الآيات 11-20

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ﴿11﴾ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا ﴿12﴾ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ﴿13﴾ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ﴿14﴾ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ﴿15﴾ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ﴿16﴾ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ﴿17﴾ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴿18﴾ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴿19﴾ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ﴿20﴾

القراءة:

قرأ أهل العراق غير أبي عمرو يسلكه بالياء والباقون بالنون وقرأ ابن عامر برواية هشام لبدا بضم اللام والباقون بكسرها وقرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة ﴿قل إنما أدعوا﴾ والباقون قال وفي الشواذ قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب لو استقاموا بضم الواو وقراءة الحسن والجحدري لبدا بالتشديد وفي رواية أخرى عن الجحدري لبدا بضمتين.

الحجة:

من قرأ ﴿يسلكه﴾ بالياء فلتقدم ذكر الغيبة في قوله ﴿ومن يعرض عن ذكر ربه﴾ ومن قرأ بالنون فهو مثل قوله وآتينا موسى الكتاب بعد قوله سبحانه الذي أسرى ومن قرأ قال إنما أدعوا فلتقدم ذكر الغيبة أيضا في قوله ﴿وأنه لما قام عبد الله﴾ ومن قرأ ﴿قل﴾ فلأن بعده قل إني لا أملك قل إني لن يجيرني من الله أحد ومن قرأ لبدا فإن اللبد الكثير من قوله مالا لبدا وكأنه قيل له لبد لركوب بعضه على بعض ولصوق بعضه ببعض لكثرته واللبد جمع لبدة وهي الجماعة وقد يقال ذلك للجراد الكثير قال بعض الهذليين:

صابوا بستة أبيات وواحدة

حتى كان عليهم جابيا لبدا

قال الجبائي هو الجراد لأنه يجبي كل شيء بأكله وقال الزجاج اللبدة واللبدة بمعنى ومن قرأ لبدا بالتشديد فإنه وصف على فعل كالجبا والزمل ويجوز أن يكون جمع لأبد فيكون مثل راكع وركع واللبد من الأوصاف التي جاءت على فعل كناقة سرح ورجل طلق ومن قرأ لو استقاموا فإنه على التشبيه بواو الجماعة نحو قوله اشتروا الضلالة كما شبهت تلك بهذه فقيل اشتروا الضلالة وقد مضى هذا في سورة البقرة.

اللغة:

الصالح عامل الصلاح الذي يصلح به حاله في دينه وأما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي يقوم به أمر من الأمور ولهذا يوصف سبحانه بأنه مصلح ولا يوصف بأنه صالح والطرائق جمع طريقة وهي الجهة المستمرة مرتبة بعد مرتبة والقدد القطع جمع قدة وهي المستمرة بالقد في جهة واحدة والرهق لحاق السرف في الأمر وهو الظلم والقاسط الجائر والمقسط العادل ونظيره الترب الفقير والمترب الغني وأصله التراب فالأول ذهب ماله حتى لصق بالتراب والآخر كثر ماله حتى صار بعدد التراب وكذلك القاسط هو العادل عن الحق والمقسط العادل إلى الحق قال:

قوم هم قتلوا ابن هند عنوة

عمرا وهم قسطوا على النعمان

وقال آخر:

قسطنا على الأملاك في عهد تبع

ومن قبل ما أردى النفوس عقابها

والتحري تعمد إصابة الحق وأصله طلب الشيء والقصد له قال امرؤ القيس:

ديمة هطلاء فيها وطف

طبق الأرض تحري وتدر

وماء غدق كثير وغدق المكان يغدق غدقا كثر فيه الماء والندى وهو غدق عن الزجاج وقال أمية بن أبي الصلت:

مزاجها سلسبيل ماؤها غدق

عذب المذاقة لا ملح ولا كدر

والصعد الغليظ الصعب المتصعب في العظم ومنه التنفس الصعداء والصعود العقبة الكؤود الشاقة.

المعنى:

ثم قال سبحانه في تمام الحكاية عن الجن الذين آمنوا عند سماع القرآن ﴿وأنا منا الصالحون﴾ وهم الذين عملوا الصالحات المخلصون ﴿ومنا دون ذلك﴾ أي دون الصالحين في الرتبة عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ﴿كنا طرائق قددا﴾ أي فرقا شتى على مذاهب مختلفة وأهواء متفرقة من مسلم وكافر وصالح ودون الصالح عن ابن عباس ومجاهد وقيل قددا ألوانا شتى مختلفين عن سعيد بن جبير والحسن وقيل فرقا متباينة كل فرقة تباين صاحبتها كما يبين المقدود بعضه من بعض قال السدي الجن أمثالكم فيهم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة ﴿وأنا ظننا﴾ أي علمنا وتيقنا ﴿أن لن نعجز الله في الأرض﴾ أي لن نفوته إذا أراد بنا أمرا ﴿ولن نعجزه هربا﴾ أي أنه يدركنا حيث كنا ﴿وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به﴾ اعترفوا بأنهم لما سمعوا القرآن الذي فيه الهدى صدقوا به ثم قالوا ﴿فمن يؤمن بربه﴾ أي يصدق بتوحيد ربه وعرفه على صفاته ﴿فلا يخاف﴾ تقديره فإنه لا يخاف ﴿بخسا﴾ أي نقصانا فيما يستحقه من الثواب ﴿ولا رهقا﴾ أي لحاق ظلم وغشيان مكروه وكأنه قال لا يخاف نقصا قليلا ولا كثيرا وذلك أن أجره وثوابه موفر على أتم ما يمكن فيه وقيل معناه فلا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته عن ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد قالوا لأن البخس النقصان والرهق العدوان وهذه حكاية عن قوة إيمان الجن وصحة إسلامهم ثم قالوا ﴿وأنا منا المسلمون﴾ الذين استسلموا لما أمرهم الله سبحانه به وانقادوا لذلك ﴿ومنا القاسطون﴾ أي الجائرون عن طريق الحق ﴿فمن أسلم﴾ لما أمره الله به ﴿فأولئك تحروا رشدا﴾ أي توجهوا الرشد والتمسوا الثواب والهدى وتعمدوا إصابة الحق وليسوا كالمشركين الذين ألفوا ما يدعوهم إليه الهوى وزاغوا عن طريق الهدى ﴿وأما القاسطون﴾ العادلون عن طريق الحق والدين ﴿فكانوا﴾ في علم الله وحكمه ﴿لجهنم حطبا﴾ يلقون فيها فتحرقهم كما تحرق النار الحطب أو يكون معناه فسيكونون لجهنم حطبا توقد بهم كما توقد النار بالحطب ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا﴾ هذا ابتداء حكم من الله سبحانه أي لو استقام الإنس والجن على طريقة الإيمان عن ابن عباس والسدي وقيل أراده مشركي مكة أي لو آمنوا واستقاموا على الهدى لأسقيناهم ماء كثيرا من السماء وذلك بعد ما رفع ماء المطر عنهم سبع سنين عن مقاتل وقيل لو آمنوا واستقاموا لوسعنا عليهم في الدنيا وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير كله والرزق يكون في المطر وهذا كقوله ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة﴾ إلى قوله ﴿لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ وقوله ﴿لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾ وقيل معناه لو استقاموا على طريقة الكفر فكانوا كفارا كلهم لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسعنا عليهم تغليظا للمحنة في التكليف ولذلك قال ﴿لنفتنهم فيه﴾ أي لنختبرهم بذلك عن الفراء وهو قول الربيع والكلبي والثمالي وأبي مسلم وابن مجلز ودليله فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم الآية وقيل لنفتنهم معناه لنعاملهم معاملة المختبر في شدة التعبد بتكليف الانصراف عما تدعو شهواتهم إليه وفي ذلك المحنة الشديدة وهي الفتنة والمثوبة على قدر المشقة في الصبر عما تدعو إليه الشهوات وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في هذه الآية أينما كان الماء كان المال وأينما كان المال كانت الفتنة وقيل معناه لتختبرهم كيف يكون شكرهم للنعم عن سعيد بن المسيب وقتادة ومقاتل والحسن والأولى أن تكون الاستقامة على الطريقة محمولة على الاستقامة في الدين والإيمان لأنها لا تطلق إلا على ذلك ولأنها في موضع التلطف والاستدعاء إلى الإيمان والحث على الطاعة وفي تفسير أهل البيت (عليهم السلام) عن أبي بصير قال قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾ قال هو والله ما أنتم عليه ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وعن بريد العجلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال معناه لأفدناهم علما كثيرا يتعلمونه من الأئمة ثم قال سبحانه على وجه التهديد والوعيد ﴿ومن يعرض عن ذكر ربه﴾ أي ومن يعدل عن الفكر فيما يؤديه إلى معرفة الله وتوحيده والإخلاص في عبادته وقيل عن شكر الله وطاعته ﴿يسلكه عذابا صعدا﴾ أي يدخله عذابا شاقا شديدا متصعدا في العظم وإنما قال يسلكه لأنه تقدم ذكر الطريقة وقيل معناه عذابا ذا صعد أي ذا مشقة ﴿وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا﴾ تقديره ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سوى الله عن الخليل والمعنى لا تذكروا مع الله في المواضع التي بنيت للعبادة والصلاة أحدا على وجه الإشراك في عبادته كما تفعل النصارى في بيعهم والمشركون في الكعبة قال الحسن من السنة عند دخول المساجد أن يقال لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا وقيل المساجد مواضع السجود من الإنسان وهي الجبهة والكفان وأصابع الرجلين وعينا الركبتين وهي لله تعالى إذ خلقها وأنعم بها فلا ينبغي أن يسجد بها لأحد سوى الله تعالى عن سعيد بن جبير والزجاج والفراء وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن قوله تعالى ﴿وأن المساجد لله﴾ فقال هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها وقيل إن المراد بالمساجد البقاع كلها وذلك لأن الأرض كلها جعلت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسجدا عن الحسن وقال سعيد بن جبير قالت الجن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك فنزلت الآية وروي عن الحسن أيضا أن المساجد الصلوات وهي لله والمراد أخلصوا لله العبادة وأقروا له بالتوحيد ولا تجعلوا فيها لغير الله نصيبا ﴿وأنه لما قام عبد الله﴾ يريد به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿يدعوه﴾ بقول لا إله إلا الله ويدعو إليه ويقرأ القرآن ﴿كادوا يكونون عليه لبدا﴾ أي كاد الجن يركب بعضهم بعضا يزدحمون عليه حرصا منهم على استماع القرآن عن ابن عباس والضحاك وقيل هو من قول الجن لأصحابهم حين رجعوا إليهم والمراد أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتزاحمون عليه لاستماع القرآن منه يود كل واحد منهم أن يكون أقرب من صاحبه فيتلبد بعضهم على بعض عن سعيد بن جبير وقيل هو من جملة ما أوحى الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان من حرص الجن على استماع القرآن وقيل معناه أنه لما دعا قريشا إلى التوحيد كادوا يتراكبون عليه بالزحمة جماعات متكاثرات ليزيلوه بذلك عن الدعوة وأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على ما ناواه عن قتادة والحسن وعلى هذا فيكون ابتداء كلام ﴿قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا﴾ وذلك أنهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع مثله فارجع عنه فأجابهم بهذا عن مقاتل وأمره سبحانه بأن يجيبهم بهذا فقال ﴿قل إنما أدعو ربي﴾ وهذا يعضد قول الحسن وقتادة لأنه كالذم لهم على ذلك.