الآيات 26-29

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿26﴾ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿27﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿28﴾ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿29﴾

اللغة:

التقفية جعل الشيء في إثر شيء على الاستمرار فيه ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على إثره مستمرة في غيره على منهاجه والرهبانية أصلها من الرهبة وهي الخوف إلا أنها عبادة مختصة بالنصارى لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا رهبانية في الإسلام والابتداع ابتداء أمر لم يحتذ فيه على مثال ومنه البدعة إذ هي إحداث أمر على خلاف السنة والكفل الحظ ومنه الكفل الذي يتكفل به الراكب وهو كساء أو نحوه يحويها على الإبل إذا أراد أن يرقد فيه فيحفظه من السقوط ففيه حظ من التحرز من الوقوع.

الإعراب:

ورهبانية منصوب بفعل مضمر يفسره قوله ﴿ابتدعوها﴾ التقدير وابتدعوا رهبانية ابتدعوها وقوله ﴿ما كتبناها عليهم﴾ في محل النصب لأنه صفة لرهبانية.

﴿ابتغاء رضوان الله﴾ نصب لأنه بدل من ها في كتبناها والتقدير كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله أي اتباع أوامره ولم نكتب عليهم الرهبانية ولا في ﴿لئلا يعلم﴾ زائدة وأن في ﴿ألا يقدرون﴾ مخففة من الثقيلة واسمه محذوف وتقديره أنهم لا يقدرون ولا هنا يدل على الإضمار في أن مع تخفيف أن.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من ذكر الأنبياء بقصة إبراهيم (عليه السلام) ونوح (عليه السلام) فقال سبحانه ﴿ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم﴾ وإنما خصهما بالذكر لفضلهما ولأنهما أبوا الأنبياء ﴿وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب﴾ يعني أن الأنبياء كلهم من نسلهما وذريتهما وعليهم أنزل الكتاب ثم أخبر عن حال ذريتهما فقال ﴿فمنهم مهتد﴾ إلى طريق الحق ﴿وكثير منهم فاسقون﴾ أي خارجون عن طاعة الله إلى معصيته ﴿ثم قفينا على آثارهم برسلنا﴾ أي ثم اتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء برسل آخرين إلى قوم آخرين وأنفذناهم رسولا بعد رسول ﴿وقفينا بعيسى بن مريم﴾ بعدهم فأرسلناه رسولا ﴿وآتيناه الإنجيل﴾ أي وأعطينا عيسى بن مريم الإنجيل ﴿وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه﴾ في دينه يعني الحواريين وأتباعهم اتبعوا عيسى ﴿رأفة﴾ وهي أشد الرقة ﴿ورحمة﴾ وإنما أضاف الرأفة والرحمة إلى نفسه لأنه سبحانه جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة بالأمر به والترغيب فيه ووعد الثواب عليه وقيل لأنه خلق في قلوبهم الرأفة والرحمة وإنما مدحهم على ذلك وإن كان من فعله لأنهم تعرضوا لهما ﴿ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم﴾ وهي الخصلة من العبادة يظهر فيها معنى الرهبة إما في كنيسة أو انفراد عن الجماعة أو غير ذلك من الأمور التي يظهر فيها نسك صاحبه والمعنى ابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم وقيل إن الرهبانية التي ابتدعوها هي رفض النساء واتخاذ الصوامع عن قتادة قال وتقديره ورهبانية ما كتبناها عليهم ﴿إلا﴾ إنهم اتبعوها ﴿ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها﴾ وقيل إن الرهبانية التي ابتدعوها لحاقهم بالبراري والجبال في خبر مرفوع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فما رعاها الذين بعدهم حق رعايتها وذلك لتكذيبهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ابن عباس وقيل إن الرهبانية هي الانقطاع عن الناس للانفراد بالعبادة ﴿ما كتبناها﴾ أي ما فرضناها عليهم وقال الزجاج إن تقديره ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وابتغاء رضوان الله اتباع ما أمر به فهذا وجه قال وفيها وجه آخر جاء في التفسير أنهم كانوا يرون من ملوكهم ما لا يصبرون عليه فاتخذوا أسرابا وصوامع وابتدعوا ذلك فلما ألزموا أنفسهم ذلك التطوع ودخلوا عليه لزمهم تمامه كما أن الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمه قال وقوله ﴿فما رعوها حق رعايتها﴾ على ضربين (أحدهما) أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم (والآخر) وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يؤمنوا به كانوا تاركين لطاعة الله فما رعوا تلك الرهبانية حق رعايتها ودليل ذلك قوله ﴿فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم﴾ يعني الذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وكثير منهم فاسقون﴾ أي كافرون انتهى كلام الزجاج ويعضد هذا ما جاءت به الرواية عن ابن مسعود قال كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حمار فقال يا ابن أم عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية فقلت الله ورسوله أعلم فقال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (عليه السلام) يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية ﴿ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم﴾ إلى آخرها ثم قال يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة وعن ابن مسعود قال دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها اثنتان وهلك سائرهن فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى (عليه السلام) فقتلوهم وفرقة لم تكن لهم طاقة لموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى (عليه السلام) فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال الله لهم ﴿ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم﴾ ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون ثم قال سبحانه ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي اعترفوا بتوحيد الله وصدقوا بموسى وعيسى (عليهما السلام) ﴿اتقوا الله وآمنوا برسوله﴾ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ابن عباس وقيل معناه يا أيها الذين آمنوا ظاهرا آمنوا باطنا ﴿يؤتكم كفلين﴾ أي يؤتكم نصيبين ﴿من رحمته﴾ نصيبا لإيمانكم بمن تقدم من الأنبياء ونصيبا لإيمانكم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ابن عباس ﴿ويجعل لكم نورا تمشون به﴾ أي هدى تهتدون به عن مجاهد وقيل النور القرآن وفيه الأدلة على كل حق والبيان لكل خير وبه يستحق الضياء الذي يمشي به يوم القيامة عن ابن عباس ﴿ويغفر لكم﴾ أي ويستر عليكم ذنوبكم ﴿والله غفور رحيم﴾ قال سعيد بن جبير بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا يا نبي الله إن لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فأنزل الله فيهم ﴿الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون﴾ إلى قوله ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله ﴿أولئك يؤتون أجرهم مرتين﴾ بما صبروا فخروا على المسلمين فقالوا يا معشر المسلمين أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجران ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا فنزل قوله ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله﴾ الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال ﴿لئلا يعلم أهل الكتاب﴾ وقال الكلبي كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمكة لم يكونوا يهودا ولا نصارى وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا فقال لهم أبو جهل بئس القوم أنتم والوفد لقومكم فردوا عليه وما لنا لا نؤمن بالله الآية فجعل الله لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد فنزل ﴿لئلا يعلم أهل الكتاب﴾ إلى آخر السورة وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال من كانت له أمة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وآمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فله أجران وأيما مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران أورده البخاري ومسلم في الصحيح ﴿لئلا يعلم﴾ أي لأن يعلم ولا مزيدة ﴿أهل الكتاب﴾ يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحسدوا المؤمنين منهم ﴿ألا يقدرون على شيء من فضل الله﴾ وأن هذه هي المخففة من الثقيلة والتقدير أنهم لا يقدرون ومعناه جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعلم الذين لم يؤمنوا أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله ﴿وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء﴾ فأتى المؤمنين منهم أجرين ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين وقيل إن المراد بفضل الله هنا النبوة أي لا يقدرون على نبوة الأنبياء ولا على صرفها عمن شاء الله أن يخصه بها فيصرفونها عن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى من يحبونه بل هي بيد الله يعطيها من يشاء ممن هو أهلها ويعلم أنه يصلح لها وقيل إنما تدخل لا صلة في كل كلام دخل في أواخره أو أوائله جحد وإن لم يكن مصرحا به نحو قوله ﴿ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك﴾ ﴿وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ ﴿وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون﴾ عن الفراء وقيل أن لا هنا في حكم الثبات والمعنى لأن لا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون أن يؤمنوا لأن من لا يعلم أنه لا يقدر يعلم أنه يقدر فعلى هذا يكون المراد لكي يعلموا أنهم يقدرون على أن يؤمنوا فيحوزوا الفضل والثواب وقيل إن معناه لئلا يعلم اليهود والنصارى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين لا يقدرون على ذلك فقد علموا أنهم لا يقدرون عليه أي إن آمنتم كما أمركم الله آتاكم الله من فضله فعلم أهل الكتاب خلافه وعلى هذا فالضمير في يقدرون ليس لأهل وقال أبو سعيد السيرافي معناه أن الله يفعل بكم هذه الأشياء لئلا يعلم أي ليتبين جهل أهل الكتاب وأنهم لا يعلمون أن ما يؤتيكم الله من فضله لا يقدرون على تغييره وإزالته عنكم ففي هذه الوجوه لا يحتاج إلى زيادة لا.