الآيات 1-6

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿1﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴿2﴾ إِلَهِ النَّاسِ ﴿3﴾ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿4﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴿5﴾ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ﴿6﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو الدوري عن الكسائي يميل الناس في موضع الجر ولا يميل في الرفع والنصب والباقون لا يميلون.

اللغة:

الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي وأصله الصوت الخفي من قول الأعشى:

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت

كما استعان بريح عشرق زجل

قال رؤبة:

وسوس يدعو مخلصا رب الفلق

سرا وقد أون تأوين العقق

والوسوسة كالهمهمة ومنه قولهم فلان موسوس إذا غلب عليه ما يعتريه من المرة يقال وسوس وسواسا ووسوسة وتوسوس والخنوس الاختفاء بعد الظهور خنس يخنس ومنه الخنس في الأنف لخفائه بانخفاضة عند ما يظهر بنتوة وأصل الناس الأناس فحذفت الهمزة التي هي فأويد لك على ذلك الإنس والأناس وأما قولهم في تحقيره نويس فإن الألف لما كانت ثانية زائدة أشبهت ألف فاعل فقلبت واوا.

الإعراب:

قيل إن قوله ﴿من الجنة﴾ بدل من قوله ﴿من شر الوسواس﴾ فكأنه قال أعوذ بالله من شر الجنة والناس وقيل إن من تبين للوسواس والتقدير من شر ذي الوسواس الخناس من الجنة والناس أي صاحب الوسواس الذي من الجنة والناس فيكون الناس معطوفا على الوسواس الذي هو في معنى ذي الوسواس وإن شئت لم تحذف المضاف فيكون التقدير من شر الوسواس الواقع من الجنة التي توسوسه في صدور الناس فيكون فاعل يوسوس ضمير الجنة وإنما ذكر لأن الجنة والجن واحد وجازت الكناية عنه وإن كان متأخرا لأنه في نية التقديم فجرى مجرى قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى وحذف العائد من الصلة إلى الموصوف كما في قوله أ هذا الذي بعث الله رسولا أي بعثه الله رسولا.

المعنى:

﴿قل﴾ يا محمد ﴿أعوذ برب الناس﴾ أي خالقهم ومدبرهم ومنشئهم ﴿ملك الناس﴾ أي سيدهم والقادر عليهم ولم يجز هنا إلا ملك وجاز في فاتحة الكتاب ملك ومالك وذلك لأن صفة ملك تدل على تدبير من يشعر بالتدبير وليس كذلك مالك وذلك لأنه يجوز أن يقال مالك الثوب ولا يجوز ملك الثوب فجرت اللفظة في فاتحة الكتاب على معنى الملك في يوم الجزاء وجرت في هذه السورة على ملك تدبير من يعقل التدبير فكان لفظ ملك أولى هنا وأحسن ومعناه ملك الناس كلهم وإليه مفزعهم في الحوائج ﴿إله الناس﴾ معناه الذي يجب على الناس أن يعبدوه لأنه الذي تحق له العبادة دون غيره وإنما خص سبحانه الناس وإن كان سبحانه ربا لجميع الخلائق لأن في الناس عظماء فأخبر بأنه ربهم وإن عظموا ولأنه سبحانه أمر بالاستعاذة من شرهم فأخبر بذكرهم أنه الذي يعيذه منهم وفي الناس ملوك فذكر أنه ملكهم وفي الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم ومعبودهم وأنه هو المستحق للعبادة دون غيره قال جامع العلوم النحوي وليس قوله ﴿الناس﴾ تكرارا لأن المراد بالأول الأجنة ولهذا قال ﴿برب الناس﴾ لأنه يربيهم والمراد بالثاني الأطفال ولذلك قال ﴿ملك الناس﴾ لأنه يملكهم والمراد بالثالث البالغون المكلفون ولذلك قال ﴿إله الناس﴾ لأنهم يعبدونه والمراد بالرابع العلماء لأن الشيطان يوسوس إليهم ولا يريد الجهال لأن الجاهل يضل بجهله وإنما تقع الوسوسة في قلب العالم كما قال فوسوس إليه الشيطان وقوله ﴿من شر الوسواس الخناس﴾ فيه أقوال (أحدها) أن معناه من شر الوسوسة الواقعة من الجنة وقد مر بيانه (وثانيها) أن معناه من شر ذي الوسواس وهو الشيطان كما جاء في الأثر أنه يوسوس فإذا ذكر العبد ربه خنس ثم وصفه الله تعالى بقوله ﴿الذي يوسوس في صدور الناس﴾ أي بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع ثم ذكر أن هذا الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس ﴿من الجنة﴾ وهم الشياطين كما قال سبحانه إلا إبليس كان من الجن ثم عطف بقوله ﴿والناس﴾ على الوسواس والمعنى من شر الوسواس ومن شر الناس كأنه أمر أن يستعيذ من شر الجن والإنس (وثالثها) أن معناه من شر ذي الوسواس الخناس ثم فسره بقوله ﴿من الجنة والناس﴾ كما يقال نعوذ بالله من شر كل مارد من الجن والإنس وعلى هذا فيكون وسواس الجنة هو وسواس الشيطان على ما مضى وفي وسواس الإنس وجهان (أحدهما) أنه وسوسة الإنسان من نفسه (والثاني) إغواء من يغويه من الناس ويدل عليه قوله شياطين الإنس والجن فشيطان الجن يوسوس وشيطان الإنس يأتي علانية ويرى أنه ينصح وقصده الشر قال مجاهد: الخناس الشيطان إذا ذكر اسم الله سبحانه خنس وانقبض وإذا لم يذكر الله انبسط على القلب ويؤيده ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الشيطان واضح خطمة على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله سبحانه خنس وإذا نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس وقيل الخناس معناه الكثير الاختفاء بعد الظهور وهو المستتر المختفي من أعين الناس لأنه يوسوس من حيث لا يرى بالعين وقال إبراهيم التيمي أول ما يبدو الوسواس من قبل الوضوء وقيل إن معنى قوله ﴿يوسوس في صدور الناس﴾ يلقي الشغل في قلوبهم بوسواسه والمراد أن له رفقاء به يوصل الوسواس إلى المصدر وهو أقرب من خلوصه بنفسه إلى صدره وفي هذا إشارة إلى أن الضرر يلحق من جهة هؤلاء وأنهم قادرون على ذلك ولولاه لما حسن الأمر بالاستعاذة منهم وفيه دلالة على أنه لا ضرر ممن يتعوذ به وإنما الضرر كله ممن يتعوذ منه ولو كان سبحانه خالقا للقبائح لكان الضرر كله منه جل وعز وفيه إشارة أيضا إلى أنه سبحانه يراعي حال من يتعوذ به فيكفيه شرورهم ولولا ذلك لما دعاه إلى التعوذ به من شرورهم ولما وصف سبحانه نفسه بأنه الرب الإله الغني عن الخلق فإن من احتاج إلى غيره لا يكون إلها ومن كان غنيا عالما لغناه لا يختار فعل القبيح ولهذا حسنت الاستعاذة به من شر غيره وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إذا قرأت قل أعوذ برب الفلق فقل في نفسك أعوذ برب الفلق وإذا قرأت قل أعوذ برب الناس قل في نفسك أعوذ برب الناس وروى العياشي بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان أذن ينفث فيها الملك وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك وهو قوله سبحانه وأيدهم بروح منه.