الآيات 23-31

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ﴿23﴾ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿24﴾ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿25﴾ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴿26﴾ إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴿27﴾ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﴿28﴾ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿29﴾ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿30﴾ يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿31﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وما يشاءون بالياء والباقون بالتاء وفي الشواذ قراءة عبد الله بن الزبير وأبان بن عثمان والظالمون بالواو.

الحجة:

وجه الياء قوله تعالى ﴿فمن شاء اتخذ﴾ ووجه التاء أنه خطاب للكافة أي وما تشاءون الطاعة والاستقامة إلا أن يشاء الله أو يكون محمولا على الخطاب وأما قوله والظالمون فإنه على ارتجال جملة مستأنفة قال ابن جني كأنه قال الظالمون أعد لهم عذابا أليما ثم أنه عطف الجملة على ما قبلها وقد سبق الرفع إلى مبتدئها غير أن قراءة الجماعة أسبق وهو النصب لأن معناه ويعذب الظالمين فلما أضمر هذا الفعل فسره بقوله ﴿أعد لهم عذابا أليما﴾ وهذا أكثر من أن يؤتى له بشاهد قال الزجاج يقول النحويون أعطيت زيدا وعمرا أعددت له برا فيختارون النصب على معنى وبررت عمرا أعددت له برا وأنشد غيره:

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

اللغة:

الأسر أصله الشد ومنه قتب مأسور أي مشدود ومنه الأسير لأنهم كانوا يشدونه بالقدر قولهم خذ بأسره أي بشدة قبل أن يحل ثم كثر حتى صار بمعنى خذ جميعه قال الأخطل:

من كل مجتنب شديد أسره

سلس القياد تخاله مختالا

الإعراب:

قال الزجاج في قوله ﴿ولا تطع منهم آثما وكفورا﴾ أو هنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص لأنك أمرته أن لا يطيع الاثنين وإذا قلت لا تطع منهم آثما أو كفورا فأو قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصي وأنهما أهل أن يعصيا كما أنك إذا قلت جالس الحسن أو ابن سيرين فقد قلت كل واحد منهما أهل أن يجالس قال البصير النحوي أو هذه التي للتخيير إذا قلت اضرب زيدا أو عمرا فمعناه اضرب أحدهما فإذا قلت لا تضرب زيدا أو عمرا فمعناه لا تضرب أحدهما فيحرم عليه ضربهما لأن أحدهما في النفي يعمم وابن كيسان يحمل النهي على الأمر فيقول إذا قال لا تضرب أحدهما لم يحرم عليه ضربهما وإنما حرم في الآية طاعتهما لأن أحدهما بمنزلة الآخر في امتناع الطاعة له ألا ترى أن الآثم مثل الكفور في هذا المعنى قال سيبويه ولو قال لا تطع آثما ولا تطع كفورا لانقلب المعنى إذ ذاك لأنه حينئذ لا تحرم طاعتهما كليهما.

المعنى:

ثم أخبر سبحانه عن نفسه فقال ﴿إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا﴾ فيه شرف وتعظيم لك وقيل معناه فصلناه في الإنزال آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة عن ابن عباس ﴿فاصبر﴾ يا محمد على ما أمرتك به من تحمل أعباء الرسالة ﴿لحكم ربك﴾ أن تبلغ الكتاب وتعمل به وقيل أنه أمر لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وإن كذب فيما أتى به ووعيد لمن كذبه ﴿ولا تطع منهم﴾ أي من مشركي مكة ﴿آثما﴾ يعني عتبة بن ربيعة ﴿أو كفورا﴾ يعني الوليد بن المغيرة فإنهما قالا له ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج عن مقاتل وقيل الكفور أبو جهل نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاة وقال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه فنزلت الآية عن قتادة وقيل إن ذلك عام في كل عاص فاسق وكافر منهم أي من الناس أي لا تطع من يدعوك إلى إثم أو كفر وهذا أولى لزيادة الفائدة وعدم التكرير ﴿واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا﴾ أي أقبل على شأنك من ذكر الله والدعاء إليه وتبليغ الرسالة صباحا ومساء أي دائما فإن الله ناصرك ومؤيدك ومعينك والبكرة أول النهار والأصيل العشي وهو أصل الليل ﴿ومن الليل فاسجد له﴾ دخلت من للتبعيض والمعنى فاسجد له في بعض الليل لأنه لم يأمره بقيام الليل كله وقيل فاسجد له يعني صلاة المغرب والعشاء ﴿وسبحه ليلا طويلا﴾ أي في ليل طويل يريد التطوع بعد المكتوبة وروي عن الرضا (عليه السلام) أنه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية وقال ما ذلك التسبيح قال صلاة الليل ﴿إن هؤلاء يحبون العاجلة﴾ أي يؤثرون اللذات والمنافع العاجلة في دار الدنيا ﴿ويذرون وراءهم﴾ أي ويتركون أمامهم ﴿يوما ثقيلا﴾ أي عسيرا شديدا والمعنى أنهم لا يؤمنون به ولا يعملون له وقيل معنى وراءهم خلف ظهورهم وكلاهما محتمل ثم قال سبحانه ﴿نحن خلقناهم وشددنا أسرهم﴾ أي قوينا وأحكمنا خلقهم عن قتادة ومجاهد وقيل أسرهم أي مفاصلهم عن الربيع وقيل أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب عن الحسن ولو لا إحكامه إياها على هذا الترتيب لما أمكن العمل بها والانتفاع منها وقيل شددنا أسرهم جعلناهم أقوياء عن الجبائي وقيل معناه كلفناهم وشددناهم بالأمر والنهي كيلا يجاوزوا حدود الله كما يشد الأسير بالقد لئلا يهرب ﴿وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا﴾ أي أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم ولكن نبقيهم إتماما للحجة ﴿إن هذه﴾ السورة ﴿تذكرة﴾ أي تذكير وعظة يتذكر بها أمر الآخرة عن قتادة وقيل أن هذه الرسالة التي تبلغها ﴿فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا﴾ أي فمن أراد اتخذ إلى رضا ربه طريقا بأن يعمل بطاعته وينتهي عن معصيته وفي هذا دلالة على أن الاستطاعة قبل الفعل ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله﴾ أي وما تشاءون اتخاذ الطريق إلى مرضاة الله اختيارا إلا أن يشاء الله إجباركم عليه وإلجاءكم إليه فحينئذ تشاءون ولا ينفعكم ذلك والتكليف زائل ولم يشأ الله هذه المشيئة بل شاء أن تختاروا الإيمان لتستحقوا الثواب عن أبي مسلم وقيل معناه وما تشاءون شيئا من العمل بطاعته إلا والله يشاؤه ويريده وليس المراد بالآية أنه سبحانه يشاء كل ما يشاء العبد من المعاصي والمباحات وغيرها لأن الدلائل الواضحة قد دلت على أنه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح ويتعالى عن ذلك وقد قال سبحانه ولا يريد بكم العسر وما الله يريد ظلما للعباد ﴿إن الله كان عليما حكيما﴾ مر معناه ﴿يدخل من يشاء في رحمته﴾ أي جنته يعني المؤمنين ﴿والظالمين﴾ يعني ويجزي الكافرين والمشركين ﴿أعد لهم عذابا أليما﴾.