما تراها كشبه أردية الخمس

ويوما أديمها نفلا ففصل بالظرف بين المشترك في النصب وما أشركه فيه فإذا قبح الفصل في الحمل على الموضع كما قبح الفصل في الحمل على الجار فينبغي أن يحمل قراءة من قرأ ﴿يعقوب﴾ بالنصب على فعل آخر مضمر يدل عليه بشرنا كما تقدم ولا يحمل على الوجهين الآخرين وأما الرفع في قوله شيخ ففيه وجوه (أحدها) أن يكون بعلي خبر المبتدأ وشيخ بدل من بعلي فيكون كأنه قال هذا شيخ (والآخر) أن يكون شيخ خبر مبتدإ محذوف ويكون هذا بعلي كلاما تاما يحسن الوقف عليه (والثالث) أن يكون بعلي بدلا من هذا وشيخ هو الخبر فيكون تقديره بعلي شيخ (والرابع) أن يكون بعلي وشيخ جميعا خبرا عن هذا كقولك هذا حلو حامض أي قد جمع الحلاوة والحموضة فكذلك هاهنا تقديره هذا جمع البعولة والشيخوخة قال ابن جني وهنا وجه خامس لكنه على قياس مذهب الكسائي وذلك أنه يعتقد في خبر المبتدأ أبدا أن فيه ضميرا وإن لم يكن مشتقا من الفعل نحو زيد أخوك وهو يريد النسب فإذا كان كذلك فقياس مذهبه أن يكون شيخ بدلا من الضمير في بعلي لأنه خبر عن هذا

اللغة:

العجل ولد البقرة والعجول لغة فيه وجمعه العجاجيل وسمي بذلك لتعجيل أمره بقرب ميلاده والحنيذ المشوي وهو المحنون فعيل بمعنى مفعول يقال حنذه يحنذه حنذا قال العجاج:

ورهبا من حنذه أن تهرجا يعني الحمر الوحشية قال الزجاج الحنيذ المشوي بالحجارة وقيل الحنيذ المشوي حتى يقطر والعرب تقول احنذ هذه الفرس أي اجعل عليه الحبل حتى يقطر عرقا وقيل الحنيذ المشوي فقط وقيل هو السميط ويقال نكرته وأنكرته بمعنى واحد ونكرته أشد مبالغة وهي لغة هذيل والحجاز وأنكرته لغة تميم قال الأعشى وجمع بين اللغتين:

وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلا الشيب والصلعا وقال أبو ذؤيب:

فنكرنه فنفرن فامترست به

هو جاء هادية وهاد جرشع والإيجاس الإحساس وأوجس وتوجس أي أحس قال ذو الرمة:

وقد توجس ركزا مغفر ندس

بنبأة الصوت ما في سمعه كذب ويقال أوجس خوفا أي أضمر والبعل الزوج وأصله القائم بالأمر يقولون للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار والعيون بعل لأنه قائم بالأمر في استغنائه عن تكلف السقي له ومنه قيل للرب والصاحب بعل والعجب يجري على المصدر وعلى المتعجب منه تقول هذا أمر عجب ولا يجوز العجب من أمر الله تعالى لأنه يجب أن يعلم أنه قادر على كل

شيء من الأجناس لا يعجزه شيء وما عرف سببه لا يتعجب منه والمجيد الكريم يقال مجد الرجل يمجد مجادة إذا كرم قال الشاعر:

رفعت مجد تميم يا هلال لها

رفع الطراف على العليا بالعمد والروع الإفزاع يقال راعه يروعه إذا أفزعه قال عنترة:

ما راعني إلا حمولة أهلها

وسط الديار تسف حب الخمخم وارتاع ارتياعا إذا خاف والروع بضم الراء النفس يقال ألقي في روعي أي في نفسي وسميت بذلك لأنها موضع الروع والرد والدفع واحد ونقيضه الأخذ والفرق بين الرد والدفع إن الدفع قد يكون إلى جهة القدام والخلف والرد لا يكون إلا إلى جهة الخلف.

الإعراب:

﴿فما لبث أن جاء﴾ أي ما أقام حتى جاء بعجل و« أن جاء﴾ في موضع نصب بوقوع لبث عليه كأنه قال فما أبطأ عن مجيئه بعجل فلما حذف حرف الجر وصل الفعل وقال الفراء ويحتمل أن يكون موضعه رفعا بأن نجعل أن جاء فاعل لبث فكأنك قلت فما لبث مجيئه بعجل وألف يا ويلتى يحتمل أن يكون ألف ندبة ويحتمل أن يكون ياء الإضافة فانقلبت ألفا ومعناه الإيذان بورود الأمر العظيم كما تقول العرب يا للدواهي أي تعالى فإنه من أحيانك لحضور ما حضر من إشكالك ويجوز الوقف عليه بغير هاء والاختيار في الكلام أن يوقف عليه بالهاء يا ويلتاه قال الزجاج أما المصحف فلا يخالف ولا يوقف عليه فإن اضطر واقف إلى أن يقف وقف عليه بغير هاء بالاختيار وأما الهمزتان في قوله ﴿أألد﴾ ففيه ثلاثة أوجه إن شئت خففت الأولى وحققت الثانية فقلت يا ويلتي ألد وإن شئت حققت الأولى وخففت الثانية وهو الاختيار فقلت يا ويلتي أألد وإن شئت حققتهما جميعا فقلت أألد وشيخا منصوب على الحال قال الزجاج الحال هاهنا نصبها من لطيف النحو وذلك أنك إذا قلت هذا زيد قائما فإن كنت تقصد أن تخبر من لا يعرف زيدا أنه زيد لم يجز أن تقول هذا زيد قائما لأنه يكون زيدا ما دام قائما فإذا زال عن القيام فليس بزيد وإنما تقول للذي يعرف زيدا هذا زيد قائما فيعمل في الحال التنبيه والمعنى انتبه لزيد في حال قيامه أو أشير لك إلى زيد في حال قيامه لأن هذا إشارة إلى ما حضر وقال غيره إن شئت جعلت العامل فيه معنى التنبيه وإن شئت جعلت العامل فيه معنى الإشارة وإن شئت أعملت فيه مجموعهما وكذا ما جرى مجراه تقول هذا زيد مقبلا ولا يجوز مقبلا هذا زيد لأن العامل ليس بفعل محض فإن قلت ها مقبلا ذا زيد وجعلت العامل معنى الإشارة لم يجز وإن جعلت العامل معنى التنبيه جاز.

يجادلنا في موضع نصب لأنه حكاية حال قد مضت وإلا فالجيد أن تقول لما قام قمت ويضعف أن تقول لما قام أقوم وعلى هذا فيكون جواب لما محذوفا لدلالة الكلام عليه ويكون تقديره قلنا إن إبراهيم لحليم أو ناديناه يا إبراهيم أعرض عن هذا ويجوز أن يكون تقديره أخذ يجادلنا وأقبل يجادلنا ويجوز أن يكون لما كان شرطا للماضي وقع المستقبل فيه في معنى الماضي كما إن أن لما كان شرطا للمستقبل وقع الماضي فيه في معنى المستقبل.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم ولوط فقال سبحانه ﴿ولقد جاءت رسلنا﴾ يعني الملائكة وإنما دخلت اللام لتأكيد الخبر ومعنى قد هاهنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة وقد للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع واختلف في عدد الرسل فقيل كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عن ابن عباس وقيل كانوا أربعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال والرابع اسمه كروبيل وقيل كانوا تسعة عن الضحاك وقيل أحد عشر عن السدي وكانوا على صور الغلمان أتوا ﴿إبراهيم﴾ الخليل (عليه السلام) ﴿بالبشرى﴾ أي بالبشارة بإسحاق ونبوته وأنه يولد له يعقوب عن الحسن والسدي والجبائي وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أن هذه البشارة كانت بإسماعيل (عليه السلام) من هاجر وقيل البشارة بهلاك قوم لوط ﴿قالوا سلاما﴾ هذه حكاية ما قال رسل الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) أي سلمنا سلاما بمعنى الدعاء له وقيل معناه أصبت سلاما إذا أعطاك الله سلاما أي سلامة كما يقال أهلا ومرحبا وكان تحية من الملائكة لإبراهيم (عليه السلام) ف ﴿قال﴾ إبراهيم مجيبا لهم ﴿سلام﴾ وقد مر تفسيره ﴿فما لبث أن جاء بعجل حنيذ﴾ أي لم يتوقف حتى جاءهم على عادته في إكرام الأضياف وتقديم الطعام إليهم بعجل مشوي لأنه توهم أنهم أضياف لكونهم على صورة البشر وكان إبراهيم يحب الضيفان فجاؤوه على أحسن الوجوه إليه وصار لذلك من السنة أن يعجل للضيف الطعام وقيل إن معنى حنيذ نضيج بالحجارة المحماة في خد من الأرض عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل إن الحنيذ ما حفرت له في الأرض ثم غممته وهو فعل أهل البادية عن الفراء وقيل حنيذ مشوي يقطر ماؤه عن ابن عطية ﴿فلما رءا﴾ إبراهيم ﴿أيديهم﴾ يعني أيدي الملائكة ﴿لا تصل إليه﴾ أي إلى العجل ﴿نكرهم﴾ أي أنكرهم ﴿وأوجس منهم خيفة﴾ أي أضمر منهم خوفا واختلف في سبب الخوف فقيل إنه لما رآهم شبانا أقوياء وكان ينزل طرفا من البلد وكانوا يمتنعون من تناول طعامه لم يأمن أن يكون ذلك لبلاء وذلك أن أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض أمنه صاحب الطعام على نفسه وماله ولهذا يقال تحرم فلان بطعامنا أي أثبت الحرمة بيننا بأكله الطعام وقيل إنه ظنهم لصوصا يريدون به سوءا أو قيل إنه ظن أنهم ليسوا من البشر وأنهم جاءوا لأمر عظيم وقيل علم أنهم ملائكة فخاف أن يكون قومه المقصودين بالعذاب حتى ﴿قالوا﴾ له ﴿لا تخف﴾ يا إبراهيم ﴿إنا أرسلنا إلى قوم لوط﴾ بالعذاب والإهلاك لا إلى قومك وقيل إنهم دعوا الله فأحيا العجل الذي كان ذبحه إبراهيم وشواه فطفر ورعى فعلم حينئذ أنهم رسل الله ﴿وامرأته﴾ سارة بنت هاران بن ياحور بن ساروع بن أرعوى بن فالغ وهي ابنة عم إبراهيم ﴿قائمة﴾ من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عن وهب وقيل إنها كانت بنت خالته وقيل كانت قائمة تخدم الرسل وإبراهيم جالس معهم عن مجاهد وقيل كانت قائمة تصلي وكان إبراهيم جالسا وفي قراءة ابن مسعود وامرأته قائمة وهو جالس ﴿فضحكت﴾ قيل هو الضحك المعروف الذي يعتري الإنسان للفرح وقد يكون للتعجب فضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط مع قرب نزول العذاب بهم عن قتادة وقيل تعجبا من امتناعهم عن الأكل وخدمتها إياهم بنفسها ولهذا يقال (وشر الشدائد ما يضحك) وقالت عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يتناولون من طعامنا وقيل ضحكت لأنها قالت لإبراهيم أضمم لوطا ابن أختك إليك فإني أعلم أنه سينزل بهؤلاء القوم عذاب فضحكت سرورا لما أتى الأمر على ما توهمت عن الزجاج وقيل تعجبا وسرورا من البشارة بإسحاق لأنها كانت قد هرمت وهي ابنة ثمان وتسعين سنة أو تسع وتسعين سنة وكان قد شاخ زوجها وكان ابن تسع وتسعين أو مائة سنة وقيل مائة وعشرين سنة ولم يرزق لهما ولد في حال شبابهما وعلى هذا فيكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره فبشرناها بإسحاق ويعقوب فضحكت بعد البشارة وروي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) ﴿فبشرناها بإسحاق﴾ أي بابن يسمى إسحاق نبيا ﴿ومن وراء إسحاق يعقوب﴾ يعني ومن بعد إسحاق يعقوب وقيل الوراء ولد الولد عن ابن عباس أي فبشرناها بنبي بين نبيين وهو إسحاق أبوه نبي وابنه نبي وقيل إن ضحكت بمعنى حاضت عن مجاهد وروي عن الصادق (عليه السلام) أيضا يقال ضحكت الأرنب أي حاضت والضحك بفتح الضاد الحيض وفي لغة أبي الحرث بن كعب ضحكت النخلة إذا أخرجت الطلع أو البسر والضحك الطلع وأنشد بعضهم في الضحك بمعنى الحيض قول الشاعر:

وضحك الأرانب فوق الصفا

كمثل دم الجوف يوم اللقا قال الفراء ولم أسمعه من ثقة والوجه فيه أن يكون على طريق الكناية قال الكميت:

فأضحكت السباع سيوف سعد

لقتلي ما دفن ولا ودينا ﴿قالت﴾ سارة ﴿يا ويلتي أألد وأنا عجوز﴾ أي هذا شيء عجيب أن ألد وقد شخت من زوج شيخ ولم تشك في قدرة الله تعالى ولكن إنما قالت ذلك لكونه خارجا عن العادة كما ولى موسى مدبرا حين انقلبت عصاه حية حتى قيل له أقبل ولا تخف وإلا فهي كانت عارفة بأن الله تعالى يقدر على ذلك ولم ترد بقولها يا ويلتي الدعاء على نفسها بالويل ولكنها كلمة تجري على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يتعجبن منه وقيل إنها لم تتعجب من قدرة الله ولكنها أرادت أن تعرف هل تتحول شابة أم تلد على تلك الحال وكل ذلك عجيب ﴿وهذا بعلي شيخا﴾ أي هذا الذي تعرفونه بعلي وهو شيخ ﴿إن هذا﴾ الذي بشرت به ﴿لشيء عجيب قالوا﴾ أي قالت الملائكة لها حين تعجبت من أن تلد بعد الكبر ﴿أتعجبين من أمر الله﴾ ومعنى الاستفهام هاهنا التنبيه والتوقيف أي أ تعجبين من أن يفعل الله تعالى ذلك بك ولزوجك ﴿رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت﴾ أي ليس هذا موضع تعجب لأن التعجب إنما يكون من الأمر الذي لا يعرف سببه ونعمة الله تعالى وكثرة خيراته النامية الباقية عليكم وهذا يحتمل أن يكون إخبارا عن ثبوت ذلك لهم وتذكيرا بنعمة الله وبركاته عليهم ويحتمل أن يكون دعاء لهم بالرحمة والبركة من الملائكة فقالوا رحمة الله وبركاته عليكم يا أهل البيت كما يقال أ تتعجب من كذا بارك الله فيك ويرحمك الله ويعني بأهل البيت أهل بيت إبراهيم (عليه السلام) وإنما جعلت سارة من أهل بيته لأنها كانت ابنة عمه ولا دلالة في الآية على أن زوجة الرجل من أهل بيته على ما قاله الجبائي وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر بقوم فسلم عليهم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ومغفرته ورضوانه فقال (عليه السلام) لهم لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم (عليه السلام) ﴿رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت﴾ ﴿إنه حميد﴾ أي محمود على أفعاله وقيل الحميد الذي يحمد عباده على الطاعات ﴿مجيد﴾ أي كريم وهو المبتدىء بالعطية قبل الاستحقاق وقيل معناه واسع القدرة والنعمة عن أبي مسلم وروي أن سارة قالت لجبرائيل (عليه السلام) ما آية ذلك فأخذه بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه فاهتز أخضر عن السدي ﴿فلما ذهب عن إبراهيم الروع﴾ أي الخوف والفزع الذي دخله من الرسل ﴿وجاءته البشرى﴾ بالولد ﴿يجادلنا في قوم لوط﴾ أي يجادل رسلنا ويسائلهم في قوم لوط وتلك المجادلة أنه قال لهم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أ تهلكونهم قالوا لا قال فأربعون قالوا لا فما زال ينقص ويقولون لا حتى قال فواحد قالوا لا فاحتج عليهم بلوط وقال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله عن قتادة وقيل إنه جادلهم وقال بأي شيء استحقوا عذاب الاستئصال وهل ذلك واقع لا محالة أم هو تخويف ليرجعوا إلى الطاعة بأي شيء يهلكون وكيف يجيء الله المؤمنين عن الجبائي ولما سألهم مستقص سمي ذلك السؤال جدالا لأنه خرج الكشف عن شيء غامض ﴿إن إبراهيم لحليم أواه﴾ مر معناه في سورة براءة ﴿منيب﴾ راجع إلى الله تعالى في جميع أموره متوكل عليه وفي هذا إشارة إلى أن تلك المجادلة من إبراهيم (عليه السلام) لم تكن من باب ما يكره لأنه مدحه بالحلم وبأن ذلك كان في أمر يتعلق بالرحمة ورقة القلب والرأفة وذلك لأنه رأى الخلق الكثير في النار فتأوه لهم ﴿يا إبراهيم أعرض عن هذا﴾ هو حكاية ما قالت الملائكة لإبراهيم (عليه السلام) فإنها نادته بأن قالت يا إبراهيم أعرض عن هذا القول وهذا الجدال في قوم لوط وانصرف عنه بالذكر والفكر ﴿إنه قد جاء أمر ربك﴾ بالعذاب فهو نازل لا محالة ﴿وإنهم آتيهم عذاب غير مردود﴾ يعني غير مدفوع عنهم أي لا يقدر أحد على رده عنهم.