الآيات 6-10

وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿6﴾ مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿7﴾ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿8﴾ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿9﴾وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿10﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر كي لا تكون بالتاء دولة بالرفع والباقون ﴿يكون﴾ بالياء ﴿دولة﴾ بالنصب.

الحجة:

قال ابن جني منهم من لا يفصل بين الدولة والدولة ومنهم من يفصل بينهما فقال الدولة بالفتح للملك والدولة بالضم في الملك وتكون هنا هي التامة أي كي لا يقع دولة أو تحدث دولة و﴿بين الأغنياء﴾ إن شئت كانت صفة لدولة وإن شئت كانت متعلقة بنفس دولة أي تداولا بين الأغنياء وإن شئت علقتها بنفس تكون أي لا يحدث بين الأغنياء منكم وإن شئت جعلتها كان الناقصة وجعلت بين خبرا عنها والأول أوجه ومعناه كي لا تقع دولة فيه أو عليه يعني على المفاء من عند الله.

اللغة:

الفيء رد ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك الله إياهم ذلك على ما شرط فيه يقال فاء يفيء فيئا إذا رجع وأفأته أنا عليه أي رددته عليه والإيجاف الإيضاع وهو تسيير الخيل أو الركاب من وجف يجف وجيفا وهو تحرك باضطراب فالإيجاف الإزعاج للسير والركاب الإبل والخصاصة الإملاق والحاجة وأصله الاختصاص وهو الانفراد بالأمر فكأنه انفراد الإنسان عما يحتاج إليه وقيل أصله الفرجة يقال للقمر بدا من خصاص الغيم أي فرجته ومنه الخص البيت من القصب لما فيه من الفرج والشح والبخل واحد وقيل أن الشح بخل مع حرص.

النزول:

قال ابن عباس نزل قوله ﴿ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى﴾ الآية في أموال كفار أهل القرى وهم قريظة وبني النضير وهما بالمدينة وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال وخيبر وقرى رينة وينبع جعلها الله لرسوله يحكم فيها ما أراد وأخبر أنها كلها له فقال أناس فهلا قسمها فنزلت الآية وقيل إن الآية الأولى بيان أموال بني النضير خاصة لقوله ﴿وما أفاء الله على رسوله منهم﴾ الآية والثانية بيان الأموال التي أصيبت بغير قتال وقيل إنهما واحد والآية الثانية بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية الأولى وقال أنس بن مالك أهدي لبعض الصحابة رأس مشوي وكان مجهودا فوجه به إلى جار له فتداولته تسعة أنفس ثم عاد إلى الأول فنزل ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ الآية وعن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بني النضير للأنصار أن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقال الأنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت ﴿ويؤثرون على أنفسهم﴾ الآية وقيل نزلت في سبعة عطشوا في يوم أحد فجيء بماء يكفي لأحدهم فقال واحد منهم ناول فلانا حتى طيف على سبعتهم وماتوا ولم يشرب أحد منهم فأثنى الله سبحانه عليهم وقيل نزلت في رجل جاء إلى

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال أطعمني فإني جائع فبعث إلى أهله فلم يكن عندهم شيء فقال من يضيفه هذه الليلة فأضافه رجل من الأنصار وأتى به منزله ولم يكن عنده إلا قوت صبية له فأتوا بذلك إليه وأطفئوا السراج وقامت المرأة إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف وباتا طاويين فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر إليهما وتبسم وتلا عليهما هذه الآية وأما الذي رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن الذي أضافه ونوم الصبية وأطفأ السراج علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام).

المعنى:

ثم بين سبحانه حال أموال بني النضير فقال ﴿وما أفاء الله على رسوله منهم﴾ أي من اليهود الذين أجلاهم وإن كان الحكم ساريا في جميع الكفار الذين حكمهم حكمهم ﴿فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب﴾ والإيجاف دون التقريب وقيل الإيجاف في الخيل والإيضاع في الإبل وقيل هما مستعملان فيهما جميعا أي فما أوجفتم عليه خيلا ولا إبلا والمعنى لم تسيروا إليها على خيل ولا إبل وإنما كانت ناحية من المدينة مشيتم إليها مشيا وقوله ﴿عليه﴾ أي على ما أفاء الله والركاب الإبل التي تحمل القوم واحدتها راحلة ﴿ولكن الله يسلط رسله على من يشاء﴾ أي يمكنهم من عدوهم من غير قتال بأن يقذف الرعب في قلوبهم جعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة ﴿والله على كل شيء قدير﴾ ثم ذكر سبحانه حكم الفيء فقال ﴿ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى﴾ أي من أموال كفار أهل القرى ﴿فلله﴾ يأمركم فيه بما أحب ﴿وللرسول﴾ بتمليك الله إياه ﴿ولذي القربى﴾ يعني أهل بيت رسول الله وقرابته وهم بنو هاشم ﴿واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ منهم لأن التقدير ولذي قرباه ويتامى أهل بيته ومساكينهم وابن السبيل منهم وروى المنهال بن عمرو عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال قلت قوله ﴿ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ قال هم قربانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا وقال جميع الفقهاء هم يتامى الناس عامة وكذلك المساكين وأبناء السبيل وقد روي أيضا ذلك عنهم (عليهم السلام) وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال كان أبي يقول لنا سهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي والظاهر يقتضي أن ذلك لهم سواء كانوا أغنياء أو فقراء وهو مذهب الشافعي وقيل إن مال الفيء للفقراء من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم بنو هاشم وبنو المطلب وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال نحن قوم فرض الله طاعتنا ولنا الأنفال ولنا صفو المال يعني ما كان يصطفى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فره الدواب وحسان الجواري والدرة الثمينة والشيء الذي لا نظير له ثم بين سبحانه أنه لم فعل ذلك فقال ﴿كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم﴾ والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة أي لئلا يكون الفيء متداولا بين الرؤساء منكم يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية وهذا خطاب للمؤمنين دون الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) قال الكلبي نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له يا رسول الله خذ صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوا:

لك المرباع منها والصفايا

وحكمك والنشيطة والفضول

فنزلت الآية فقالت الصحابة سمعا وطاعة لأمر الله وأمر رسوله ثم قال سبحانه ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ أي ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وارضوا به وما أمركم به فافعلوه وما نهاكم عنه فانتهوا عنه فإنه لا يأمر ولا ينهى إلا عن أمر الله وهذا عام في كل ما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهى عنه وإن نزل في آية الفيء وروى زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ما أعطى الله نبيا من الأنبياء شيئا إلا وقد أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لسليمان فامنن أو أمسك بغير حساب وقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ ﴿واتقوا الله﴾ في ترك المعاصي وفعل الواجبات ﴿إن الله شديد العقاب﴾ لمن عصاه وترك أوامره وفي هذه الآية إشارة إلى أن تدبير الأمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى الأئمة القائمين مقامه ولهذا قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أموال خيبر ومن عليهم في رقابهم وأجلى بني النضير وبني قينقاع وأعطاهم شيئا من المال وقتل رجال بني قريظة وسبى ذراريهم ونساءهم وقسم أموالهم على المهاجرين ومن على أهل مكة ثم قال سبحانه ﴿للفقراء المهاجرين﴾ الذين هاجروا من مكة إلى المدينة ومن دار الحرب إلى دار الإسلام ﴿الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم﴾ التي كانت لهم ﴿يبتغون﴾ أي يطلبون ﴿فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله﴾ أي وينصرون دين الله ﴿ورسوله أولئك هم الصادقون﴾ في الحقيقة عند الله العظيم المنزلة عنده قال الزجاج بين سبحانه من المساكين الذين لهم الحق فقال ﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم﴾ ثم ثنى سبحانه بوصف الأنصار ومدحهم حتى طابت أنفسهم عن الفيء فقال ﴿والذين تبوأوا الدار﴾ يعني المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين وتقدير الآية والذين تبوأوا الدار من قبلهم ﴿والإيمان﴾ لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين وعطف الإيمان على الدار في الظاهر لا في المعنى لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ والتقدير وآثروا الإيمان وقيل ﴿من قبلهم﴾ أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقيل معناه قبل إيمان المهاجرين والمراد به أصحاب ليلة العقبة وهم سبعون رجلا بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حرب الأبيض والأحمر ﴿يحبون من هاجر إليهم﴾ لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأسكنوهم دورهم وأشركوهم في أموالهم ﴿ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا﴾ أي لا يجدون في قلوبهم حسدا وحزازة وغيظا مما أعطي المهاجرون دونهم من مال بني النضير ﴿ويؤثرون على أنفسهم﴾ أي ويؤثرون المهاجرين ويقدمونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ﴿ولو كان بهم خصاصة﴾ أي فقر وحاجة بين سبحانه أن إيثارهم لم يكن عن غنى عن المال ولكن كان عن حاجة فيكون ذلك أعظم لأجرهم وثوابهم عند الله ويروى أن أنس بن مالك كان يحلف بالله تعالى ما في الأنصار بخيل ويقرأ هذه الآية ﴿ومن يوق شح نفسه﴾ أي ومن يدفع عنه ويمنع عنه بخل نفسه ﴿فأولئك هم المفلحون﴾ أي المنجحون الفائزون بثواب الله ونعيم جنته وقيل من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ولم يمنع شيئا أمره الله بأدائه فقد وقى شح نفسه عن ابن زيد وقيل شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة عن سعيد بن جبير وفي الحديث لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل مسلم ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف رجل مسلم وقيل في موضع قوله ﴿والذين تبوأوا الدار﴾ قولان (أحدهما) أنه رفع على الابتداء وخبره ﴿يحبون من هاجر إليهم﴾ إلى آخره لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقسم لهم شيئا من الفيء إلا لرجلين أو لثلاثة على اختلاف الرواية فيه (والآخر) أنه في موضع جر عطفا على الفقراء المهاجرين وعلى هذا فيكون قوله ﴿يحبون من هاجر إليهم﴾ وما بعده في موضع نصب على الحال ثم ثلث سبحانه بوصف التابعين فقال ﴿والذين جاءوا من بعدهم﴾ يعني من بعد المهاجرين والأنصار وهم جميع التابعين لهم إلى يوم القيامة عن الحسن وقيل هم كل من أسلم بعد انقطاع الهجرة وبعد إيمان الأنصار عن الأصم وأبي مسلم والظاهر أن المراد والذين خلفوهم ويجوز أن يكون المراد من بعدهم في الفضل وقد يعبر بالقبل والبعد عن الفضل كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نحن الآخرون السابقون أي الآخرون في الزمان السابقون في الفضل ﴿يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان﴾ أي يدعون ويستغفرون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان ﴿ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا﴾ أي حقدا وغشا وعداوة سألوا الله سبحانه أن يزيل ذلك بلطفه وهاهنا احتراز لطيف وهو أنهم أحسنوا الدعاء للمؤمنين ولم يرسلوا القول إرسالا والمعنى أعصمنا ربنا من إرادة السوء بالمؤمنين ولا شك أن من أبغض مؤمنا وأراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر وإذا كان لغير ذلك فهو فاسق ﴿ربنا إنك رءوف رحيم﴾ أي متعطف على العباد منعم عليهم.