الآيات 42-62
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴿42﴾ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴿43﴾ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴿44﴾ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى ﴿45﴾ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴿46﴾ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ﴿47﴾ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ﴿48﴾ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ﴿49﴾ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ﴿50﴾ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ﴿51﴾ وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ﴿52﴾ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ﴿53﴾ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ﴿54﴾ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴿55﴾ هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى ﴿56﴾ أَزِفَتْ الْآزِفَةُ ﴿57﴾ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ﴿58﴾ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ﴿59﴾ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ﴿60﴾ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ﴿61﴾ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴿62﴾
القراءة:
قرأ أهل المدينة والبصرة غير سهل عاد لولى مدغمة غير منونة ولا مهموزة إلا في رواية قالون عن نافع فإنه روى عنه عاد لؤلى مهموزة ساكنة وقرأ الباقون ﴿عادا الأولى﴾ منونة مهموزة غير مدغمة وقرأ عاصم وحمزة ويعقوب ﴿وثمود فما أبقى﴾ بغير تنوين والباقون وثمودا بالتنوين.
الحجة:
قال أبو علي قال أبو عثمان أساء عندي أبو عمرو في قراءته لأنه أدغم النون في لام المعرفة واللام إنما تحركت بحركة الهمزة وليست بحركة لازمة والدليل على ذلك أنك تقول الحمر فإذا طرحت حركة الهمزة على اللام لم يحذف ألف الوصل لأنها ليست بحركة لازمة قال أبو عثمان ولكن كان أبو الحسن روي عن بعض العرب أنه كان يقول هذا لحمر قد جاء فيحذف ألف الوصل لحركة اللام وقال أبو علي القول في ﴿عادا الأولى﴾ أن من حقق الهمزة في الأولى سكن لام المعرفة وإذا سكنت لام المعرفة والتنوين من قولك عادا المنصوب ساكن التقى ساكنان النون في عادا ولام المعرفة فحركت التنوين بالكسر لالتقاء الساكنين أن يحذفه هنا قول من لم يدغم وقياس قول من قال أحد الله فحذف التنوين لالتقاء الساكنين أن يحذفه هنا أيضا كما حذفه في أحد الله وكما حذفه في قوله ولا ذاكرا لله إلا أن ذا لا يدخل في القراءة وإن كان قياسا وجاء في الشعر كثيرا وجاء في بعض القراءة ويجوز في قول من خفف الهمزة من الأولى على قول من قال الحمر فلم يحذف الهمزة التي للوصل أن يحرك التنوين فيقول عادن الولي كما يقول ذلك إذا حقق الهمزة لأن اللام على هذا في تقدير السكون فكما تكسر التنوين لالتقاء الساكنين كذا تكسره في هذا القول لأن التنوين في تقدير الالتقاء مع الساكن ومن حرك لام المعرفة وحذف همزة الوصل فقياسه أن يسكن النون من عادن فيقول عادن لولى لأن اللام ليس في تقدير السكون كما كان في الوجه الأول كذلك أ لا ترى أنه حذف همزة الوصل فإذا كان كذلك ترك النون على سكونها كما تتركه في نحو عاد ذاهب فأما قول أبي عمرو عاد لولى فإنه لما خفف الهمزة التي هي منقلبة عن الفاء لاجتماع الواوين أولا ألقى حركتها على اللام الساكنة وقبل اللام نون ساكنة فأدغمها في اللام كما يدغمها في الراء في نحو من راشد وذلك بعد أن يقلبها لاما أو راء فإذا أدغمها فيها صار عاد لولى وخرج عن الإساءة التي نسبها إليه أبو عثمان من وجهين (أحدهما) أن يكون تخفيف الهمزة من قوله ﴿الأولى﴾ على قول من قال لحمر كأنه يقول في التخفيف للهمزة قبل الإدغام لولى فخرجت اللام من حكم السكون بدلالة حذف همزة الوصل معه فحسن الإدغام فيه (والوجه الآخر) أن يكون أدغم على قول من قال الولي الحمر فلم يحذف الهمزة التي للوصل مع إلقاء الحركة على لام المعرفة لأنه في تقدير السكون فلا يمتنع أن يدغم فيه كما لا يمتنع أن يدغم في نحو رد وفر وعض وإن كانت لاماتهن سواكن وتحركها للإدغام كما تحركت السواكن التي ذكرنا للإدغام وأما ما روي عن نافع من أنه همز فقال عاد لؤلى فإنه كما روي عن ابن كثير من قوله على سؤقه فوجهه أن الضمة لقربها من الواو وأنه لم يحجز بينهما شيء صارت كأنها عليها فهمزها كما تهمز الواوات إذا كانت مضمومة نحو أدؤر والغوؤر وهذه لغة قد رويت وحكيت وإن لم تكن بتلك الفاشية.
اللغة:
المني التقدير يقال منى يمني فهو مان قال الشاعر:
حتى تبين ما يمني لك الماني ومنه المنية لأنها المقدرة والنشأة الصنعة المخترعة خلاف المشيئة وأقنى من القنية وهي أصل المال وما يقتني والاقتناء جعل الشيء للنفس على الدوام ومنه القناة لأنها مما تقتنى والشعرى النجم الذي خلف الجوزاء وهو أحد كوكبي ذراع الأسد وقسم المرزم وكانوا يعبدونها في الجاهلية والمؤتفكة المنقلبة وهي التي صار أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ائتفكت بهم تأتفك ائتفاكا ومنه الإفك الكذب لأنه قلب المعنى عن جهته وأهوى أي أنزل بها في الهواء ومنه أهوى بيده ليأخذ كذا وهوى يهوي نزل في الهوي فأما إذا نزل في سلم أو درج فلا يقال أهوى ولا هوى وأزفت الآزفة أي دنت الدانية قال النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برجالنا
وكان قد وقال كعب بن زهير:
بأن الشباب وأمسى الشيب قد أزفا
ولا أرى لشباب ذاهب خلفا
والسمود اللهو والسامد اللاهي يقال سمد يسمد قال:
رمى الحدثان نسوة آل حرب
بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوههن البيض سودا
المعنى:
ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال ﴿وأن إلى ربك المنتهى﴾ يعني وأن إلى ثواب ربك وعقابه آخر الأمر والمنتهى والآخر واحد وهو المصير إلى حيث ينقطع العمل عنده ﴿وأنه هو أضحك وأبكى﴾ أي فعل سبب الضحك والبكاء من السرور والحزن كما يقال أضحكني فلان وأبكاني عن عطاء والجبائي وقيل أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار عن مجاهد والضحك والبكاء من فعل الإنسان قال الله تعالى ﴿فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا﴾ وقال تعجبون وتضحكون فنسب الضحك إليهم وقال الحسن أن الله سبحانه هو الخالق للضحك والبكاء والضحك تفتح أسرار الوجه عن سرور وعجب في القلب فإذا هجم على الإنسان منه ما لا يمكنه دفعه فهو من فعل الله والبكاء جريان الدمع على الخد عن غم في القلب وربما كان عن فرح يمازجه تذكر حزن فكأنه عن رقة في القلب وقيل معنى الآية أضحك الأشجار بالأنوار وأبكى السحاب بالأمطار وقيل أضحك المطيع بالرحمة وأبكى العاصي بالسخطة ﴿وأنه هو أمات وأحيا﴾ أي خلق الموت فأمات به الأحياء لا يقدر على ذلك غيره لأنه لو قدر على الموت لقدر على الحياة فإن القادر على الشيء قادر على ضده ولا يقدر أحد على الحياة إلا الله تعالى وخلق الحياة التي يحيا بها الحيوان فأمات الخلق في الدنيا وأحياهم في العقبي للجزاء ﴿وأنه خلق الزوجين﴾ أي الصنفين ﴿الذكر والأنثى﴾ من كل حيوان ﴿من نطفة إذا تمنى﴾ أي إذا خرجت منهما وتنصب في الرحم والنطفة ماء الرجل والمرأة التي يخلق منها الولد عن عطاء والضحاك والجبائي وقيل تمنى أي تقدر وهو أصله فالمعنى تلقى على تقدير في رحم الأنثى ﴿وأن عليه النشأة الأخرى﴾ أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة يعني عليه أن يبعث الناس أحياء للجزاء فإن قيل إن لفظة على كلمة إيجاب فكيف يجب على الله سبحانه ذلك فالجواب أنه سبحانه إذا كلف الخلق فقد ضمن الثواب فإذا فعل فيهم الآلام فقد ضمن العوض فإذا لم يعوض في الدنيا وخلى بين المظلوم والظالم فلا بد من دار أخرى يقع فيها الجزاء والإنصاف والانتصاف وقد وعد سبحانه بذلك فيجب الوفاء به ﴿و أنه هو أغنى وأقنى﴾ أي أغنى الناس بالأموال وإعطاء القنية وأصول المال وما يدخرونه بعد الكفاية عن أبي صالح وقيل أقنى أي أخدم عن الحسن ومجاهد وقتادة وقيل أغنى مؤول وأقنى أرضى بما أعطى عن ابن عباس وقيل أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا عن سفيان وقيل أغنى بالكفاية وأقنى بالزيادة وقيل أغنى من شاء وأقنى أي أفقر وحرم من شاء عن ابن زيد ﴿وأنه هو رب الشعرى﴾ أي خالق الشعرى ومخترعها ومالكها أي فلا تتخذوا المربوب المملوك إلها وقيل إن خزاعة كانت تعبدها وأول من عبدها أبو كبشة أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل أمهاته وكان المشركون يسمونه (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن أبي كبشة لمخالفته إياهم في الدين كما خالف أبو كبشة غيره في عبادة الشعرى ﴿وأنه أهلك عادا الأولى﴾ وهو عاد بن إرم وهم قوم هود أهلكهم الله بريح صرصر عاتية وكان لهم عقب فكانوا عادا الأخرى قال ابن إسحاق أهلكوا ببغي بعضهم على بعض فتفانوا بالقتل ﴿وثمودا﴾ أي وأهلك ثمود ﴿فما أبقى﴾ ولا يجوز أن يكون منصوبا بأبقى لأن ما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لا يقال زيدا ما ضربت لأنها تجري مجرى الاستفهام في أن لها صدر الكلام وإنما فتحت أن في هذه المواضع كلها لأن جميعها في صحف إبراهيم وموسى فكأنه قال أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وبأنه كذا وكذا ﴿وقوم نوح من قبل﴾ أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود ﴿إنهم كانوا هم أظلم وأطغى﴾ من غيرهم لطول دعوة نوح وعتوهم على الله في الكفر والتكذيب ﴿والمؤتفكة﴾ يعني قرى قوم لوط المخسوفة ﴿أهوى﴾ أي أسقط أهواها جبرائيل بعد أن رفعها وأتبعهم الله بالحجارة وذلك قوله ﴿فغشاها ما غشى﴾ أي ألبسها من العذاب ما ألبس يعني الحجارة المسومة التي رموا بها من السماء عن قتادة وابن زيد وقيل أنه تفخيم لشأن العذاب الذي نالها من جهة إبهامه في قوله ﴿ما غشى﴾ فكأنه قال قد حل بهم من العذاب والتنكيل ما يجل عن البيان والتفصيل ﴿فبأي آلاء ربك تتمارى﴾ أي بأي نعم ربك ترتاب وتشك أيها الإنسان فيما أولاك أو فيما كفاك عن قتادة وقيل لما عد الله سبحانه ما فعله مما يدل على وحدانيته قال فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك وإنما ذكره بالنعم بعد تعديد النقم لأن النقم التي عددت هي نعم علينا لما لنا فيها من اللطف في الانزجار عن القبيح إذ نالهم تلك النقم بكفرانهم النعم ﴿هذا نذير من النذر الأولى﴾ أشار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قتادة والنذر الأولى الرسل قبله وقيل هو إشارة إلى القرآن والنذر الأولى صحف إبراهيم وموسى عن أبي مالك وقيل معناه هذه الأخبار التي أخبر بها عن إهلاك الأمم الأولى نذير لكم عن الجبائي ﴿أزفت الآزفة﴾ أي دنت القيامة واقتربت الساعة وإنما سميت القيامة آزفة أي دانية لأن كل ما هو آت قريب ﴿ليس لها من دون الله كاشفة﴾ أي إذا غشيت الخلق شدائدها وأهوالها لم يكشف عنهم أحد ولم يردها عن عطاء والضحاك وقتادة وتأنيث كاشفة على تقدير نفس كاشفة أو جماعة كاشفة ويجوز أن يكون مصدرا كالعاقبة والعاقبة والواقية والخائنة فيكون المعنى ليس لها من دون الله كشف أي لا يكشف عنها غيره ولا يظهرها سواه كقوله ﴿لا يجليها لوقتها﴾ إلا هو ﴿أفمن هذا الحديث﴾ يعني بالحديث ما قدم من الأخبار عن الصادق (عليه السلام) وقيل معناه أ فمن هذا القرآن ونزوله من عند الله على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكونه معجزا ﴿تعجبون﴾ أيها المشركون ﴿وتضحكون﴾ استهزاء ﴿ولا تبكون﴾ انزجارا لما فيه من الوعيد ﴿وأنتم سامدون﴾ أي غافلون لاهون معرضون عن ابن عباس ومجاهد وقيل هو الغناء كانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه عن عكرمة ﴿فاسجدوا لله واعبدوا﴾ أمرهم سبحانه بالسجود له والعبادة خالصا مخلصا وفي الآية دلالة على أن السجود هاهنا واجب على ما ذهب إليه أصحابنا لأن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب.