الآيات 1-14

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿1﴾ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿2﴾ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴿3﴾ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ﴿5﴾ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ﴿6﴾ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴿7﴾ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ﴿8﴾ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴿9﴾ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿10﴾ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ﴿11﴾ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴿12﴾ مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴿13﴾ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴿14﴾

اللغة:

الاستغشاء طلب التغشي والإصرار الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه والمدرار الكثير الدرور بالغيث والمطر والأمداد إلحاق الثاني بالأول على النظام حالا بعد حال يقال أمده بكذا ومد النهر نهر آخر والأموال جمع المال وهو عند العرب النعم وأصل الوقار الثبوت وما به يكون الشيء عظيما من الحلم الذي يمتنع معه الخرق والرجاء بمعنى الخوف قال أبوذويب:

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عواسل

الأعراب:

﴿أن أنذر قومك﴾ في موضع نصب بأرسلنا لأن الأصل بأن أنذر قومك فلما سقطت الباء أفضى الفعل وقيل إن موضعه جر وإن سقطت الباء وقد تقدم بيانه ويجوز أن يكون أن هذه المفسرة بمعنى أي.

وجهارا مصدر وضع موضع الحال أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعاء إلى التوحيد وقوله ﴿مدرارا﴾ نصب على الحال.

﴿لا ترجون لله وقارا﴾ جملة في موضع الحال أيضا والعامل في الحال ما في لكم في معنى الفعل. وقارا منصوب بأنه مفعول ترجون.

المعنى:

أخبر سبحانه عن نفسه فقال ﴿إنا أرسلنا﴾ أي بعثنا ﴿نوحا﴾ رسولا ﴿إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم﴾ معناه أرسلنا لينذرهم بالعذاب إن لم يؤمنوا قال الحسن أمره أن ينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ثم حكى أن نوحا امتثل ما أمر الله سبحانه به بأن قال ﴿قال يا قوم﴾ أضافهم إلى نفسه فكأنه قال أنتم عشيرتي يسوؤني ما يسوؤكم ﴿إني لكم نذير مبين﴾ أي مخوف مبين وجوه الأدلة في الوعيد وبيان الدين والتوحيد ﴿أن اعبدوا الله واتقوه﴾ أي اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتقوا معاصيه ﴿وأطيعون﴾ فيما أمركم به لأن طاعتي مقرونة بطاعة الله وطاعة الله واجبة عليكم لمكان نعمه السابقة التي لا توازيها نعمة منعم ﴿يغفر لكم من ذنوبكم﴾ أي فإنكم إن فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم ومن مزيدة وقيل إن من هاهنا للتبعيض والمعنى يغفر لكم ذنوبكم السالفة وهي بعض الذنوب التي تضاف إليكم ولما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح قيد سبحانه هذا التقييد ﴿ويؤخركم إلى أجل مسمى﴾ وفي هذا دلالة على ثبوت أجلين كأنه شرط في الوعد بالأجل المسمى عبادة الله والتقوى فلما لم يقع ذلك منهم اقتطعوا بعذاب الاستيصال قبل الأجل الأقصى بالأجل الأدنى ثم قال ﴿إن أجل الله﴾ يعني الأقصى ﴿إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون﴾ صحة ذلك وتؤمنون به قال الحسن يعني بأجل الله يوم القيامة جعله أجلا للبعث ويجوز أن يكون هذا حكاية عن قول نوح (عليه السلام) لقومه أن يكون إخبارا منه سبحانه عن نفسه ﴿قال﴾ نوح ﴿رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا﴾ إلى عبادتك وخلع الأنداد من دونك وإلى الإقرار بنبوتي ﴿فلم يزدهم دعائي إلا فرارا﴾ أي لم يزدادوا بدعائي إياهم إلا فرارا من قبوله ونفارا منه وإدبارا عنه وإنما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر لأنهم كانوا على كفر وضلال فلما دعاهم نوح (عليه السلام) إلى الإقلاع عن ذلك والإقرار به ولم يقبلوه فكفروا بذلك كان ذلك زيادة في الكفر لأن الزيادة هي إضافة الشيء إلى مقدار قد كان حاصلا ولو حصلا جميعا في وقت واحد لم يكن لأحدهما زيادة على الآخر ﴿وإني كلما دعوتهم﴾ إلى إخلاص عبادتك ﴿لتغفر لهم﴾ سيئاتهم ﴿جعلوا أصابعهم في آذانهم﴾ لئلا يسمعوا كلامي ودعائي ﴿واستغشوا ثيابهم﴾ أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني ﴿وأصروا﴾ أي داموا على كفرهم ﴿واستكبروا استكبارا﴾ أي تكبروا وأنفوا عن قبول الحق والإصرار الإقامة على الأمر بالعزيمة عليه فلما كانوا عازمين على الكفر كانوا مصرين وقيل إن الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له احذر هذا لا يغوينك فإن أبي قد ذهب بي إليه وأنا مثلك فحذرني مثل ما حذرتك عن قتادة ﴿ثم إني دعوتهم جهارا﴾ أي بأعلى صوتي عن ابن عباس وقيل مجاهرة يرى بعضهم بعضا أي ظاهرا غير خفي ﴿ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا﴾ أي دعوتهم في العلانية وفي السر وقيل معناه إني أعلنت جماعة بالدعوة وأسررت جماعة ثم أعلنت للذين أسررت وأسررت للذين أعلنت لهم ومعناه إني سلكت معهم في الدعوة كل مذهب وتلطفت لهم في ذلك غاية التلطف فلم يجيبوا ﴿فقلت استغفروا ربكم﴾ أي اطلبوا منه المغفرة على كفركم ومعاصيكم ﴿إنه كان غفارا﴾ لكل من طلب منه المغفرة فمتى رجعتم عن كفركم وأطعتموه ﴿يرسل السماء عليكم مدرارا﴾ أي كثيرة الدرور بالغيث وقيل إنهم كانوا قد قحطوا وأسنتوا وهلكت أموالهم وأولادهم فلذلك رغبهم في رد ذلك بالاستغفار مع الإيمان والرجوع إلى الله قال الشعبي قحط المطر على عهد عمر بن الخطاب فصعد المنبر ليستسقي فلم يذكر إلا الاستغفار حتى نزل فلما نزل قيل له ما سمعناك استسقيت قال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي بها يستنزل القطر ثم قرأ هذه الآية ﴿ويمددكم بأموال وبنين﴾ أي يكثر أموالكم وأولادكم الذكور عن عطا ﴿ويجعل لكم جنات﴾ أي بساتين في الدنيا ﴿ويجعل لكم أنهارا﴾ تسقون بها جناتكم قال قتادة علم نبي الله نوح أنهم كانوا أهل حرص على الدنيا فقال هلموا إلى طاعة الله فإن فيها درك الدنيا والآخرة وروى الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة فقال له الحسن استغفر الله وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله وأتاه آخر فقال ادع الله أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال ما قلت ذلك من ذات نفسي إنما اعتبرت فيه قول الله تعالى حكاية عن نبيه نوح إنه قال لقومه ﴿استغفروا ربكم إنه كان غفارا﴾ إلى آخره وروى علي بن مهزيار عن حماد بن عيسى عن محمد بن يوسف عن أبيه قال سأل رجل أبا جعفر (عليه السلام) وأنا عنده فقال له جعلت فداك إني كثير المال وليس يولد لي ولد فهل من حيلة قال نعم استغفر ربك سنة في آخر الليل مائة مرة فإن ضيعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار فإن الله يقول ﴿استغفروا ربكم﴾ إلى آخره ثم قال نوح (عليه السلام) لهم على وجه التبكيت ﴿ما لكم﴾ معاشر الكفار ﴿لا ترجون لله وقارا﴾ أي لا تخافون لله عظمة فالوقار العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم والرجاء الخوف هنا والمعنى لا تعظمون الله حق عظمته فتوحدوه وتطيعوه عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة عن قتادة أي لا تطمعون في عاقبة لعظمة الله تعالى وقيل معناه ما لكم لا تخافون الله عذابا ولا ترجون منه ثوابا في رواية أخرى عن ابن عباس وقيل معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان وتوحدون الله عن الزجاج وقيل معناه ما لكم لا تعتقدون لله إثباتا عن أبي مسلم ﴿وقد خلقكم أطوارا﴾ أي خلقكم طورا نطفة ثم طورا علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر نبت له الشعر وكمل له الصورة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وقيل أطوارا أحوالا حالا بعد حال وقيل معناه صبيانا ثم شبانا ثم شيوخا وقيل خلقكم مختلفين في الصفات أغنياء وفقراء وزمناء وأصحاء وطوالا وقصارا والآية محتملة للجميع.