الآيات 27-46

أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ﴿27﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28﴾ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29﴾ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿32﴾ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴿33﴾ فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ﴿34﴾ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ﴿35﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ﴿36﴾ فَأَمَّا مَن طَغَى ﴿37﴾ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿38﴾ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿39﴾ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴿41﴾ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴿42﴾ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿43﴾ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ﴿44﴾ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴿45﴾ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴿46﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر والعباس عن العياشي عن أبي عمرو وإنما أنت منذر بالتنوين والباقون بغير تنوين وفي الشواذ قراءة الحسن وعمرو بن عبيد والجبال أرساها بالرفع وقراءة مجاهد والأرض مع ذلك دحاها وقراءة عكرمة وبرزت الجحيم لمن ترى بالتاء.

الحجة:

قال أبو علي حجة التنوين في قوله إنما أنت منذر أن اسم الفاعل هنا للحال ويدل عليه قوله ﴿قل إنما أنذركم بالوحي﴾ فليس المراد أنذر فيما استقبل وإنما يقول أنذر في الحال واسم الفاعل على قياس الفعل ومن أضاف استخف فحذف التنوين كما حذف من قوله فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم ونحو ذلك مما جاء على لفظ الإضافة والمراد به الانفصال ويجوز أن يكون منذر من على نحو هذا ضارب زيدا أمس لأنه قد فعل الإنذار ومن قرأ والجبال أرساها بالرفع فإنه مثل قراءة من قرأ والظالمون أعد لهم وقد تقدم بيانه ومن قرأ والأرض مع ذلك فلعله قال ذلك تفسيرا للقراءة المشهورة لأنه ليس الغرض فيه ترتيب الزمان وإنما الغرض اجتماعهما أعني السماوات والأرض في الخلق لا في أن زمان الفعلين واحد وهذا كقولك فلان كريم فيقول السامع وهو مع ذلك شجاع أي قد اجتمع له الوصفان وأما قوله لمن ترى بالتاء المفتوحة فيمكن أن يكون خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد لمن ترى يا محمد من الناس فأشار إلى البعض وغرضه الجنس والجميع كقول لبيد:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس كيف لبيد

فأشار إلى جنس الناس ونحن نعلم أنه ليس جميعهم شاهدا حاضرا له ويمكن أن يكون التاء في ترى للجحيم أي لمن تراه النار.

اللغة:

السمك الارتفاع وهو مقابل العمق لأنه ذهاب الجسم بالتأليف إلى جهة العلو وبالعكس صفة العمق والمسموكات السماوات لارتفاعها ومنه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) يا داعم المسموكات قال الفرزدق:

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

والتسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الآخر في نفسه أو في حكمه والغطش الظلمة وأغطشه الله أظلمه والأغطش الذي في عينيه شبه العمش وفلاة غطشاء لا يهتدى فيها والدحو البسط دحوت أدحو دحوا ودحيت أدحي دحيا لغتان قال أمية بن أبي الصلت:

دار دحاها ثم أعمر بابها

وأقام بالأخرى التي هي أمجد

وقال أوس:

ينفي الحصى عن جديد الأرض مبترك

كأنه فاحص أو لاعب داح

والطامة العالية الغالبة يقال هذا أطم من هذا أي أعلى منه وطم الطائر الشجرة علاها وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها طامة.

الإعراب:

والأرض منصوب بفعل مضمر الذي ظهر تفسيره وكذا قوله ﴿والجبال أرساها متاعا لكم﴾ مفعول له لأن المعنى لإمتاعكم ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر لأن معنى قوله ﴿أخرج منها ماءها ومرعاها﴾ أمتع بذلك وقوله ﴿فإن الجحيم هي المأوى﴾ وتقديره هي المأوى له قال الزجاج وقال قوم الألف واللام بدل من الضمير العائد أي هي ماواه والمراد أن المعنى يؤول إلى التي هي ماواه لأن الألف واللام بدل من الهاء وهذا كما يقول الإنسان غض الطرف يا هذا فليس الألف واللام بدلا من الكاف وإن كان المعنى غض طرفك لأن المخاطب يعرف أنك لا تأمره بغض طرف غيره قال:

فغض الطرف إنك من نمير

فلا سعدا بلغت ولا كلابا

وكذلك المعنى في الآية وجواب إذا في قوله ﴿فإذا جاءت الطامة الكبرى﴾ في قوله ﴿فأما من طغى﴾ وما بعده فإن المعنى إذا جاءت الطامة الكبرى فإن الأمر كذلك وقوله ﴿أوضحاها﴾ أضاف الضحى إلى العشية والغداة والعشي والضحوة والضحى لليوم الذي يكون فيه فإذا قلت أتيتك صباحا ومساء ومساءة وصباحة فالمعنى أتيتك صباحا ومساء يلي الصباح وأتيتك مساء وصباحا يلي المساء وتقول أتيتك العشية وغداتها.

المعنى:

لما قدم سبحانه ما أتى به موسى وما قابلة به فرعون وما عوقب به في الدارين عظة لمن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحذيرا لهم من المثلات خاطب عقيب ذلك منكري البعث فقال ﴿أأنتم﴾ أيها المشركون المنكرون للبعث ﴿أشد خلقا أم السماء﴾ يعني أ خلقكم بعد الموت أشد عندكم وفي تقديركم أم السماء وهما في قدرة الله تعالى واحد وهذا كقوله لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ثم ابتدأ فبين سبحانه كيف خلق السماء فقال ﴿بنيها﴾ الله تعالى الذي لا يكبر عليه خلق شيء ﴿رفع سمكها﴾ سقفها وما ارتفع منها ﴿فسواها﴾ بلا شقوق ولا فطور ولا تفاوت وقيل سواها أحكمها وجعلها متصرفا للملائكة ﴿وأغطش ليلها﴾ أي أظلم ليلها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ﴿وأخرج ضحيها﴾ أي أبرز نهارها وإنما أضاف الليل والضحى إلى السماء لأن منها منشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها على ما دبرها الله عز وجل ﴿والأرض بعد ذلك دحاها﴾ أي بعد خلق السماء بسطها من الدحو وهو البسط قال ابن عباس إن الله تعالى دحا الأرض بعد السماء وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء وكانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها وقال مجاهد والسدي معناه والأرض مع ذلك دحاها كما قال عتل بعد ذلك زنيم أي مع ذلك ﴿أخرج منها﴾ أي من الأرض ﴿ماءها﴾ والمعنى فجر الأنهار والبحار والعيون عن ابن عباس ﴿ومرعيها﴾ مما يأكل الناس والأنعام بين سبحانه بذلك جميع المنافع المتعلقة بالأرض من المياه التي بها حياة كل شيء من الحيوانات والأشجار والثمار والحبوب والعيون عن ابن عباس وبها يحصل جميع الأرزاق والنبات التي تصلح للمواشي فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه ﴿والجبال أرسيها﴾ أي أثبتها في أوساط الأرض ﴿متاعا لكم ولأنعامكم﴾ أي خلق سبحانه الأرض وأخرج منها المياه والمراعي وأثبت الجبال بما فيها من أنواع المعادن لمنفعتكم ومنفعة أنعامكم تنتفعون بها ولما دل سبحانه بهذه الأشياء على صحة البعث وصف يوم البعث فقال ﴿فإذا جاءت الطامة الكبرى﴾ وهي القيامة لأنها تطم على كل داهية هائلة أي تعلو وتغلب ومن ذلك يقال ما من طامة إلا وفوقها طامة والقيامة فوق كل طامة فهي الداهية العظمى قال الحسن هي النفخة الثانية وقيل هي الغاشية الغليظة المجللة التي تدقق الشيء بالغلظ وقيل إن ذلك حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار ﴿يوم يتذكر الإنسان ما سعى﴾ أي تجيء الطامة في يوم يتذكر الإنسان ما عمله من خير أو شر ﴿وبرزت الجحيم﴾ أي أظهرت النار ﴿لمن يرى﴾ فيراها الخلق مكشوفا عنها الغطاء ويبصرونها مشاهدة ﴿فأما من طغى﴾ أي تجاوز الحد الذي حده الله وارتكب المعاصي ﴿وآثر الحياة الدنيا﴾ على الآخرة ﴿فإن الجحيم هي المأوى﴾ له والإيثار إرادة الشيء على طريقة التفضيل له على غيره ﴿وأما من خاف مقام ربه﴾ أي خاف مقام مسألة ربه عما يجب عليه فعله أو تركه ﴿ونهى النفس عن الهوى﴾ أي عن المحارم التي تشتهيها وتهواها وقيل إن الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها عن مقاتل ﴿فإن الجنة هي المأوى﴾ له أي هي مقره وماواه ثم خاطب سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ﴿يسئلونك عن الساعة أيان مرسيها﴾ أي متى يكون قيامها ثابتة على ما وصفتها ﴿فيم أنت من ذكريها﴾ أي لست في شيء من علمها وذكراها والمعنى لا تعلمها قال الحسن أي ليس عندك علم بوقتها وإنما تعلم أنها تكون لا محالة وقيل معناه ليس هذا مما يتصل بما بعثت لأجله فإنما بعثت داعيا وقيل إنها من حكاية قولهم والمعنى أنك قد أكثرت من ذكراها فمتى يكون ﴿إلى ربك منتهيها﴾ أي قل لهم إلى الله إجراؤها والمنتهى موضع بلوغ الشيء فكأنه قيل إلى أمر ربك منتهى أمرها بإقامتها لأن منتهى أمرها بذكرها ووصفها والإقرار بها إلى الرسول ومنتهى أمرها بإقامتها إلى الله لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وقيل معناه إلى ربك منتهى علمها أي لا يعلم وقتها إلا هو عن الحسن ﴿إنما أنت منذر من يخشيها﴾ أي إنما أنت مخوف من يخاف قيامها أي إنما ينفع إنذارك من يخافها فأما من لا يخشاها فكأنك لم تنذره ﴿كأنهم يوم يرونها﴾ أي يعاينون القيامة ﴿لم يلبثوا﴾ في الدنيا ﴿إلا عشية أو ضحيها﴾ أي إلا قدر آخر نهار وأوله ومثله كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار وقد مر بيانه وقيل إن معناه أنهم إذا رأوا الآخرة صغرت الدنيا في أعينهم حتى كأنهم لم يقيموا بها إلا مقدار عشية أو مقدار ضحى تلك العشية عن قتادة.