الآيات 12-20

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿12﴾ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ﴿13﴾ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴿14﴾ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿15﴾ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴿16﴾ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴿17﴾ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴿18﴾ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴿19﴾ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴿20﴾

القراءة:

في الشواذ قراءة أبي بكر عند خروج نفسه وجاءت سكرة الحق بالموت وهي قراءة سعيد بن جبير وطلحة ورواها أصحابنا عن أئمة الهدى (عليهم السلام).

الحجة:

قال ابن جني لك في الباء ضربان من التقدير إن شئت علقتها بنفس جاءت كقولك جئت بزيد أي أحضرته وإن شئت علقتها بمحذوف وجعلتها حالا أي وجاءت سكرة الحق ومعها الموت كقولك خرج بثيابه أي وثيابه عليه ومثله قوله فخرج على قومه في زينته أي وزينته عليه وكقول أبي ذؤيب:

يعثرن في حد الظباة كأنما

كسيت برود بني يزيد الأذرع

أي يعثرن وهن في حد الظباة وكقول الآخر:

ومستنة كاستنان الخروف

وقد قطع الحبل بالمرود

أي قطعه وفيه مروده وكذلك قراءة العامة ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق﴾ إن شئت علقت الباء بنفس جاءت وإن شئت علقتها بمحذوف وجاءت سكرة الموت ومعها الحق.

اللغة:

يقال عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه وتعذر ذلك عليك وأعييت إذا تعبت وكل ذلك من التعب إلا أن أحدهما في الطلب والآخر فيما وقع الفراغ عنه والوريد عرق في الحلق وهما وريدان في العنق عن يمين وشمال وكأنه العرق الذي يرد إليه ما ينصب من الرأس وحبل الوريد حبل العاتق وهو منفصل من الحلق إلى العاتق والرقيب الحافظ والعتيد المعد للزوم الأمر.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتهديدا للكفار فقال ﴿كذبت قبلهم﴾ من الأمم الماضية ﴿قوم نوح﴾ فأغرقهم الله ﴿وأصحاب الرس﴾ وهم أصحاب البئر التي رسوا نبيهم فيها بعد أن قتلوه عن عكرمة وقيل الرس بئر قتل فيها صاحب ياسين عن الضحاك وقيل هم قوم كانوا باليمامة على آبار لهم عن قتادة وقيل هم أصحاب الأخدود وقيل كان سحق النساء في أصحاب الرس وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) ﴿وثمود﴾ وهم قوم صالح ﴿وعاد﴾ وهم قوم هود ﴿وفرعون وإخوان لوط﴾ أي وكذب فرعون موسى وقوم لوط لوطا وسماهم إخوانه لكونهم من نسبه ﴿وأصحاب الأيكة﴾ وهم قوم شعيب ﴿وقوم تبع﴾ وهو تبع الحميري الذي ذكرناه عند قوله أ هم خير أم قوم تبع ﴿كل﴾ من هؤلاء المذكورين ﴿كذب الرسل﴾ المبعوثة إليهم وجحدوا نبوتهم ﴿فحق وعيد﴾ أي وجب عليهم عذابي الذي أوعدتهم به فإذا كان مآل الأمم الخالية إذا كذبوا الرسل الهلاك والدمار وإنكم معاشر العرب قد سلكتم مسالكهم في التكذيب والإنكار فحالكم كحالهم في التباب والخسار ثم قال سبحانه جوابا لقولهم ذلك رجع بعيد ﴿أفعيينا بالخلق الأول﴾ أي أ فعجزنا حين خلقناهم أولا ولم يكونوا شيئا فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بأن الله هو الخالق ثم أنكروا البعث ويقال لكل من عجز عن شيء عيي به ثم ذكر أنهم في شك من البعث بعد الموت فقال ﴿بل هم في لبس من خلق جديد﴾ أي بل هم في ضلال وشك من إعادة الخلق جديدا واللبس منع من إدراك المعنى بما هو كالستر له والجديد القريب الإنشاء ﴿ولقد خلقنا الإنسان﴾ أراد به الجنس يعني ابن آدم ﴿ونعلم ما توسوس به نفسه﴾ أي ما يحدث به قلبه وما يخفي ويكن في نفسه ولا يظهره لأحد من المخلوقين ﴿ونحن أقرب إليه﴾ بالعلم ﴿من حبل الوريد﴾ وهو عرق يتفرق في البدن يخالط الإنسان في جميع أعضائه وقيل هو عرق الحلق عن ابن عباس ومجاهد وقيل هو عرق متعلق بالقلب يعني نحن أقرب إليه من قلبه عن الحسن وقيل معناه نحن أعلم به ممن كان منه بمنزلة حبل الوريد في القرب وقيل معناه نحن أملك له من حبل وريده مع استيلائه عليه وقربه منه وقيل معناه نحن أقرب إليه بالإدراك من حبل الوريد لو كان مدركا ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال ﴿إذ يتلقى المتلقيان﴾ فإذ متعلقة بقوله ونحن أقرب إليه أي ونحن أعلم به وأملك له حين يتلقى المتلقيان وهما الملكان يأخذان منه عمله فيكتبانه كما يكتب المملى عليه ﴿عن اليمين وعن الشمال قعيد﴾ أراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فاكتفى بأحدهما عن الآخر والمراد بالقعيد هنا الملازم الذي لا يبرح لا القاعد الذي هو ضد القائم وقيل عن اليمين كاتب الحسنات وعن الشمال كاتب السيئات عن الحسن ومجاهد وقيل الحفظة أربعة ملكان بالنهار وملكان بالليل عن الحسن ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾ أي ما يتكلم بكلام فيلفظه أي يرميه من فيه إلا لديه حافظ حاضر معه يعني الملك الموكل به إما صاحب اليمين وإما صاحب الشمال يحفظ عمله لا يغيب عنه والهاء في لديه تعود إلى القول أو إلى القائل وعن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطىء أو المسيء فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كتب واحدة وفي رواية أخرى قال صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال فإذا عمل حسنة كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيء وإن لم يستغفر الله كتب له سيئة واحدة وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله تعالى وكل بعبده ملكين يكتبان عليه فإذا مات قالا يا رب قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين قال سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني اذهبا إلى قبر عبدي فسبحاني وكبراني وهللاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق﴾ أي جاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله بالحق أي أمر الآخرة حتى عرفه صاحبه واضطر إليه وقيل معناه جاءت سكرة الموت بالحق الذي هو الموت قال مقاتل يعني أنه حق كائن والمراد أن هذه السكرة قد قربت منكم فاستعدوا لها فهي لقربها كالحاصلة مثل قوله تعالى أتى أمر الله وروي أن عائشة قالت عند وفاة أبي بكر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر لا تقولي ذلك ولكنه كما قال الله تعالى ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق﴾ ويقال لمن جاءته سكرة الموت ﴿ذلك﴾ أي ذلك الموت ﴿ما كنت منه تحيد﴾ أي تهرب وتميل ﴿ونفخ في الصور﴾ قد مر تفسيره ﴿ذلك يوم الوعيد﴾ أي ذلك اليوم يوم وقوع الوعيد الذي خوف الله به عباده ليستعدوا ويقدموا العمل الصالح له.