الآيات 1-10

هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴿1﴾ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿2﴾ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿3﴾ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﴿4﴾ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴿5﴾عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴿6﴾ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴿7﴾ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿8﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ﴿9﴾ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿10﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة وأبو بكر عن عاصم والكسائي سلاسلا بالتنوين وكذلك قواريرا قواريرا ويقفون بالألف على الجميع وقرأ ابن كثير وخلف سلاسل بغير تنوين وقواريرا قوارير الأول بالتنوين والثاني بغير تنوين ويقفان على سلاسل وقوارير الثانية بغير الألف وقرأ حمزة ويعقوب بغير تنوين في الجميع ويقفان بغير ألف عليها وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحفص بغير تنوين فيها أيضا إلا أنهم يقفون على سلاسل وقواريرا الأولى بالألف وعلى قوارير الثانية بغير ألف غير أن شجاعا يقف على سلاسل أيضا بغير ألف.

الحجة:

قال أبو علي حجة من صرف سلاسلا وقواريرا في الوصل والوقف أمران (أحدهما) أن أبا الحسن قال سمعنا من العرب من يصرف هذا ويصرف جميع ما لا ينصرف قال وهذه لغة أهل الشعر لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه فجرت ألسنتهم على ذلك واحتملوا ذلك في الشعر لأنه يحتمل الزيادة كما يحتمل النقص فاحتملوا زيادة التنوين والأمر الآخر أن هذه الجموع أشبهت الآحاد لأنهم قالوا صواحبات يوسف فلما جمعت جمع الآحاد المنصرفة جعلوه في حكمها فصرفوها قال أبو الحسن وكثير من العرب يقول مواليات يريد الموالي وأنشد للفرزدق:

فإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم

خضع الرقاب نواكسي الأبصار

فهذا كأنه جمع نواكس ومن قرأ بغير تنوين ولا ألف فإنه جعله كقوله ﴿لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد﴾ وإلحاق الألف في سلاسل وقوارير كالحاقة في قوله ﴿الظنونا﴾ و﴿السبيلا﴾ و﴿الرسولا﴾ يشبه ذلك بالإطلاق في القوافي من حيث كانت مثلها في أنها كلام تام.

اللغة:

الدهر مرور الليل والنهار وجمعه أدهر ودهور وأصل النطفة الماء القليل وقد تقع على الكثير قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين ذكر الخوارج مصارعهم دون النطفة يريد النهروان والجمع نطاف ونطف قال الشاعر:

وما النفس إلا نطفة بقرارة

إذا لم تكدر كان صفوا غديرها

وواحد الأمشاج مشيج ومشجت هذا بهذا أي خلطته وهو ممشوج ومشيج وواحد الأبرار بار نحو ناصر وأنصار وبر أيضا والكأس الإناء إذا كان فيه شراب قال عمرو بن كلثوم:

صددت الكأس عنا أم عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

وأوفى بالعقد ووفى به فأوفى لغة أهل الحجاز ووفى لغة تميم وأهل نجد والنذر عقد عملي فعل بر يوجبه الإنسان على نفسه نذر ينذر قال عنترة:

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما

والناذرين إذا لم ألقهما دمي

أي يقولان إن لقينا عنترة لنقتلنه والمستطير المنتشر قال الأعشى:

فبانت وقد أسأرت في الفؤاد

صدعا على نأيها مستطيرا

والقمطرير الشديد في الشر وقد اقمطر اليوم اقمطرارا ويوم قمطرير وقماطر كأنه قد التف شره بعضه على بعض قال الشاعر:

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا

عليكم إذا ما كان يوم قماطر

قيل إن هل هنا بمعنى قد قال الشاعر:

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته

إثر الأحبة يوم البين مشكوم

الإعراب:

﴿لم يكن شيئا﴾ جملة في محل الرفع لأنها صفة حين والتقدير لم يكن فيه شيئا مذكورا وأمشاج يجوز أن يكون صفة لنطفة ويجوز أن يكون بدلا والوصف بالجمع مثل قولهم برمة أعشار وثوب أسمال ونبتليه في موضع نصب على الحال.

﴿إما شاكرا وإما كفورا﴾ حالان من الهاء في هديناه أي هديناه شاكرا أو كفورا وقوله ﴿عينا﴾ في انتصابه وجوه (أحدها) أن يكون بدلا من كافورا إذا جعلت الكافور اسم عين فيكون بدل الكل من الكل (والثاني) أن يكون بدلا من قوله ﴿من كأس﴾ أي يسقون من عين ثم حذف الجار فوصل الفعل إليه فنصبه (والثالث) أن يكون منصوبا على المدح والتقدير أعني عينا يشرب بها الباء مزيدة أي يشربها والمعنى يشرب ماؤها لأن العين لا تشرب وإنما يشرب ماؤها.

النزول:

قد روى الخاص والعام أن الآيات من هذه السورة وهي قوله ﴿إن الأبرار يشربون﴾ إلى قوله ﴿وكان سعيكم مشكورا﴾ نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام) وجارية لهم تسمى فضة وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وأبي صالح.

والقصة طويلة:

جملتها أنهم قالوا مرض الحسن والحسين (عليهما السلام) فعادهما جدهما (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجوه العرب وقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله سبحانه ونذرت فاطمة (عليها السلام) كذلك وكذلك فضة فبرءا وليس عندهم شيء فاستقرض علي (عليه السلام) ثلاثة أصوع من شعير من يهودي وروي أنه أخذها ليغزل له صوفا وجاء به إلى فاطمة (عليها السلام) فطحنت صاعا منها فاختبزته وصلى علي المغرب وقربته إليهم فأتاهم مسكين يدعو لهم وسألهم فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الثاني أخذت صاعا فطحنته وخبزته وقدمته إلى علي (عليه السلام) فإذا يتيم في الباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته واختبزته وقدمته إلى علي (عليه السلام) فإذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه ولم يذوقوا إلا الماء فلما كان اليوم الرابع وقد قضوا نذورهم أتى علي (عليه السلام) ومعه الحسن والحسين (عليهما السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبهما ضعف فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزل جبرائيل (عليه السلام) بسورة هل أتى وفي رواية عطاء عن ابن عباس أن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) آجر نفسه ليستقي نخلا بشيء من شعير ليلة حتى أصبح فلما أصبح وقبض الشعير طحن ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه يقال له الحريرة فلما تم إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ثم عمل الثلث الثالث فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومهم ذلك ذكره الواحدي في تفسيره وذكر علي بن إبراهيم أن أباه حدثه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كان عند فاطمة شعير فجعلوه عصيدة فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال المسكين رحمكم الله فقام علي فأعطاه ثلثها فلم يلبث أن جاء يتيم فقال اليتيم رحمكم الله فقام علي (عليه السلام) فأعطاه الثلث ثم جاء أسير فقال الأسير رحمكم الله فأعطاه علي (عليه السلام) الثلث الباقي وما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم وهي جارية في كل مؤمن فعل ذلك لله عز وجل وفي هذا دلالة على أن السورة مدنية وقال أبو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني الحسن بن الحسن أبو عبد الله بن الحسن أنها مدنية نزلت في علي وفاطمة السورة كلها حدثنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القايني قال أخبرنا الحاكم أبو القسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال حدثنا أبو نصر المفسر قال حدثني عمي أبو حامد إملاء قال حدثني الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمد المقري قال حدثنا محمد بن يزيد السلمي قال حدثنا زيد بن موسى قال حدثنا عمرو بن هارون عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس قال أول ما أنزل بمكة (اقرأ باسم ربك) ثم (ن والقلم) ثم (المزمل) ثم (المدثر) ثم (تبت) ثم (إذا الشمس كورت) ثم (سبح اسم ربك الأعلى) ثم (والليل إذا يغشى) ثم (والفجر) ثم (والضحى) ثم (ألم نشرح) ثم (والعصر) ثم (والعاديات) ثم (إنا أعطيناك الكوثر) ثم (ألهيكم التكاثر) ثم (أرأيت) ثم (الكافرون) ثم (ألم تر كيف) ثم (قل أعوذ برب الفلق) ثم (قل أعوذ برب الناس) ثم (قل هو الله أحد) ثم (والنجم) ثم (عبس) ثم (إنا أنزلناه) ثم (والشمس) ثم (البروج) ثم (والتين) ثم (لإيلاف) ثم (القارعة) ثم (القيامة) ثم (الهمزة) ثم (والمرسلات) ثم (ق).

ثم (لا أقسم بهذا البلد) ثم (الطارق) ثم (اقتربت الساعة) ثم (ص) ثم (الأعراف) ثم (قل أوحي) ثم (يس) ثم (الفرقان) ثم (الملائكة) ثم (كهيعص) ثم (طه) ثم (الواقعة) ثم (الشعراء) ثم (النمل) ثم (القصص) ثم (بني إسرائيل) ثم (يونس) ثم (هود) ثم (يوسف) ثم (الحجر) ثم (الأنعام) ثم (الصافات) ثم (لقمان) ثم (القمر) ثم (سبأ) ثم (الزمر) ثم (حم المؤمن) ثم (حم السجدة) ثم (حمعسق) ثم (الزخرف) ثم (الدخان) ثم (الجاثية) ثم (الأحقاف) ثم (الذاريات) ثم (الغاشية) ثم (الكهف) ثم (النحل) ثم (نوح) ثم (إبراهيم) ثم (الأنبياء) ثم (المؤمنون) ثم (الم تنزيل) ثم (الطور) ثم (الملك) ثم (الحاقة) ثم (ذو المعارج) ثم (عم يتساءلون) ثم (النازعات) ثم (انفطرت) ثم (انشقت) ثم (الروم) ثم (العنكبوت) ثم (المطففين) فهذه أنزلت بمكة وهي خمس وثمانون سورة ثم أنزلت بالمدينة (البقرة) ثم (الأنفال) ثم (آل عمران) ثم (الأحزاب) ثم (الممتحنة) ثم (النساء) ثم (إذا زلزلت) ثم (الحديد) ثم سورة (محمد) ثم (الرعد) ثم سورة (الرحمن) ثم (هل أتى) ثم (الطلاق) ثم (لم يكن) ثم (الحشر) ثم (إذا جاء نصر الله) ثم (النور) ثم (الحج) ثم (المنافقون) ثم (المجادلة) ثم (الحجرات) ثم (التحريم) ثم (الجمعة) ثم (التغابن) ثم سورة (الصف) ثم سورة (الفتح) ثم سورة (المائدة) ثم سورة (التوبة) فهذه ثمان وعشرون سورة وقد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس في كتاب الإيضاح وزاد فيه وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة وبإسناده عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن البصري إن أول ما أنزل الله من القرآن بمكة على الترتيب (اقرأ باسم ربك ون والمزمل) إلى قوله وما نزل بالمدينة (ويل للمطففين) (والبقرة والأنفال وآل عمران والأحزاب والمائدة والممتحنة والنساء وإذا زلزلت والحديد وسورة محمد) (صلى الله عليه وآله وسلم) (والرعد والرحمن وهل أتى على الإنسان) إلى آخره وبإسناده عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال سألت النبي عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء فأول ما نزل عليه بمكة (فاتحة الكتاب) ثم (اقرأ باسم ربك) ثم (ن) إلى أن قال وأول ما نزل بالمدينة سورة (البقرة) ثم (الأنفال) ثم (آل عمران) ثم (الأحزاب) ثم (الممتحنة) ثم (النساء) ثم (إذا زلزلت) ثم (الحديد) ثم (سورة محمد) ثم (الرعد) ثم (سورة الرحمن) ثم (هل أتى) إلى قوله فهذا ما أنزل بالمدينة ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة وجميع آيات القرآن ستة آلاف آية ومائتا آية وست وثلاثون آية وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف واحد وعشرون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفا لا يرغب في تعلم القرآن إلا السعداء ولا يتعهد قراءته إلا أولياء الرحمن (أقول) قد اتسع نطاق الكلام في هذا الباب حتى كاد يخرج عن أسلوب الكتاب وربما نسبنا به إلى الإطناب ولكن الغرض فيه أن بعض أهل العصبية قد طعن في هذه القصة بأن قال هذه السورة مكية فكيف يتعلق بها ما كان بالمدينة واستدل إيضاح الحق في ذلك وإيراد البرهان في معناه وكشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه على أنه كما ترى يحتوي على السر المخزون والدر المكنون من هذا العلم الذي يستضاء بنوره ويتلألأ بزهوره وهو معرفة ترتيب السور في التنزيل وحصر عددها على الجملة والتفصيل اللهم أمددنا بتأييدك وأيدنا بتوفيقك فأنت الرجاء والأمل وعلى فضلك المعول والمتكل.

المعنى:

﴿هل أتى﴾ معناه قد أتى ﴿على الإنسان﴾ أي أ لم يأت على الإنسان ﴿حين من الدهر﴾ وقد كان شيئا إلا أنه ﴿لم يكن شيئا مذكورا﴾ لأنه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح عن الزجاج وعلى هذا فهل هنا استفهام يراد به التقرير قال الجبائي وهو تقرير على ألطف الوجوه وتقديره أيها المنكر للصانع وقدرته أليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا ثم ذكرت وكل أحد يعلم من نفسه أنه لم يكن موجودا ثم وجد فإذا تفكر في ذلك علم أن له صانعا صنعه ومحدثا أحدثه والمراد بالإنسان هنا آدم (عليه السلام) وهو أول من سمي به عن الحسن وقتادة وسفيان والجبائي وقيل إن المراد به كل إنسان والألف واللام للجنس عن أبي مسلم وقيل أنه أتى على آدم (عليه السلام) أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسدا ملقى من طين قبل أن ينفخ فيه الروح وروى عطاء عن ابن عباس أنه تم خلقه بعد عشرين ومائة سنة وروى العياشي بإسناده عن عبد الله بن بكير عن زرارة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله ﴿لم يكن شيئا مذكورا﴾ قال كان شيئا ولم يكن مذكورا وبإسناده عن سعيد الحداد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال كان مذكورا في العلم ولم يكن مذكورا في الخلق وعن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله وعن حمران بن أعين قال سألت عنه فقال كان شيئا مقدورا ولم يكن مكونا وفي هذا دلالة على أن المعدوم معلوم وإن لم يكن مذكورا وإن المعدوم يسمى شيئا فإذا حملت الإنسان على الجنس فالمراد أنه قبل الولادة لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من هو وما يراد به بل يكون معدوما ثم يوجد في صلب أبيه ثم في رحم أمه إلى وقت الولادة وقيل المراد به العلماء لأنهم كانوا لا يذكرون فصيرهم الله سبحانه بالعلم مذكورين بين الخاص والعام في حياتهم وبعد مماتهم وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقرأ هذه الآية فقال ليت ذلك ثم يعني ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده ثم قال سبحانه ﴿إنا خلقنا الإنسان﴾ يعني ولد آدم (عليه السلام) ﴿من نطفة﴾ وهي ماء الرجل والمرأة الذي يخلق منه الولد ﴿أمشاج﴾ أي أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة في الرحم فأيهما علا ماء صاحبه كان الشبه له عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقيل أمشاج أطوار طورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة وطورا عظاما إلى أن صار إنسانا عن قتادة وقيل أراد اختلاف ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء فهي مختلفة الألوان عن مجاهد والضحاك والكلبي وروي أيضا عن ابن عباس وقيل نطفة مشجت بدم الحيض فإذا حبلت ارتفع الحيض عن الحسن وقيل هي العروق التي تكون في النطفة عن ابن مسعود وقيل أمشاج أخلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة جعلها الله في النطفة ثم بناه الله البنية الحيوانية المعدلة الأخلاط ثم جعل فيه الحياة ثم شق له السمع والبصر فتبارك الله رب العالمين وذلك قوله ﴿فجعلناه سميعا بصيرا﴾ وقوله ﴿نبتليه﴾ أي نختبره بما نكلفه من الأفعال الشاقة ليظهر إما طاعته وإما عصيانه فنجازيه بحسب ذلك قال الفراء معناه ﴿فجعلناه سميعا بصيرا﴾ لنبتليه أي لنتعبده ونأمره وننهاه والمراد فأعطيناه آلة السمع والبصر ليتمكن من السمع والبصر ومعرفة ما كلف ﴿إنا هديناه السبيل﴾ أي بينا له الطريق ونصبنا له الأدلة وأزحنا له العلة حتى يتمكن من معرفة الحق والباطل وقيل هو طريق الخير والشر عن قتادة وقيل السبيل هو طريق معرفة الدين الذي به يتوصل إلى ثواب الأبد ويلزم كل مكلف سلوكه وهو أدلة العقل والشرع التي يعم جميع المكلفين ﴿إما شاكرا وإما كفورا﴾ قال الفراء معناه أن شكر وأن كفر على الجزاء وقال الزجاج معناه ليختار إما السعادة وإما الشقاوة والمراد إما أن يختار بحسن اختياره الشكر لله تعالى والاعتراف بنعمه فيصيب الحظ وإما أن يكفر نعم الله ويجحد إحسانه فيكون ضالا عن الصواب فأيهما اختار جوزي عليه بحسبه وهذا كقوله ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ وفي هذه الآية دلالة على أن الله قد هدى جميع خلقه لأن اللفظ عام ثم بين سبحانه ما أعده للكافرين فقال ﴿إنا أعتدنا للكافرين﴾ أي هيأنا وادخرنا لهم جزاء على كفرانهم وعصيانهم ﴿سلاسل﴾ يعني في جهنم كما قال في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ﴿وأغلالا وسعيرا﴾ نار موقدة نعذبهم بها ونعاقبهم فيها ثم ذكر ما أعده للشاكرين المطيعين فقال ﴿إن الأبرار﴾ وهو جمع البر المطيع لله المحسن في أفعاله وقال الحسن هم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون الشر وقيل هم الذين يقضون الحقوق اللازمة والنافلة وقد أجمع أهل البيت (عليهم السلام) وموافقوهم وكثير من مخالفيهم إن المراد بذلك علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام) والآية مع ما بعدها متعينة فيهم وأيضا فقد انعقد الإجماع على أنهم كانوا أبرارا وفي غيرهم خلاف ﴿يشربون من كأس﴾ إناء فيه شراب ﴿كان مزاجها﴾ أي ما يمازجها ﴿كافورا﴾ وهو اسم عين ماء في الجنة عن عطاء والكلبي واختاره الفراء قال ويدل عليه قوله ﴿عينا﴾ وهي كالمفسرة للكافور وقيل يعني الكافور الذي له رائحة طيبة والمعنى يمازجه ريح الكافور وليس ككافور الدنيا عن مجاهد ومقاتل قال قتادة يمزج بالكافور ويختم بالمسك وقيل معناه طيب بالكافور والمسك والزنجبيل عن ابن كيسان ﴿عينا يشرب بها عباد الله﴾ أي أولياؤه عن ابن عباس أي هذا الشراب من عين يشرب بها أولياء الله وخصهم بأنهم عباد الله تشريفا وتبجيلا قال الفراء شربها وشرب بها سواء في المعنى كما يقولون تكلمت بكلام حسن وكلاما حسنا قال عنترة:

شربت بماء الدحرضين فأصبحت

عسرا علي طلابها ابنة مخرم

وأنشد الفراء:

شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج

﴿يفجرونها تفجيرا﴾ أي يقودون تلك العين حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم عن مجاهد والتفجير تشقيق الأرض بجري الماء قال وأنهار الجنة تجري بغير أخدود فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خط خطا فينبع الماء من ذلك الموضع ويجري بغير تعب ثم وصف سبحانه هؤلاء الأبرار فقال ﴿يوفون بالنذر﴾ أي كانوا في الدنيا بهذه الصفة والإيفاء بالنذر هو أن يفعل ما نذر عليه فإذا نذر طاعة تممها ووفى بها عن مجاهد وعكرمة وقيل يتمون ما فرض الله عليهم من الواجبات عن قتادة ﴿ويخافون يوما كان شره مستطيرا﴾ أي فاشيا منتشرا ذاهبا في الجهات بلغ أقصى المبالغ وسمي العذاب شرا لأنه لا خير فيه للمعاقبين وإن كان في نفسه حسنا لكونه مستحقا وقيل المراد بالشر هنا أهوال يوم القيامة وشدائده ﴿ويطعمون الطعام على حبه﴾ أي على حب الطعام والمعنى يطعمون الطعام أشد ما تكون حاجتهم إليه وصفهم الله سبحانه بالأثرة على أنفسهم وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلا أطعمه الله من ثمار الجنة وما من مسلم كسا أخاه على عري إلا كساه الله من خضر الجنة ومن سقى مسلما على ظمإ سقاه الله من الرحيق قال ابن عباس يطعمون الطعام على شهوتهم له ومحبتهم إياه وقيل الهاء كناية عن الله تعالى أي يطعمون الطعام على حب الله ﴿مسكينا﴾ وهو الفقير الذي لا شيء له ﴿ويتيما﴾ وهو الذي لا والد له من الأطفال ﴿وأسيرا﴾ وهو المأخوذ من أهل دار الحرب عن قتادة وقيل هو المحبوس من أهل القبلة عن مجاهد وسعيد بن جبير وقيل الأسير المرأة ﴿إنما نطعمكم لوجه الله﴾ أي لطلب رضا الله خالصا لله مخلصا من الرياء وطلب الجزاء وهو قوله ﴿لا نريد منكم جزاء ولا شكورا﴾ وهو مصدر مثل القعود والجلوس وقيل إنهم لم يتكلموا بذلك ولكن علم الله سبحانه ما في قلوبهم فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك الراغب عن سعيد بن جبير ومجاهد والمراد لا نطلب بهذا الطعام مكافاة عاجلة ولا نريد أن تشكرونا عليه عند الخلق بل فعلناه لله ﴿إنا نخاف من ربنا يوما﴾ أي عذاب يوم ﴿عبوسا﴾ أي مكفهرا تعبس فيه الوجوه ووصف اليوم بالعبوس توسعا لما فيه من الشدة وهذا كما يقال يوم صائم وليل قائم قال ابن عباس يعبس فيه الكافر حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ﴿قمطريرا﴾ أي صعبا شديدا عن أبي عبيدة والمبرد وقال الحسن سبحان الله ما أشد اسمه وهو من اسمه أشد وقيل القمطرير الذي يقلص الوجوه ويقبض الجباه وما بين الأعين من شدته عن قتادة.