الآيات 25-28

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿25﴾ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴿26﴾ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴿27﴾ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴿28﴾

القراءة:

قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة ﴿إني لكم﴾ بكسر الهمزة والباقون أني بفتحها وقرأ أبو عمرو ونصر عن الكسائي بادىء الرأي بالهمزة وقرأ الباقون ﴿بادي الرأي﴾ بالياء غير مهموز وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر ﴿فعميت﴾ بضم العين وتشديد الميم والباقون فعميت بفتح العين مخففا.

الحجة:

قال أبو علي من فتح أني فإنه يحملها على أرسلنا أي أرسلناه بأني لكم نذير مبين فإن قيل لو كان محمولا عليه لكان أنه لأن نوحا اسم للغيبة قيل هذا لا يمتنع لأن الخطاب بعد الغيبة في نحو هذا سائغ ألا ترى قوله ﴿وكتبنا له في الألواح﴾ ثم قال ﴿فخذها بقوة﴾ ومن كسر فالوجه فيه أنه حمله على القول المضمر لأنه مما قد أضمر كثيرا في القرآن قال سبحانه ﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام﴾ أي يقولون سلام وقال ﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ أي قالوا ما نعبدهم فإن قلت فهلا رجحت قراءة من قرأ إن على قراءة من كسر لأن قوله ﴿ألا تعبدوا﴾ محمول على الإرسال وإذا فتحت إن كان أشكل بما بعدها لحملها جميعا على الإرسال يقال لك إن من كسر قال يجوز أن يكون قوله ﴿إني لكم﴾ وما بعده محمولا على الاعتراض بين المفعول وما يتصل به مما بعده كما كان في قوله ﴿قل إن الهدى هدى الله﴾ اعتراضا بينهما في قوله ﴿ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم﴾ فكذلك قوله ﴿إني لكم نذير مبين﴾ لأن التقدير ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أن لا تعبدوا إلا الله وأما قوله ﴿بادي الرأي﴾ فقد حكى أبو علي عن الجبائي أنه قال يقال أنت بادي الرأي يريد ظاهر الرأي لا يهمز بادي وبادىء الرأي مهموز فمن لم يهمز أراد أنت فيما بدا من الرأي أي أنت ظاهر الرأي ومن همز أراد أنت أول الرأي ومبتدؤه قال أبو علي المعنى فيمن قال بادي الرأي بلا همز فجعله من بدا الشيء إذا ظهر أي ما اتبعك إلا الأراذل فيما ظهر لهم من الرأي إن لم يتعقبوه ينظر فيه ولا يبين لهم ومن همز أراد اتبعوك في أول الأمر من غير أن يتبعوا الرأي بفكر وروية فيه وهاتان الكلمتان يتقاربان في المعنى لأن الهمزة في اللام معناه ابتداء الشيء وأوله واللام إذا كانت واوا كان المعنى الظهور وابتداء الشيء يكون ظهورا وإن كان الظهور قد يكون ابتداء وغير ابتداء فلذلك يستعمل كل واحد مكان الآخر وجاز في اسم الفاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل نحو قريب ومليء لأن فاعلا وفعيلا يتعاقبان على المعنى نحو عالم وعليم وشاهد وشهيد وحسن ذلك إضافته إلى الرأي وقد أجروا المصدر أيضا في إضافته إليه في قولهم أما جهد رأي فإني منطلق فهذا لا يكون إلا ظرفا وفعل إذا كان مصدرا وفاعل قد يتفقان في أشياء وقد يجوز في قول من همز فقال بادي الرأي إذا خفف الهمز أن يقول بادي الرأي فيقلب الهمزة ياء لانكسار ما قبلها فيكون كقولهم مير في جمع ميرة وذيب في جمع ذيبة والعامل في هذا الظرف هو قولك اتبعك التقدير ما اتبعك في أول رأيهم أو فيما ظهر من رأيهم إلا أراذلنا فأخر الظرف وأوقع بعد إلا الظرف ولو كان بدل الظرف غيره لم يجز أ لا ترى أنك لو قلت ما أعطيت أحدا إلا زيدا درهما فأوقعت بعد إلا اسمين لم يجز لأن الفعل أو معنى الفعل في الاستثناء يصل إلى ما انتصب به بتوسط الحرف ولا يصل الفعل بتوسط الحرف إلى أكثر من مفعول أ لا ترى أنك إذا قلت استوى الماء والخشبة فنصبت الخشبة لم يجز أن تتبعه اسما آخر تنصبه فكذلك المستثنى إذا ألحقته إلا وأوقعت بعدها اسما مفردا لم يجز أن تتبعه آخر ولو قلت ما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا لم يجز وتصحيحها ما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا تبدل الاسمين بعد إلا من الاسمين قبلها قال جامع العلوم البصير النحوي إن أبا علي حمل ﴿بادي الرأي﴾ هنا على أنه ظرف لما قبله ثم رجع عن مثله في قوله ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب﴾ فحمله على فعل آخر دل عليه يكلمه على تقدير أو يكلمه الله من وراء حجاب قال والظرف في الآيتين عندنا محمول على الفعل قبل إلا لأن الظرف قد يكتفي فيه برائحة الفعل انتهى كلامه وأقول إن ما قاله فيه نظر لأن أبا علي قال في تلك الآية لا يعمل ما قبل الاستثناء إذا كان كلاما تاما فيما بعده وليس ما قبل إلا في هذه الآية كلاما تاما فإن قوله ﴿الذين هم أراذلنا﴾ فاعل لقوله ﴿اتبعك﴾ فلذلك فرق بين الموضعين رجع كلام أبي علي وأما تحقيق الهمزة وتخفيفها في الرأي فأهل تحقيق الهمزة يخففونها وأهل التخفيف يبدلون منها الألف وكذلك ما أشبهه من نحو البأس والرأس والفأس ومن قرأ فعميت بالتخفيف يقوي قوله اجتماعهم على التخفيف في قوله سبحانه ﴿فعميت عليهم الأنباء﴾ وهذه مثلها ويجوز في قوله ﴿فعميت﴾ أمران أحدهما أن يكون عموهم عنها الآن والرحمة لا تعمي وإنما يعمى عنها فيكون كقولهم أدخلت القلنسوة في رأسي ونحو ذلك مما يقلب إذا لم يكن فيه إشكال وفي التنزيل فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله وقال الشاعر:

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه

وسائره باد إلى الشمس أجمع

والآخر أن يكون بمعنى خفيت كقول الشاعر:

ومهمة أطرافه في مهمة

أعمى الهدى بالحائرين العمة أي خفي الهدى لأن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة ومن هذا يقال للسحاب العماء لإخفائه ما يخفيه كما قيل له الغمام ومن هذا قول الشاعر:

ولكنني عن علم ما في غد عم قال وقولهم أتاني صكة عمي إذا أتى في الهاجرة وشدة الحر يحتمل عندنا تأويلين (أحدهما) أن يكون المصدر أضيف إلى العمى كما قالوا ضرب التلف أي الضرب الذي يحدث عنه التلف (والآخر) أن يكون عمي تصغير أعمى على وجه الترخيم وأضيف المصدر إلى المفعول به كقولك من دعاء الخير والتقدير صكة الحر الأعمى والمعنى أن الحر من شدته كأنه يعمي من أصابه والمصدر في الوجهين ظرف نحو مقدم الحاج وخفوق النجم ومن قرأ ﴿عميت﴾ اعتبر قراءة أبي والأعمش فعماهما عليكم وإسناد الفعل إلى المفعول به في عميت قريب من عمى هنا في المعنى.

اللغة:

الرذل الخسيس الحقير من كل شيء والجمع أرذل ثم يجمع على أراذل كقولك كلب وأكلب وأكالب ويجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع الأكبر والرأي الرؤية من قوله ﴿يرونهم مثليهم رأي العين﴾ أي رؤية العين والرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر وجمعه آراء.

الإعراب:

﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ يحتمل أن يكون موضع تعبدوا من الإعراب نصبا بأن ويحتمل أن يكون جزما بالنهي وقوله ﴿عذاب يوم أليم﴾ يجوز أن يكون تقديره يوم أليم عذابه فحذف المضاف الذي هو عذاب وأقيم المضاف إليه الذي هو الضمير مقامه فاستكن في أليم ويجوز أن يكون وصف اليوم بالألم لأن الألم فيه يقع ويجوز في غير القراءة أليما فيكون صفة لعذاب وقوله ﴿اتبعك﴾ وفاعله الذي هو ﴿الذين هم أراذلنا﴾ في موضع نصب بأنه مفعول ثان لنريك إن كان بمعنى نعلمك وفي موضع الحال إن كان من رؤية العين وقوله ﴿أنلزمكموها﴾ فيه ثلاث ضمائر ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب فجاءت على أحسن ترتيب بدأ بالمتكلم لأنه أخص بالفعل ثم بالمخاطب ثم بالغائب ولو أتى بالمنفصل لجاز لتباعده من العامل بما فرق بينه وبينه فأشبه ما ضربت إلا إياك وما ضربني إلا أنت وأجاز الفراء أنلزمكموها بتسكين الميم جعله بمنزلة عضد وعضد وكبد وكبد ولا يجوز ذلك عند البصريين وإنما يجيزون ذلك في ضرورة الشعر كقول امرىء القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل وكقول الآخر:

وناع يخبرنا بمهلك سيد

تقطع من وجد عليه الأنامل وقول الآخر:

إذا اعوججن قلت صاحب قوم يريد صاحب قوم.

المعنى:

لما تقدم ذكر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب عقب ذلك سبحانه بذكر أخبار الأنبياء تأكيدا لذلك وتخويفا للقوم وتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبدأ بقصة نوح (عليه السلام) فقال ﴿ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين﴾ وقد مر بيانه ﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ أي أنذركم أن لا تعبدوا إلا الله عن الزجاج يريد لأن توحدوا الله وتتركوا عبادة غيره وبدأ بالدعاء إلى الإخلاص في العبادة وقيل أنه دعاهم إلى التوحيد لأنه من أهم الأمور إذ لا يصح شيء من العبادات إلا بعد التوحيد ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم﴾ إنما قال أخاف مع أن عقاب الكفار مقطوع عليه لأنه لم يعلم ما يؤول إليه عاقبة أمرهم من إيمان أو كفر وهذا لطف في الاستدعاء وأقرب إلى الإجابة في الغالب ﴿فقال الملأ الذين كفروا من قومه﴾ أي من قوم نوح لنوح (عليه السلام) ﴿ما نراك إلا بشرا مثلنا﴾ ظنا منهم أن الرسول إنما يكون من غير جنس المرسل إليه ولم يعلموا أن البعثة من الجنس قد تكون أصلح ومن الشبهة أبعد ﴿وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا﴾ أي لم يتبعك الملأ والأشراف والرؤساء منا وإنما اتبعك أخساؤنا الذين لا مال لهم ولا جاه ﴿بادي الرأي﴾ أي في ظاهر الأمر والرأي لم يتدبروا ما قلت ولم يتفكروا فيه وقال الزجاج معناه اتبعوك في الظاهر وباطنهم على خلاف ذلك ومن قرأ بالهمز فالمعنى أنهم اتبعوك ابتداء الرأي أي حين ابتدأوا ينظرون ولو فكروا لم يتبعوك وقيل معناه إن في مبتدإ وقوع الرؤية عليهم يعلم أنهم أراذلنا وأسافلنا ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ أي وما نرى لك ولقومك علينا من فضل فإن الفضل إنما يكون في كثرة المال والمنزلة في الدنيا والشرف في النسب وإنما قالوا ذلك لأنهم جهلوا طريقة الاستدلال ولو استدلوا بالمعجزات الدالة على نبوته لعلموا أنه نبي وإن من آمن به مؤمن ومن خالفه كافر وعرفوا حقيقة الفضل وهكذا عادة أرباب الدنيا يستحقرون أرباب الدين إذا كانوا فقراء ويسترذلونهم وإن كانوا هم الأكرمين الأفضلين عند الله سبحانه ﴿بل نظنكم كاذبين﴾ هذا تمام الحكاية عن كفار قوم نوح قالوه لنوح ومن آمن به ﴿قال﴾ نوح لقومه ﴿يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي﴾ أي على برهان وحجة يشهد بصحة النبوة وهي المعجزة وقال ابن عباس على بينة أي على يقين وبصيرة ومعرفة من ربوبية ربي وعظمته واختلف في قول نوح (عليه السلام) هذا أنه جواب عما ذا فقيل أنه جواب عن قولهم ﴿بل نظنكم كاذبين﴾ فكأنه قال إن تظنوني كاذبا فما تقولون لو كنت على خلافه وعلى حجة من ربي واضحة أ لا تصدقونني وقيل بل هو جواب عن قولهم ﴿ما نراك إلا بشرا مثلنا﴾ أي وإن كنت بشرا فما ذا تقولون إذا أتيتكم بحجة دالة على صدقي أ لا تصدقونني وفيه بيان أن الرسالة إنما تظهر بالمعجزة فلا معنى لاعتبار البشرية وقيل هو جواب عن قولهم ﴿ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا﴾ فكأنه قال إنهم اعتصموا بالله وبما آتاهم من البينة والرحمة فنالوا بذلك الرفعة والفضل وأنتم قنعتم بالدنيا الدنية الفانية فأنتم في الحقيقة الأراذل لا هم وقيل هو جواب عن قولهم ﴿وما نرى لكم علينا من فضل﴾ فكأنه قال لا تتبعوا المال والجاه فإن الواجب اتباع الحجة والدلالة ويجوز أن يكون جوابا عن جميع ذلك ﴿وآتاني رحمة من عنده﴾ رد عليهم بهذا جميع ما ادعوه والرحمة والنعمة هي هاهنا النبوة أي وأعطاني نبوة من عنده ﴿فعميت عليكم﴾ أي خفيت عليكم لقلة تدبركم فيها ﴿أنلزمكموها وأنتم لها كارهون﴾ أي أتريدون مني أن أكرهكم على المعرفة وألجئكم إليها على كره منكم هذا غير مقدور لي والهاء كناية عن الرحمة فيدخل فيها النبوة والدين وسائر النعم وقيل معناه أنلزمكم قبولها فحذف المضاف ويجوز أن يكون الهاء كناية عن البينة ويكون المراد أن علي أن أدلكم بالبينة وليس علي أن اضطركم إلى معرفتها.