الآيات 1-5

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿1﴾ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴿2﴾ وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ﴿3﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿4﴾ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴿5﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو يخربون بالتشديد والباقون ﴿يخربون﴾ ساكنة الخاء وخفيفة الراء وفي الشواذ قراءة طلحة بن مصرف يشاقق الله بقافين على الإظهار كالتي في الأنفال.

الحجة:

يقال خرب الموضع وأخربته وخربته قال الأعشى:

وأخربت من أرض قوم ديارا

وحكي عن أبي عمرو أن الأخراب أن يترك الموضع خربا والتخريب الهدم.

اللغة:

الحشر جمع الناس من كل ناحية ومنه الحاشر الذي يجمع الناس إلى ديوان الخراج والجلاء الانتقال عن الديار والأوطان للبلاء يقال جلا القوم عن منازلهم جلاء وأجليتهم إجلاء واللينة النخلة وأصله من اللون قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها وجمعها ليان قال امرؤ القيس:

وسالفة كسحوق الليان

أضرم فيها الغوي السعر

وقال ذو الرمة:

طراق الخوافي واقع فوق لينة

بذي ليلة في ريشه يترقرق

فكان اللينة نوع من النخل أي ضرب منه وقيل هو من اللين للين ثمرها.

الإعراب:

﴿مانعتهم حصونهم﴾ ارتفع حصونهم بقوله ﴿مانعتهم﴾ لأن اسم الفاعل جرى خبرا لأن فيرفع ما بعده.

النزول:

قيل نزلت السورة في إجلاء بني النضير من اليهود فمنهم من خرج إلى خيبر ومنهم من خرج إلى الشام عن مجاهد وقتادة وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك منهم فلما غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدرا وظهر على المشركين قالوا والله أنه للنبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا غزاة أحد وهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشا وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد ثم دخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة ونزل جبرائيل فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما تعاقد عليه وأبو سفيان وأمره بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلم الأنصاري وكان أخاه من الرضاعة قال محمد بن إسحاق خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني النضير يستعينهم في دية القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف فلما أتاهم النبي يستعينهم في الدية قالوا نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت ثم خلا بعضهم ببعض فقال إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حالته هذه ورسول الله إلى جانب جدار من بيوتهم قاعد فقالوا من رجل يعلو على هذا البيت يلقي عليه صخرة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من أصحابه فأتاه الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وقال لأصحابه لا تبرحوا فخرج راجعا إلى المدينة ولما استبطئوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال رأيته داخلا المدينة فأقبل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما أرادت اليهود من الغدر وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محمد بن مسلمة بقتل كعب بن الأشرف فخرج ومعه سلكان بن سلامة وثلاثة من بني الحرث وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إثرهم وجلس في موضع ينتظر وجوههم فذهب محمد بن مسلمة مع القوم إلى قرب قصره وأجلس قومه عند جدار وناداه يا كعب فانتبه وقال من أنت قال أنا محمد بن مسلمة أخوك جئتك أستقرض منك دراهم فإن محمدا يسألنا الصدقة وليس معنا الدراهم فقال لا أقرضك إلا بالرهن قال معي رهن أنزل فخذه وكانت له امرأة بنى بها تلك الليلة عروسا فقالت لا أدعك تنزل لأني أرى حمرة الدم في ذلك الصوت فلم يلتفت إليها فخرج فعانقه محمد بن مسلمة وهما يتحادثان حتى تباعدا من القصر إلى الصحراء ثم أخذ رأسه ودعا بقومه وصاح كعب فسمعت امرأته فصاحت وسمع بنو النضير صوتها فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلا ورجع القوم سالمين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أسفر الصبح أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه بقتل كعب ففرحوا وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحربهم والسير إليهم فسار بالناس حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصن فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقطع النخل والتحريق فيها فنادوا يا محمد قد كنت تنهى عن الفحشاء فما بالك تقطع النخل وتحرقها فأنزل الله ﴿ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها﴾ الآية وهي البويرة في قول حسان:

وهان على سراة بني لوي

حريق بالبويرة مستطير

والبويرة تصغير بؤرة وهي إرة النار أي حفرتها وقال ابن عباس كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم وأن يسيرهم إلى أذرعات بالشام وجعل لكل ثلاثة منهم بعير أو سقاء فخرجوا إلى أذرعات بالشام وأريحا إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة وكان ابن عباس يسمي هذه السورة سورة بني النضير وعن محمد بن مسلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال وعن محمد بن إسحاق كان إجلاء بني النضير مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد وكان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان وكان الزهري يذهب إلى أن إجلاء بني النضير كان قبل أحد على رأس ستة أشهر من وقعة بدر.

المعنى:

﴿سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم﴾ مضى تفسيره ﴿هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب﴾ يعني يهود بني النضير ﴿من ديارهم﴾ بأن سلط الله المؤمنين عليهم وأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجهم من منازلهم وحصونهم وأوطانهم ﴿لأول الحشر﴾ اختلف في معناه فقيل كان جلاؤهم ذلك أول حشر اليهود إلى الشام ثم يحشر الناس يوم القيامة إلى أرض الشام أيضا وذلك الحشر الثاني عن ابن عباس والزهري والجبائي قال ابن عباس قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخرجوا قالوا إلى أين قال إلى أرض المحشر وقيل معناه لأول الجلاء عن البلخي لأنهم كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب ثم أجلى إخوانهم من اليهود لئلا يجتمع في بلاد العرب دينان وقيل إنما قال لأول الحشر لأن الله فتح على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول ما قاتلهم عن يمان بن رباب ﴿ما ظننتم أن يخرجوا﴾ أي لم تظنوا أيها المؤمنون أنهم يخرجون من ديارهم لشدتهم وشوكتهم ﴿وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله﴾ أي وظن بنو النضير أن حصونهم لوثاقتها تمنعهم من سلطان الله وإنزال العذاب بهم على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث حصنوها وهيأوا آلات الحرب فيها ﴿فأتاهم الله﴾ أي فأتاهم أمر الله وعذابه ﴿من حيث لم يحتسبوا﴾ أي لم يتوهموا أن يأتيهم لما قدروا في أنفسهم من المنعة جعل الله سبحانه امتناعهم من رسوله امتناعا منه ﴿وقذف في قلوبهم الرعب﴾ وألقى سبحانه في قلوبهم الرعب بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ﴿يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين﴾ أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من داخل ليهربوا لا أنهم خربوا ما استحسنوا منها حتى لا يكون للمسلمين ويخربها المؤمنون من خارج ليصلوا إليهم عن الحسن وقيل أن معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك عن الزجاج وقيل أنهم كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم بنقض الموادعة وبأيدي المؤمنين بالمقاتلة ﴿فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ أي فاتعظوا يا أولي العقول والبصائر وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها والمراد استدلوا بذلك على صدق الرسول إذ كان وعد المؤمنين أن الله سبحانه سيورثهم ديارهم وأموالهم بغير قتال فجاء المخبر على ما أخبر فكان آية دالة على نبوته ولا دليل في الآية على صحة القياس في الشريعة لأن الاعتبار ليس من القياس في شيء لما ذكرناه ولأنه لا سبيل لأهل القياس إلى العلم بالترجيح ولا يعلم كل من الفريقين علة الأصل للآخر فإن علة الربا عند أحدهما الكيل والوزن والجنس وعند الآخر الطعم والجنس وفي الدراهم والدنانير لأنهما جنس الأثمان وقال آخرون أشياء أخر وليس هذا باعتبار إذ لا سبيل إلى المعرفة به ﴿ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء﴾ أي حكم عليهم أنهم يجلون عن ديارهم وينقلون عن أوطانهم ﴿لعذبهم في الدنيا﴾ بعذاب الاستئصال أو القتل والسبي كما فعل ببني قريظة لأنه تعالى علم أن كلا الأمرين في المصلحة سواء وقد سبق حكمه بالجلاء ﴿ولهم في الآخرة﴾ مع الجلاء عن الأوطان ﴿عذاب النار﴾ لأن أحدا منهم لم يؤمن وقيل أن ذلك مشروط بالإصرار وترك التوبة ﴿ذلك﴾ الذي فعلنا بهم ﴿بأنهم شاقوا الله﴾ أي خالفوا الله ﴿ورسوله﴾ ثم توعد من حذا حذوهم وسلك سبيلهم في مشاقة الله ورسوله فقال ﴿ومن يشاق الله﴾ أي يخالفه ﴿فإن الله شديد العقاب﴾ يعاقبهم على مشاقتهم أشد العقاب ﴿ما قطعتم من لينة﴾ أي نخلة كريمة من أنواع النخيل عن مجاهد وابن زيد وقيل كل نخلة سوى العجوة عن ابن عباس وقتادة ﴿أو تركتموها قائمة على أصولها﴾ فلم تقطعوها ولم تقلعوها ﴿فبإذن الله﴾ أي بأمره كل ذلك سائغ لكم علم الله سبحانه ذلك وأذن فيه ليذل به أعداءه ﴿وليخزي الفاسقين﴾ من اليهود ويهينهم به لأنهم إذا رأوا عدوهم يتحكم في أموالهم كان ذلك خزيا لهم.